أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

الطقس الجامح:

دروس استباقية لمواجهة مخاطر "النينو" على الاقتصاد العالمي

03 أغسطس، 2023


ينتظر العالم مزيداً من ارتفاعات درجة الحرارة وتغيرات حادة في أنماط الطقس خلال الأعوام الخمسة المقبلة؛ بسبب ظاهرة مناخية قوية تُسمى "النينو" (El Niño). فقد أصدرت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية تقريراً بشأن حالة المناخ العالمية، في مايو 2023، حذرت فيه من تزايد احتمالات حدوث ظاهرة "النينو" خلال النصف الثاني من العام الجاري، مما سيكون له تأثيرات عكسية في أنماط الطقس والمناخ في العديد من المناطق حول العالم، ومن المُرجَّح أن تؤدي الظاهرة إلى مزيد من الارتفاع في درجات الحرارة العالمية.

ماهية "النينو":

تُعرف "النينو" بأنها تغير عنيف في درجة حرارة الجزء الشرقي من المحيط الهادئ على طول خط الاستواء، وهي تحدث بشكل روتيني نتيجة لتغير مؤقت في مناخ المنطقة الاستوائية بالمحيط الهادئ. وهذا ما يُحدِث بدوره تأثيرات متباينة في مناطق كثيرة في أنحاء العالم، ويُزيد من ارتفاع درجات الحرارة، فضلاً عن حدوث موجات من الجفاف وحرائق الغابات في بعض المناطق، وأمطار غزيرة وسيول وفيضانات في مناطق أخرى.

وعادةً ما تستمر نوبات "النينو" من 9 أشهر إلى 12 شهراً، وتمتد تأثيراتها إلى فترات زمنية أطول بعد تلك المدة، وتميل إلى التطور خلال فصل الربيع (مارس - يونيو)، وتصل إلى ذروة الشدة خلال أواخر الخريف والشتاء (نوفمبر - فبراير). وهناك فرصة لتطور الظاهرة بنسبة احتمالية 94% خلال الفترة (سبتمبر – نوفمبر)، وتستمر هذه الاحتمالية حتى بداية عام 2024.

وعلى الرغم من أن نوبات "النينو" ظاهرة طبيعية متكررة الحدوث منذ آلاف السنين، فقد صارت أكثر تواتراً وكثافة نتيجة تغير المناخ، والذي يؤثر في الظواهر المُصاحبة لها، فتزداد حدة نوبات الطقس المتطرفة/ الجامحة (Extreme Weather Events) مما يؤثر في مختلف الأنشطة البشرية.

موجة عنيفة:

شهدت العقود القليلة الماضية نوبات عنيفة من ظاهرة "النينو" خلال سنوات (1972/ 1973)، و(1982/ 1983)، و(1997/ 1998)، وكان آخرها عام (2015/ 2016)، حيث سجل حينها عام 2016 أعلى مستويات لدرجة حرارة الأرض؛ بسبب مزيج من ظاهرة "النينو" القوية وانبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري وتغير المناخ. ومن ثم فإن الاحتمالات المتزايدة لحدوث الظاهرة خلال نهاية العام الجاري ستظهر آثارها في 2024. وعلى الرغم من تباين شدة "النينو" والظواهر المصاحبة لها من موجة إلى أخرى، فإن تأثيراتها في توزيعات سقوط الأمطار حول العالم تبقى شبه ثابتة.

وأكد تقرير حالة المناخ العالمية الصادر عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، في مايو الماضي، ارتفاع المتوسط السنوي لدرجة الحرارة العالمية للفترة (2023 – 2027) عن المعدلات السابقة، وأنه من المتوقع بنسبة (98%) أن تشهد تلك الفترة تسجيل رقم جديد لأعلى مستويات لدرجة حرارة الأرض يفوق الرقم المُسجل عام 2016، ومن المحتمل أيضاً أن يكون متوسط السنوات الخمس للفترة (2023 - 2027) أعلى من نظيرتها الخمس الماضية (2018 - 2022)، وأن تكون مستويات درجة حرارة القطب الشمالي أعلى بثلاث مرات من المتوسط العالمي خلال العقد الماضي.

