أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

تجميد مرحلي:

لماذا لم تنجح التهدئة في تسوية صراعات الشرق الأوسط؟

26 أغسطس، 2022


تشهد الصراعات المُسلحة في منطقة الشرق الأوسط جولات من التهدئة تبدأ عادة بإقرار هدنة تفضي إلى توقف الأطراف المتصارعة عن عمليات القتال والتصعيد العسكري، وذلك من خلال الإعلان عن وقف إطلاق النار ودخوله حيز التنفيذ. وعلى الرغم من وضوح الهدف المُباشر والمُعلن لتلك الاتفاقات والمُتمثل في وقف الأعمال العسكرية بين الأطراف المُتناحرة، سواء بشكل مؤقت أو دائم، فإنها قد تكون مدفوعة بجملة من الأهداف الأخرى، وذلك وفقاً لمصلحة وحسابات كل طرف من الهدنة وعملية وقف إطلاق النار. بيد أنه تظل هناك عراقيل أو عقبات تحد من تحقيق الأهداف السلمية المُبتغاة من مثل هذه الاتفاقات.

حالات متنوعة:

تعيش منطقة الشرق الأوسط على وقع مشهد صراعي في عدد من الساحات على مدار سنوات عديدة من دون النجاح في تهيئة الأجواء لاستدامة الاستقرار في المنطقة. فمع أن الصراعات المُسلحة في سوريا وليبيا واليمن قد مرت بمراحل مختلفة من محاولات التهدئة، فإن القاسم المُشترك بينها أنها كانت تأخذ طابعاً مرحلياً أو مؤقتاً، بحيث ربما نجحت في تسكين أو تجميد الصراع من دون الانتقال للمرحلة التالية التي تُؤسس للسلام الدائم وتُنهي حالة الفوضى واللانظام التي سيطرت على المشهد في تلك الدول.

فعلى سبيل المثال، دخلت الهدنة في اليمن، التي تم الإعلان عنها في 2 أبريل 2022 شهرها الخامس في أعقاب تمديدها للمرة الثانية في 2 أغسطس 2022، وبذلك تصبح الهدنة في شكلها الحالي الأطول منذ سيطرة ميليشيا الحوثيين على العاصمة صنعاء، الأمر الذي ساهم في زيادة الآمال المُعلقة على استثمار الهدنة لتبني وقف شامل للعمليات العسكرية ينتهي بتسوية الصراع والدخول في مفاوضات جادة بين الحكومة الشرعية والحوثيين، في ظل الرغبة الدولية في وضع حد للصراع اليمني.

كما لا تزال عملية وقف إطلاق النار في ليبيا، التي دخلت حيز التنفيذ في أكتوبر 2020، قائمة من دون وقوع ارتدادات عكسية تُعيد الوضع العسكري والميداني لما كان عليه من قبل. ومع ذلك تعثرت عملية الانتقال السياسي وتم إجهاضها، ولم تتمكن ليبيا من العبور نحو استكمال المسار السياسي وخريطة الطريق حتى وقتنا الراهن.

من جهة ثالثة، كانت سوريا على موعد من نمطين من اتفاقيات وقف إطلاق النار؛ الأول صاغته الأطراف الدولية المُنخرطة في الصراع خلال أعوام 2016 و2018 و2019 و2020، وقد اشتركت جميعها في تحقيق هدف خفض التصعيد، قبل أن تعود الاشتباكات مرة أخرى بدرجات متفاوتة، ومع ذلك كانت أقل حدة وعنفاً مما كانت عليه الأوضاع قبل توقيع تلك الاتفاقيات. في حين تشكل النمط الثاني عبر اتفاقيات مناطقية بين النظام السوري والفصائل المُسلحة في عدد من المدن طيلة السنوات الماضية، كان آخرها ما تم الإعلان عنه بشأن وقف المواجهات المُسلحة في بلدة طفس بريف درعا في منتصف أغسطس 2022. 

دوافع مختلفة:

بالوقوف على اتفاقات الهدنة أو وقف إطلاق النار في عدد من دول الصراعات بالشرق الأوسط، يُمكن توضيح أبرز الأهداف أو الدوافع التي حفزت الأطراف المُنخرطة في الصراعات للجوء لمثل هذه الاتفاقات، وذلك على النحو التالي:


1- صعوبة الحسم العسكري الكامل: فرضت الأوضاع العسكرية والميدانية وحالة الاستنزاف التي تتعرض لها الأطراف المُنخرطة في الصراعات، نفسها على أجندة الأهداف الرئيسية للتهدئة أو وقف إطلاق النار، حيث تصل تلك الأطراف إلى قناعة مفادها أن استمرار القتال يقود إلى مزيد من الخسائر في ظل عدم قدرة أي طرف على حسم المعارك كلياً لصالحه. وبالتالي تسعى العناصر المُتصارعة لتقليل الخسائر والحد من تكلفة الاشتباكات المُسلحة عبر التهدئة. 

