نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب حمدى عبدالرحمن، تناول فيه أبرز التوجهات الأمنية والجيوسياسية التى من المرجح أن تهيمن على منطقة الساحل الأفريقى فى عام 2024... نعرض من المقال ما يلى:
شهد عام 2023 تحولات كبرى فى منطقة الساحل أفضت إلى إعادة صياغة الخريطة الجيوسياسية وطبيعة التحالفات الإقليمية والدولية فى المنطقة. ويحاول هذا المقال استشراف أهم الاتجاهات الأمنية والجيوسياسية فى تلك المنطقة الكبرى فى عام 2024.
شهدت المنطقة ثمانية انقلابات عسكرية فى السنوات الثلاث الماضية، وهو ما يجعل من السهولة بمكان التنبؤ بمزيد من «عدوى الانقلابات» فى عام 2024. فقد رحبت الجماهير عموما بالقادة العسكريين، وكانت الاستجابات الإقليمية والدولية غير فعالة. وتظهر العديد من البلدان نقاط ضعف تجعلها أهدافا محتملة للانقلابات، مثل: الكاميرون، إذ يتسم نظام الرئيس بول بيا، البالغ من العمر 90 عاما بالعجز الواضح على نحو متزايد بسبب الخصومات والانقسامات الداخلية. وفى حين عمل بيا جاهدا من أجل «تحصين» نظامه من الانقلابات، فإن المخاوف الصحية أو العجز الدائم من شأنه أن يترك فراغا فى السلطة سوف يدفع بالعسكريين إلى ملئه.
وفى عام 2024، من المرجح أن يكون التهديد بالانقلاب هو الأعلى فى البلدان الخاضعة بالفعل لمجالس حكم عسكرية، ومن غير المرجح أن تؤدى أى انتخابات إلى انتقال سياسى حقيقى للسلطة وعودة العسكريين إلى ثكناتهم. ويبدو أن المجالس العسكرية غير مستقرة على نحو متزايد فى كل من بوركينا فاسو والنيجر ومالى، الأمر الذى دفع هذه الدول الثلاث إلى التوقيع على وثيقة ليبتاكو ــ جورما فى 16 سبتمبر 2023. وسيكون هذا التحالف بمثابة مزيج من الجهود العسكرية والاقتصادية بين هذه الدول.
ومن الملاحظ أن الانقلابات الأخيرة فى مختلف دول الساحل الإفريقى تشترك فى قضايا أساسية عامة، وهى على النحو التالى:
أولا: ما تزال هشاشة أنظمة الحكم، التى شكلتها فترات طويلة من الحكم الاستعمارى وما تلاها من أنظمة ما بعد الاستعمار التسلطية، سائدة فى معظم بلدان المنطقة. وإن نجحت بعض الدول الإفريقية فى الانتقال إلى ديمقراطيات تعددية، فإن أولئك الذين يعانون من خطر الانقلابات غالبا ما يحتفظون بالسلطة داخل نخب حاكمة محدودة، تجمعها روابط داخلية أو انتماءات خارجية.
ثانيا: ظهر جيل جديد من القادة الشعبويين الشباب فى القارة الإفريقية، كما رأينا فى مالى، إذ تقل أعمار نصف السكان تقريبا عن 14 عاما. وقد استغل هؤلاء القادة ثورة الإحباطات المتزايدة لدى الشباب نتيجة عدم حصولهم على فرص أفضل، للوصول إلى السلطة غلابا.
وعلى الرغم من الاستثمارات المالية الكبيرة، فقد أدى النهج الأجنبى فى المقام الأول إلى تعزيز القدرات العسكرية للجيوش الوطنية دون معالجة الأسباب الجذرية للتمرد والاستياء العام من ضعف الإنجاز وغياب عوائد التنمية.
من المرجح أن تظل منطقة الساحل الإفريقى مركز ثقل للجماعات الجهادية المرتبطة بتنظيمى داعش والقاعدة، بما فى ذلك جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وولاية الساحل الإسلامية، وولاية غرب إفريقيا الإسلامية، مستغلة فرصة عدم الاستقرار السياسى والأمنى ووجود مساحات شاسعة غير خاضعة للحكم.
سيستمر التشدد فى جميع أنحاء مالى والنيجر وبوركينا فاسو فى عام 2024. وسيعمل المسلحون على تعميق موطئ قدمهم الإقليمى وتوسيع عملياتهم وشبكاتهم نحو دول أخرى فى غرب إفريقيا. ومن المتوقع أن يتصاعد الفراغ الأمنى فى المنطقة الحدودية بين الدول الثلاث، إذ يبدو أن المجالس العسكرية غير قادرة على سد الفجوة التى خلفها رحيل القوات الدولية فى عام 2022. ومن خلال إعطاء الأولوية للرد العنيف، ستؤدى تصرفات الجيوش إلى تكثيف استهداف المدنيين والتوترات الطائفية. ومع تشتيت انتباه المجالس العسكرية بسبب التحديات الداخلية، ستستمر الجماعات المسلحة فى التوسع نحو مناطق جديدة، مما يخلق بؤرا ساخنة جديدة للتشدد، بما فى ذلك شمال بنين وتوجو وجنوب غرب مالى وربما جنوب النيجر.