وبالفعل شهد العالم أسخن يوم في درجات الحرارة يُسجل على الإطلاق في شهر يوليو 2023، وهو ما حطم الرقم القياسي العالمي لمتوسط درجة الحرارة الذي سُجل عام 2016. إذ ارتفع متوسط درجة الحرارة العالمية عن 17 درجة مئوية لأول مرة، ليصل إلى 17.8 درجة مئوية في 6 يوليو الجاري، وذلك وفقاً لخدمة رصد المناخ في الاتحاد الأوروبي "كوبرنيكوس".


خسائر كبيرة:

يتوقع العلماء أن تكون هذه النوبة من "النينو" من أقوى وأشد نوبات الظاهرة والتي تُكلِّف الاقتصاد العالمي الكثير من الخسائر الفادحة بسبب نوبات الطقس الجامحة التي تعقب "النينو" وتمتد آثارها لسنوات. إذ تُقدِّر دراسة حديثة صادرة في 18 مايو 2023 عن "كلية دارتموث بجامعة نيو هامبشاير الأمريكية" تحت عنوان: "التأثير المستمر لظاهرة النينو في النمو الاقتصادي العالمي"، أن الظاهرة التي تبدأ خلال النصف الثاني من العام الجاري قد تُكلِّف الاقتصاد العالمي ما يصل إلى 3.4 تريليون دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة (من 2024 حتى 2029)، وذلك على غرار ما شهده العالم بعد حدثين سابقين قويين لـ"النينو" في (1982/ 1983)، حيث شهدت السنوات الخمس اللاحقة آنذاك خسائر للاقتصاد العالمي قُدِّرت بنحو 4.1 تريليون دولار. وتكرَّر هذا السيناريو أيضاً في (1997/ 1998)، حيث شهدت السنوات الخمس اللاحقة لها خسائر للاقتصاد العالمي قُدِّرت حينها بنحو 5.7 تريليون دولار.

ووفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، فإن ارتفاع درجات الحرارة من شأنه أن يتسبب في الحد من سلامة الأغذية من خلال زيادة الأمراض المنقولة عبر الأغذية والمياه، ونقل الآفات النباتية إلى مناطق جديدة ما قد يؤدي إلى فرط في استخدام مبيدات الآفات، وزيادة امتصاص المعادن الثقيلة السامة في المحاصيل الأساسية، والإضرار بسلامة الأغذية البحرية على نطاق واسع، وانتشار الإصابات الفطرية في النباتات.

كما أصدرت وحدة الاستخبارات الاقتصادية التابعة لمجلة "الإيكونوميست" أخيراً، تقريراً حذرت فيه من تفاقم ضغوط الأمن الغذائي في إفريقيا بسبب ظاهرة "النينو"، حيث تواجه العديد من الدول الإفريقية - بالفعل - مخاطر انعدام الأمن الغذائي المتزايد، وتُزِيد الظاهرة القوية من المخاطر السلبية الكبيرة على الإمدادات الغذائية الإقليمية، ومن ثم تأثيرها في التضخم والنزوح والاستقرار الاجتماعي. وأشار التقرير إلى ازدياد احتمالات مخاطر الجفاف؛ نتيجة انخفاض معدلات هطول الأمطار خاصة على دول غرب وجنوب إفريقيا وأجزاء من وسط وشرق إفريقيا، وتعتمد تلك الدول - بشكل كبير - على الأمطار في الإنتاج الزراعي والحيواني. بينما ترتفع فرص سقوط الأمطار الغزيرة في مناطق شرق إفريقيا (الصومال وجيبوتي وكينيا وتنزانيا)، وقد تكون تلك الأمطار الغزيرة مفيدة للآفاق الزراعية في تلك المنطقة خاصة بعد تفاقم أزمة الجفاف منذ عام 2020، إلا أن حدة نوبات الطقس الجامحة قد تزيد من مخاطر الفيضانات وما يُمكن أن تُسبِّبه من خسائر ودمار وتلف المحاصيل الزراعية في تلك الدول.

