تعيش منطقة الشرق الأوسط في دوامة من الصراعات المتشابكة والمتوالدة عقدا تلو الآخر حتى بات حلم السلام في هذه المنطقة صعبا ويخضع لدراسات وبحوث معمّقة تحاول فهم طبيعة النزاعات ودور التدخلات الخارجية التي تتغذى من هذه الصراعات الممتدة وتغذيها لتغيير موازين القوى ورسم خرائط جيوسياسية جديدة لا تأبه للاستقرار في دول المنطقة.
متى يحل السلام في مناطق الصراع بالشرق الأوسط؟ سؤال بسيط في صياغته ولكنه إشكالي معقد في محاولة تلمس الإجابة عليه، طرح كثيرا ولم يتم التوقف عن طرحه بشكل أو بآخر بين الباحثين منذ أكثر نصف قرن، لكن أحدا لم يقدم رؤية متكاملة قاطعة كون الصراع يتوالد ويشتبك ويتداخل ويتمدد منتقلا من منطقة إلى أخرى بشكل مستمر ولافت، وهذا الكتاب “الصراعات المستعصية.. متى يحل السلام في مناطق الصراع بالشرق الأوسط؟” الصادر عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة بأبوظبي ضمن سلسلة “كتاب المستقبل” تضمن أوراقاً وتحليلات متعددة لـ12 خبيرا وباحثا لاكتشاف طبيعة أبعاد وملامح الصراعات المستعصية في الشرق الأوسط خلال العقد الأخير، طارحا مقاربات نظرية وتطبيقية لحل وتسوية هذه الصراعات، سواء عبر المسارات التقليدية أو غير التقليدية، مستهدفاً تقييم مدى إمكانية الخروج من حالة السلام المتعثر في المنطقة.
الكتاب حرره خالد حنفي باحث مصري في مجلة “السياسة الدولية”، ورانيا خفاجة مدرّسة العلوم السياسية بكلية الدراسات الأفريقية العليا جامعة القاهرة، ومحمد بسيوني عبدالحليم الباحث المهتم بقضايا الأمن الإقليمي والتنظيمات المتطرفة.
ويبدأ الكتاب من السؤال المحور: متى يحل السلام في مناطق الصراع بالشرق الأوسط؟ موضحين أنه لا تكاد تنتهي منطقة الشرق الأوسط من مرحلة صراعية حتى تدخل في أخرى أكثر إنهاكا لمقدرات الدول والمجتمعات. فإثر عقود من غلبة الصراعات الإقليمية والدولية على المنطقة جاء العقد الأخير حاملا نمطا جديداً من الصراعات الممتدة التي تداخلت فيها فواعل وقضايا الداخل مع قوى الخارج بالمنطقة إثر نشوب الانتفاضات العربية في نهاية 2010.
تسويات مستعصية
لقد كانت شعوب المنطقة تتطلع عبر تلك الانتفاضات إلى بدء مرحلة تعاف تخرجها من المسار الصراعي التاريخي المزمن، فإذ بها على العكس تكشف أزمات انتقلت من الكمون إلى العلن لتخلق نمطا من “متلازمة الضعف” للدولة والمجتمعات في آن واحد.
و”لم يكن صعود المجتمعات على حساب الدول، مع بداية الانتفاضات، سوى مظهر مؤقت لم يدم طويلا، إذ سرعان ما بزغ التشرذم، الذي عرضها لاستقطابات حادة تلاقت مع نظيرتها السياسية والعسكرية المنقسمة في تحالفات سياسية – مناطقية، مما أسهم في صعود وعسكرة قوى الانتماءات الأولية الدينية، والطائفية، والمناطقية، والقبلية.. وغيرها”.