2- الرغبة في دعم السلام: ربما تُسهم اتفاقات التهدئة، التي تتم غالباً عبر وساطات وضغوط دولية، في تعزيز الثقة بين الأطراف المُتصارعة كهدف لدعم عملية السلام، إذ إن توافر الثقة من شأنه خلق مناخ يمكن أن يُحفز عملية الانتقال من مربع الصراع إلى السلام. ففي الحالة الليبية، نجحت عملية تثبيت وقف إطلاق النار منذ عام 2020 في التوافق على شكل المرحلة التالية، وذلك من خلال تشكيل حكومة الوحدة الوطنية والشروع في التفكير في مستقبل ليبيا ورسم خريطة الطريق، التي كان من المُقرر أن تنتهي بإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في نهاية العام الماضي. وعلى الرغم من تعثر تلك التفاهمات على صخرة الخلافات والتباينات بين الأطراف الليبية، فإن هذا المسار لم يكن بالإمكان اختباره دون القبول بعملية وقف إطلاق النار من قِبل الأطراف المُنخرطة في الصراع.

3- الحاجة إلى تقديم المساعدات الإنسانية: تُعتبر التهدئة مدخلاً تلجأ إليه الأطراف المعنية لتقديم الأعمال الإغاثية والمساعدات الإنسانية للمناطق والأفراد المُتضررين بسبب استمرار أعمال القتال. ولعل دعوة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في مارس 2020، لوقف إطلاق النار بهدف إنشاء ممرات لإيصال المساعدات الإنسانية، وتوصيل الإمدادات الطبيبة؛ دليلاً على إمكانية تطويع وقف إطلاق النار لخدمة الأغراض الإنسانية.

وعلى سبيل المثال، يُعد تدهور الأوضاع الإنسانية والمعيشية في اليمن بسبب الممارسات والانتهاكات الحوثية، من ضمن الأسباب الدافعة لحشد المجتمع الدولي لدعم وتمديد الهدنة الأممية، بهدف التعاطي مع الأوضاع الإنسانية، حيث تسبب هذا الصراع في نزوح أكثر من 4 ملايين شخص، كما أن شخصين من كل ثلاثة يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، وفقاً للأمم المتحدة. الأمر ذاته ينطبق على الأوضاع في سوريا وليبيا، حيث استهدفت عمليات وقف إطلاق النار معالجة وتحسين الأوضاع الإنسانية، إلا أن تلك الأوضاع كانت تتفاقم وتتأزم بمجرد عودة القتال مرة أخرى.  

4- مراوغة الميليشيات وإعادة تنظيم صفوفها: قد تضطر بعض الأطراف المتصارعة، خاصةً الميليشيات المُسلحة، إلى الموافقة على التهدئة ووقف إطلاق النار المؤقت؛ بهدف وقف نزيف الخسائر التي تتعرض لها، سواء ميدانياً أو بشرياً، في مواجهة الأطراف الأخرى. ويبرز ذلك مثلاً في الحالة اليمنية، حيث اعتادت ميليشيا الحوثيين، منذ انقلابها على الشرعية، على القبول أحياناً، وبشكل مؤقت، باتفاقات التهدئة مع جبهة الشرعية، وإن كانت لا تخلو هذه الموافقة من خروقات وانتهاكات حوثية للتهدئة، مثلما يحدث حالياً في الهدنة الأممية المُوقعة منذ 2 أبريل الماضي. وفي هذا الصدد، تكون تلك الموافقة الحوثية مدفوعة بعدة أهداف؛ منها الحد من الخسائر التي تتعرض لها الميليشيا، وتقليل الضغوط الدولية عليها في بعض المراحل، فضلاً عن كسب الوقت لإعادة تنظيم صفوفها وترتيب أوراقها مرة أخرى استعداداً لجولات أخرى من التصعيد العسكري ضد الشرعية اليمنية.