وتتوقع الإدارة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA)، أن تكون ظاهرة "النينو" القادمة من الموجات القوية (بنسبة احتمالية 84%)، حيث صارت الظاهرة أكثر تواتراً وحدةً نتيجة تغير المناخ، وشهد عاما (2015/ 2016) آخر موجة قوية لـ"النينو" وكانت منطقة جنوب وجنوب غرب إفريقيا أكثر المناطق تضرراً في إفريقيا، خاصة سكان الريف. كما تتوقع أن تكون ذروة تأثيرات "النينو" خلال شهري نوفمبر وديسمبر 2023، بالتزامن مع زراعة المحاصيل وبداية الرياح الموسمية في منطقة الجنوب الإفريقي، وقياساً على ما حدث في (2015/ 2016)؛ إذ تعرضت المنطقة في نوفمبر 2015 لأسوأ موجة جفاف منذ أكثر من ثلاثة عقود، مما جعلها تعاني عجزاً في الحبوب بلغ نحو 9.3 مليون طن بعد الحصاد الرئيسي خلال الفترة اللاحقة (إبريل ومايو 2016)، وهو ما أدى إلى تضاعف عدد السكان الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي إلى أكثر من 40 مليوناً بحلول منتصف عام 2016.

وتعاني منطقة الجنوب الإفريقي – بالفعل – من أوضاع هشة نتيجة انخفاض إنتاج الحبوب؛ بسبب نقص الأمطار خلال موسم (2021/ 2022)، وارتفاع التضخم وأسعار الغذاء العام الماضي. وتُقدِّر منظمة "الفاو" أن حوالي 15.9 مليون شخص في جميع أنحاء المنطقة (باستثناء دولة جنوب إفريقيا) واجهوا انعدام الأمن الغذائي خلال الفترة من يناير إلى مارس 2023، ومع وجود نقاط ضعف موجودة مسبقاً، فإن دول تلك المنطقة ستكون في وضع ضعيف بشكل خاص يحد من قدرتها على التخفيف من صدمة "النينو" القوية المحتملة.

تجارب استباقية:

لا تزال تدابير التخفيف للتغلب على خطر ظاهرة "النينو"، غائبة إلى حد كبير في الكثير من الدول المتأثرة، خاصة في القارة الإفريقية، في الوقت الذي تشهد فيه دول آسيوية (مثل إندونيسيا والفلبين والهند) الإعلان عن تدابير تخفيف استباقية وتوسيع نطاق برامج المساعدة الإنسانية؛ بهدف الحد من خسائر المحاصيل والثروة الحيوانية في الأشهر المقبلة.

ففي إندونيسيا - التي عانت من تأثيرات ظاهرة "النينو" القوية عام 2015 وما أعقبها من حرائق غابات وحرائق في الأراضي الزراعية – حذر الرئيس الإندونيسي، جوكو ويدودو، من التداعيات المحتملة للظاهرة، مؤكداً ضرورة الأخذ في الاعتبار الدروس المُستفادة من الكارثة السابقة، وجاء ذلك خلال اجتماعه بمجلس الوزراء في مطلع شهر يوليو الجاري. كما حددت وكالة الأرصاد الجوية وعلوم المناخ والجيوفيزياء الإندونيسية، مواقع البؤر الساخنة (Hotspots) التي تُمثل نقاط مخاطر عالية بالنسبة للحرائق بسبب ارتفاع درجات الحرارة. كذلك وضعت إدارات الشرطة الإقليمية، لوحات إرشادية تحذر المزارعين، واتخذت إجراءات رقابية صارمة لمنعهم من القيام بإزالة الغطاء النباتي – بعد الحصاد - باستخدام أسلوب الحرق من أجل تهيئة الأرض للزراعة، والذي يُعد عاملاً لتسريع وتيرة حرائق الغابات والأراضي الزراعية في ظل المناخ الجاف والحرارة المرتفعة.