وحدد المحررون ثلاث سمات أساسية أخذتها الصراعات خلال العقد الأخير، أولا: استعصاء التسويات، حيث أن تلك الصراعات نشبت في البداية على خلفية مطالبات فرقاء الداخل بالمشاركة في السلطة والثروة، والاعتراف بالهويات المهمشة؛ لكنها ما لبثت أن تعرضت لتدخلات قوى خارجية، فأضحت عصية على التسوية السلمية، حيث باتت تتطلب توافقا صعبا بين مصالح قوى داخلية وخارجية في آن واحد، لاسيما انتشار الحروب بالوكالة في الإقليم.
وباتت القوى الخارجية حاضرة بدرجات انخراط وأوزان نسبية مختلفة في كل صراع داخلي على حدة، ما جعل الأدبيات السياسية تصف صراعات الشرق الأوسط بأنها ذات طبيعة “محلية خضعت للتدويل”. مع مثل هذا النمط من الصراعات المهجنة، أصبحت الحروب بالوكالة والمساومات على المصالح بين القوى الخارجية على مناطق الصراع جزءا أساسيا من ديناميات لعبة النفوذ في الشرق الأوسط.
وثانيا: إفراز تهديدات عابرة للحدود، حيث باتت مناطق الصراعات بالشرق الأوسط منتجة لتهديدات ومخاطر غير تقليدية لتضاف إلى أزمة الدولة الهشة، حيث شهد العقد الأخير تصاعدا حادا لظواهر عابرة للحدود امتدت تأثيراتها إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، كتنظيمات الإرهاب، خاصة داعش، وجماعات الجريمة المنظمة، والهجرة غير المشروعة وغيرها. ومن ثم صار من الصعب فصل ما يجري في الصراع السوري أو اليمني أو الليبي عن نظرائه في العراق ومالي والصومال وأفغانستان.
أما السمة الثالثة فهي أن مناطق الصراع في الشرق الأوسط أضحت بمثابة ساحات جيوسياسية لتغيير موازين القوى الإقليمية والدولية؛ إذ استعادت روسيا دورها الدولي وذلك بانخراطها في صراعات المنطقة، حيث دعمت الحكومة السورية، ثم امتدت لاحقا باتجاه ليبيا كمنصة قفز استراتيجية للدخول إلى وسط وشمال أفريقيا، وامتلاك أوراق ضغط في التنافس العالمي على الطاقة. وساعدها في ذلك تراجع الدور الأميركي، والتردد وانقسام المواقف الأوروبية. وبالمثل وظفت القوى الإقليمية غير العربية تنامي هذه الصراعات لتحقق مزيدا من التغلغل في الدول العربية الهشة المنكوبة بالصراعات، كما تجلى في التدخل التركي في سوريا وليبيا، وكذلك الإيراني في سوريا والعراق واليمن ولبنان.
ويؤكد محرّرو الكتاب أنه كلما اقترب المتنازعون خطوة نحو اتفاقات السلام، ظهر مفسدو التسويات، سواء أكانوا من الداخل أم الخارج، لإطالة أمد الصراعات.
وحتى مع تفشي جائحة كوفيد – 19 في العالم منذ العام 2020، لم يؤد ذلك إلى وقف الحروب بالمنطقة، وعلى الرغم من أن بعض مناطق الصراع شهدت خفضا للتصعيد، لكن التوازنات السياسية والعسكرية بدت دافعة لذلك أكثر مما أحدثته الجائحة التي قد تزيد الانكشاف للبنى الصحية والاقتصادية بالمنطقة، ومن ثم تعزيز المظالم السياسية والمجتمعية والاقتصادية، وإضافة عوامل أخرى لتفاقم الصراعات في المنطقة.
ورأى المحررون أنه قد يكون صحيحا أن المنظورات الغربية تميل إلى تأطير صراعات المنطقة على أنها جزء من عملية تطورية للمجتمعات والدول قد تنتهي إلى مرحلة أكثر نضجا وتعايشا، لكن المعضلة أن دورة المراحل الصراعية في الشرق الأوسط تتوالد تاريخيا واحدة تلو أخرى، حيث بدا أن كل مرحلة صراعية تخرج من رحمها صراعات أخرى أكثر عمقا وتجذرا في واقع دول المنطقة. وتكشف نظرة عامة على دول الصراعات بالمنطقة عن معضلة هيكلية تتعلق بتعددية مراكز السلطة والأمن في أقاليم الدولة، وتمترس القوى المجتمعية خلفهما، كما في شمال وجنوب اليمن، وشرق وغرب ليبيا، ما قد يهدد بنية الدولة المركزية بالمنطقة.