هناك اتجاه مهم آخر يجب مراقبته فى منطقة الساحل فى عام 2024 وهو تصاعد المشاعر المعادية لفرنسا. فقد أسهمت العوامل الاقتصادية وانعدام الأمن والمظالم التاريخية فى تزايد انعدام الثقة فى التدخل الأجنبى، خاصة من قبل فرنسا. والآن أصبحت استجابة المنطقة للانقلابات العسكرية متأثرة بالمشاعر المعادية لفرنسا، وسوف تشكل معالجة هذه المشاعر أهمية بالغة للحفاظ على الاستقرار. وتضيف جهود الدول الغربية لمواجهة النفوذ الروسى فى منطقة الساحل مزيدا من التعقيد فى المشهد الجيوسياسى. فالاستغلال المحتمل للتحديات الاقتصادية والمشاعر المعادية لفرنسا من قبل ضباط الجيش يمكن أن يؤدى إلى مزيد من عدم الاستقرار السياسى، مما يستلزم إعادة النظر فى المقاربات الأمنية الدولية فى المنطقة.
وعلى الرغم من ذلك ما تزال فرنسا موجودة فى الساحل إذ لديها قوات عسكرية فى تشاد وبعض دول غرب إفريقيا مثل: كوت ديفوار والجابون والسنغال، كما أن هناك الفرنك الفرنسى ونحو 60% من المتحدثين بالفرنسية يقطنون فى إفريقيا. بيد أن النقطة الفاصلة والتى سوف تظهر ملامحها فى عام 2024 تتمثل فى إعادة صياغة العلاقات الفرنسية الإفريقية بعيدا عن منظور رابطة «فرانس أفريك» ــ وهو مصطلح تفوح منه رائحة النفوذ الأبوى وعقد الصفقات الفاسدة بين النخب.
يعكس التدافع على النفوذ فى منطقة الساحل فى عام 2024 تفاعلا معقدا بين المنافسة الدولية، فى ظل عودة الانقلابات العسكرية وإعادة التنظيم الاستراتيجى للقوى العالمية. وقد واجهت فرنسا تحديات كبرى إذ تأثر وجودها العسكرى بالانقلابات، مما أدى إلى انسحاب قواتها وخسارة الشراكات الاستراتيجية. ومن ناحية أخرى، تبرز روسيا كفائز كبير، مستفيدة من نهج القوة الناعمة والاستياء المتزايد من السياسات الغربية. ويسهم موقف موسكو بعدم التدخل فى زيادة نفوذها فى منطقة الساحل. وتعكس الصين استراتيجية مماثلة، إذ تضع نفسها كأكبر مستثمر أجنبى فى إفريقيا وتكتسب السيطرة على سوق النفط فى منطقة الساحل من خلال الاستثمارات الاستراتيجية فى تشاد والنيجر.
تظل منطقة الساحل نقطة عبور رئيسية للمهاجرين والمهاجرات من إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى الدول الساحلية الشمالية ثم إلى أوروبا. ومن الممكن أن يؤدى المزيد من العنف إلى زيادة كبيرة فى معدل النزوح والهجرة من المنطقة، مما يؤدى إلى تفاقم الضغوط على الدول الإفريقية الشمالية والساحلية وأوروبا.
من غير المرجح أن يكون للاستراتيجيات المعتمدة حاليا فى منطقة الساحل تأثير فورى، لأن تحقيق الاستقرار يتطلب اتخاذ تدابير مستمرة ومستدامة، وتظهر فعاليتها على المدى المتوسط والطويل. وعليه فإن الهجرة إلى الشمال أصبحت بالفعل ظاهرة مستمرة ولن تتوقف عن التزايد فى السنوات المقبلة، لذا يتعين على بلدان المغرب العربى أن تواصل وتكثف جهودها للحد من الآثار السلبية المحتملة للهجرة.
أحد الاتجاهات المستقبلية فى منطقة الساحل فى عام 2024 يرتبط بالديناميكيات المتطورة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا «الإيكواس» والتعاون الإقليمى. لقد كشف رد الفعل على انقلاب النيجر عن انقسامات عميقة داخل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، إذ دعت الدول الساحلية إلى التدخل بينما رفضت الدول الثلاث الحبيسة، مالى وبوركينا فاسو والنيجر، مثل هذا التدخل. علاوة على ذلك، تسببت العقوبات التى فرضتها «الإيكواس» فى صعوبات كبيرة فى النيجر، مع وصول تداعيات سلبية شديدة الوطأة على المجتمعات الحدودية فى نيجيريا المجاورة.
ختاما، تعد أزمة الساحل واحدة من أخطر الأزمات فى العالم، ولكنها الأكثر إهمالا. وفى الآونة الأخيرة، تدهور الوضع بشكل كبير إذ أثبتت المنطقة أنها أرض خصبة للصراع والعنف. ومن المرجح أن يتزايد الصراع فى هذه المنطقة، ولاسيما مع تمدد الجماعات المتطرفة المختلفة مثل: بوكو حرام وتنظيم القاعدة والجماعات المرتبطة بتنظيم داعش.