وفي الهند، تُحدث نوبات "النينو" القوية والمتوسطة خسائر كبيرة في إنتاج الحبوب الغذائية؛ نتيجة انخفاض معدلات وكميات مياه الأمطار وارتفاع درجات الحرارة. وعليه فقد أطلقت الهند برنامجاً للابتكار الوطني في مجال الزراعة المقاومة للمناخ، حيث يتم عرض التقنيات المقاومة للمناخ في 151 منطقة مُعرضة للمخاطر في البلاد، ويتم تحديد التقنيات الواعدة لكل منطقة، ونجحت تلك التقنيات في الحد من تأثير الموجات الحارة والجفاف في المحاصيل الاستراتيجية، خاصة القمح والأرز.

كما أعلنت الفلبين تبني منهج "الأمة بأكملها" (Whole-of-nation)، من أجل الاستعداد لمواجهة مخاطر ظاهرة "النينو"، وأعادت الحكومة تشكيل فريق الاستجابة لـ"النينو" بقيادة وزارة الداخلية والحكومة المحلية مع الوكالات الأعضاء الأخرى. وهذا الفريق مُكلف بصياغة خطة شاملة للتأهب للكوارث وإعادة التأهيل لمواجهة ظاهرة "النينو"، ورصد ومتابعة تنفيذ الخطة، وإطلاق حملة إعلامية واسعة النطاق، وكذلك تحديث خارطة الطريق الموسعة لمعالجة تأثير الظاهرة وللتركيز على مجالات الاهتمام مثل الأمن الغذائي والأمن المائي وأمن الطاقة والصحة والسلامة العامة.

استجابة محدودة: 

تُمثل المخاطر المناخية تهديداً مستمراً منذ سنوات، وما زالت تتصدر قائمة المخاطر التي يرصدها تقرير المخاطر العالمية (The Global Risks Report)، والذي أوضح - في نسخته الثامنة عشرة الصادرة عن المنتدى الاقتصادي العالمي في بداية 2023 – أن الكوارث الطبيعية وموجات الطقس الجامحة وفشل التخفيف من حدة تغير المناخ والتكيف معه، تأتي في مقدمة المخاطر والتهديدات العالمية للسنوات العشر المقبلة.

وعلى الرغم من وجود خطط لهدف عالمي يتعلق بالتكيف مع تغير المناخ - سيتم الاتفاق عليها في قمة المناخ القادمة بدولة الإمارات العربية المتحدة (كوب 28) - فإن التقدم نحو توفير الدعم المطلوب للسكان والبنى التحتية المتأثرة بالفعل بالتداعيات الناجمة عن تغير المناخ يُعد محدوداً. كما أن تمويل أنشطة التكيف مع التغيرات المناخية غير كافٍ، فالتمويل لمعالجة أزمة الأمن الغذائي لا يزال أقل بكثير من المستويات المطلوبة بالرغم من التعهدات والالتزامات الدولية.

ختاماً، صارت الظواهر المناخية، مثل "النينو"، أكثر شراسة وحدة، وتهدد الحياة البشرية والاقتصاد العالمي. وتُبرهن الخبرات الدولية الناجحة على أنه يمكن – وبشكل فعَّال – التقليل من تأثير التهديدات المناخية من خلال بناء نظم فعالة وناجحة للإنذار المبكر وبناء قدرات الاستعداد والاستجابة من خلال التركيز على نهج الحد من المخاطر وإدارتها.