تعقيدات عديدة
يكشف الكتاب أن السمات الأساسية للصراعات الشرق أوسطية أنتجت معضلات رئيسية على مستوى صياغة تسويات سلمية مستقرة ودائمة يمكن عبرها إحداث تحول جوهري في واقع المنطقة. فمن جهة أولى، بات التوصل إلى اللحظة الناضجة التي تحدث عنها ويليام زارتمان محكوما بتعقيدات عديدة.
ومن جهة ثانية، ثمة تشابكات على مستوى قضايا التسوية السلمية، على غرار قضايا العدالة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، ونزع السلاح، وإعادة بناء المؤسسات، وتقاسم السلطة، وكيفية التعامل مع المحاربين السابقين في المجتمع. ومثل هذه التشابكات تجعل من الصعب التوصل إلى سلام مستقر، فحتى مع الشروع في إجراءات بناء السلام والدخول في تسويات سلمية مع فواعل الصراع، وفي مقدمتها التنظيمات والميليشيات المسلحة، فإن احتمالية الارتداد إلى العنف تظل قائمة.
ومن جهة ثالثة، ستحتاج دول المنطقة إلى سنوات وربما إلى عقود للتعافي من تداعيات الصراعات المسلحة وانعكاساتها على العلاقة بين الدولة والمجتمع، إذ أن أغلب أطروحات التعافي تحيل إلى ضرورة التوازن بين الدولة والمجتمع، وتجنب الاختلالات ومكامن الهشاشة في الجانبين على السواء، والتي كشفت عنها الانتفاضات العربية بشكل أو بآخر.
ووفقا لتلك الأطروحات، فإن ثمة معضلة في فكرة “الدولة المسيطرة”، حيث لم يعد من الممكن القبول بهذه الفكرة والتعويل عليها كثيراً، إذ أن الكثير من مؤسسات الدولة تتراجع كفاءتها بمرور الوقت وخاصة في حالة تراجع دور المجتمع، وتظل محدودة في مواجهة تحديات مرحلة ما بعد الصراع، وهكذا يتعين إعطاء حيز أكبر لإشراك العناصر المجتمعية في مهام التعافي السريع.
ويستدعي هذا الطابع للدولة ووظائفها معالجة المشكلات التي واجهها النموذج “الدولتي” خلال السنوات الماضية بمنطقة الشرق الأوسط، وصياغة علاقة متزنة مع المجتمع؛ لأن ضعف وهشاشة المجتمع لصالح قوة الدولة واستعادة عافيتها لن يؤديا إلى خروج دول المنطقة من مسوغات الصراع وحواضنه المجتمعية. وبطبيعة الحال، فإن ضعف الدولة لصالح قوة المجتمع لن يؤدي إلى استقرار مستدام، وربما يكون محفزاً لدورات جديدة من الصراعات بالمنطقة.
وانتهى المحررون إلى أن الرسالة الأساسية هي أن السلام الحقيقي في الشرق الأوسط سوف يتحقق بتوافر شرطين أساسيين، الأول: استعادة الدولة مناعتها على أسس جديدة من العدل، واستيعاب التنوعات المجتمعية، وتحويلها إلى مصدر قوة، بما يقلص انكشافها داخليا وخارجيا. والثاني: أن تجد المجتمعات على الجانب الآخر بيئة مواتية لتلبية احتياجاتها من الأمن والمشاركة في السلطة والموارد والاعتراف بالهويات، دون الانتقاص من الانتماء الوطني، بما قد يخلق لحظة تعاف قد تخرج الشرق الأوسط من الدائرة المفرغة للصراعات.