عقبات النجاح:

وفقاً للمعطيات سالفة الذكر، تُعد الهدنة وما يعقبها من وقف لإطلاق النار بمنزلة مُقدمة للوصول إلى سلام دائم يُوقف نزيف الصراعات ويُقلل من الخسائر البشرية ويحد من تفاقم الأوضاع الإنسانية. بيد أن الأمور قد لا تسير على هذا النحو المُستهدف، بل قد تذهب في تجاه معاكس، وهذا ناجم عن جملة من التحديات والعراقيل التي تواجه نجاح التهدئة وتثبيت عمليات وقف إطلاق النار بشكل دائم، وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي:


1- استجماع الميليشيات قوتها وتعزيز قدراتها العسكرية: فكما سبق الذكر أعلاه، قد تستثمر الأطراف المُنخرطة في مناطق الصراع عملية وقف إطلاق النار في تحقيق أهداف عسكرية قبل العودة للقتال مرة أخرى، ما يُمثل تحدياً لتثبيت الهدنة، وذلك من خلال القيام بإعادة تسليح عناصرها وتجنيد مقاتلين جُدد وحشد مزيد من الدعم العسكري. وظهر ذلك بالتأكيد في الصراع اليمني، حيث إنه منذ الإعلان عن الهدنة الأممية الجارية، تعكف ميليشيا الحوثيين على استعراض قوتها العسكرية في عدد من المحافظات، وتدريب عناصرها - داخل المعسكرات الصيفية في المناطق الخاضعة لسيطرتها- على الأعمال القتالية، والتلويح بالعودة للتصعيد العسكري ما لم يتم تنفيذ شروطها؛ ومن بينها الحصول على مكاسب اقتصادية، ودفع رواتب الموظفين في المناطق التي تخضع لسيطرتها.

وتدل هذه الحالة على توظيف الميليشيا الحوثية للهدنة الأممية في استجماع قوتها العسكرية وتجاوز الخسائر الميدانية التي مُنيت بها قبل الهدنة، وما يُرجح هذه الفرضية هو رفض الحوثيين مؤخراً تمديد الهدنة الأممية لمدة 6 أشهر إضافية بدلاً من شهرين فقط.

2- الارتهان لإرادة أطراف خارجية: لا يُمكن أن تُحقق عملية وقف إطلاق النار أهدافها المرجوة من دون توافق القوى الخارجية على وضع حد للصراع. فالصراعات المُسلحة في منطقة الشرق الأوسط تتأثر بصورة واضحة بتفاعلات الأطراف الخارجية وأصحاب المصالح المُنخرطين فيها، وعليه فإن تثبيت وقف إطلاق النار يظل مرهوناً بحدود التوافق بين تلك الدول، خاصةً أن بعضها يستخدم ساحات الصراع للمساومة في ملفات أخرى متشابكة. 

ففي اليمن، تُعتبر إيران المُسيطر على صناعة القرار داخل ميليشيا الحوثيين، وبالتالي تظل تهدئة الأوضاع مُرتبطة بموقف طهران من عدد من القضايا؛ وفي مقدمتها التوصل إلى اتفاق نووي مع القوى الدولية، بجانب ما قد تسفر عنه نتائج المحادثات الإيرانية مع المملكة العربية السعودية. ومن شأن أية تقدم في هذا الاتجاه أن يدفع إيران للضغط على الحوثيين للقبول بوقف نهائي لإطلاق النار، والجلوس على طاولة المفاوضات لبحث سُبل تسوية الصراع وإنهائه بشكل سياسي بعيداً عن الحل العسكري.

أما سوريا فقد أصبحت ساحة لتقاطع المصالح الدولية وتعارض الأجندات، ما يعني أن أية هدنة يحتاج استمرارها إلى تقارب وجهات النظر الدولية، خصوصاً في ظل تنامي النفوذ الدولي في سوريا والذي تُعبر عنه نقاط الارتكاز والانتشار العسكري للقوى الخارجية التي وصلت حتى منتصف العام الجاري إلى ما يقرب من 753 موقعاً، وفقاً للتقديرات. 

الأمر ذاته ينطبق على الحالة الليبية، حيث أكدت المبعوثة الأممية السابقة في ليبيا، ستيفاني ويليامز، في ديسمبر 2020، وجود نحو 10 قواعد عسكرية أجنبية تخضع لإدارة أطراف خارجية، وقد لعبت بعض القوى الخارجية دور المُعرقل أو المُفسد لعملية التسوية وكانت سبباً في عرقلة عملية الانتقال السياسي.

3- تباين مصالح الفاعلين المحليين في الصراعات: تبدأ ملامح عدم التوافق الناجم عن غياب الثقة بين الفاعلين المحليين بمناطق الصراعات، في السيطرة على المشهد، ما قد يؤدي إلى مزيد من الانقسامات التي قد تتسبب في العودة لمربع العنف مرة أخرى أو إلى مزيد من التصعيد العسكري. ففي ليبيا مثلاً، قد يؤدي استمرار نمط "الحكومة الموازية" والخلاف حول الشرعية، إلى توظيف القوة العسكرية لحيازة هذه الشرعية، وهو ما بدا من عملية الحشد العسكري والحشد المُضاد التي برزت مع محاولة رئيس حكومة الاستقرار، فتحي باشاغا، دخول العاصمة طرابلس لممارسة مهامه، الأمر الذي قد يتخذ مساراً تصعيدياً في ظل استمرار الأوضاع على ما هي عليه.

الأمر ذاته يحدث في اليمن، حيث تعمل ميليشيا الحوثيين على فرض هيمنتها وأيديولوجيتها على المشهد واحتكار السلطة، مقابل مساعي مجلس القيادة الرئاسي المُعبر عن الشرعية لفرض مشروع يستهدف بناء الدولة الوطنية وتقويض "النموذج الميليشياوي"، علاوة على مساعي بعض الأطراف الداخلية لضمان مكاسب ضيقة تتجاوز مصلحة الدولة العليا، كما هي الحال بالنسبة لحزب الإصلاح الإخواني ودوره في إشعال أحداث محافظة شبوة خلال الأسبوعين الماضيين، ما قد يضع قيوداً على استمرار الهدنة الحالية في ظل تباين أهداف وحسابات كل طرف.

4- غياب التصور الشامل لإنهاء الصراعات: يُشكل غياب الرؤية وعدم القدرة على تحقيق التوافقات بشأن إدارة مرحلة ما بعد تثبيت وقف إطلاق النار، معضلة كبرى يمكن أن تحد من فاعلية هذه العملية كمقدمة للتسوية النهائية. ففي أغلب الأوقات لا يرتبط "اليوم التالي" للهدنة بتصور مُكتمل لطبيعة المرحلة القادمة، كما لا توجد ضمانات كافية تُقنع أطراف الصراع بجدوى استمرار التهدئة والابتعاد عن الاشتباك، خاصةً أن الصراعات المُسلحة في الإقليم يغلب عليها نمط التكرارية وكأن التفاعلات فيها تُعيد إنتاج نفسها بأدوات متباينة إلا أن جميعها تؤجج الصراع وتضع حداً لتسويته. 

ففي المشهد الليبي، يُلاحظ أن القاسم المشترك في المراحل كافة هو تعدد القادة الانتقاليين؛ بمعنى أن كل مرحلة تهدئة أو تغيير تُفرز نخبه جديدة تُشكل جملة من المصالح التي تزيد من تعقيد المشهد، وتبتعد بالتسوية عن مسارها نتيجة تداخل مصالح النخبة الجديدة مع سابقتها.

وفيما يتعلق باليمن، لا تزال ميليشيا الحوثيين تفرض حصارها على تعز، ما يزيد من المعاناة الإنسانية لسكانها، بالرغم من نص الهدنة الأممية على رفع هذا الحصار وفتح الطرق الرئيسية إلى المدينة، الأمر الذي يعني احتمالية إهدار فرص التسوية في ظل غياب الضغوط الدولية على الحوثيين لتنفيذ كل بنود الهدنة الحالية، وهو ما قد يضع بالتالي قيداً على استمرارها، خاصةً أن الميليشيا تُوظف حصار عدن وغيرها من الخروقات للحصول على مزيد من المكاسب.

ختاماً، تظل اتفاقات التهدئة أو وقف إطلاق النار مدخلاً مهماً يمكن البناء عليه لإسكات البنادق بشكل دائم وإحلال السلام في دول الصراعات بمنطقة الشرق الأوسط. بيد أن الأمر يتوقف على عدد من الاعتبارات التي قد تحول دون الوصول إلى ذلك الهدف، خاصةً في ظل الصراعات المُستعصية على الحل نتيجة اتساع الفجوة بين أطرافها، وهو ما قد يؤدي إلى تجدد دورات الصراعات بشكل مُستمر ودون التوصل إلى تسوية حقيقية وكاملة لإنهاء هذه الصراعات.