أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

اللا طائفية:

هل تؤدي الاحتجاجات الشعبية إلى تغييرات جذرية في العراق؟

07 أكتوبر، 2019


تصاعدت التظاهرات في العراق خلال الأيام الماضية بعد تزايد الشعور بانسداد الأفق السياسي، والشعور بانعدام الثقة في النخب الحاكمة، سواءً كانت المرجعية أو العشائر أو حتى الأحزاب التي تُشير تقارير مكافحة الفساد إلى تورطهم في العديد من القضايا التي أثارت الرأي العام العراقي. وتتميز هذه التظاهرات عن سابقاتها بالعفوية والجماهيرية؛ حيث تغيب الأحزاب، والكتل، والمرجعيات عن الاحتجاج لتجاوز المحتجين الخلافات الأيديولوجية والطائفية، وتركيز أهدافهم على احتياجاتهم المعيشية المتمثلة في توفير الخدمات، ومواجهة الفقر، ومكافحة الفساد.

تصاعد الاحتجاجات:

على الرغم من أن العراق يتمتع بنظامٍ ديمقراطي في اختيار ممثلي الشعب؛ إلا أن هذا النظام يُعاني من الهشاشة نتيجة انتشار الفساد، وهيمنة سلطوية الكتل والأحزاب القائمة على المحاصصة الطائفية والقبلية والمناطقية، وهو ما يُفقد النظام قدرته على ممارسة ديناميكية التغيير الداخلي كما هو معروف في النظم الديمقراطية.

ويحاول العراقيون في هذه التظاهرات الوصول إلى ساحة التحرير، والمنطقة الخضراء التي تحتوي على تمثيليات السفارات الأجنبية إضافة إلى مؤسسات ومقار الحكومة المركزية، وهو ما تعترضه قوات الشرطة بعنفٍ بالغ نظرًا للأهمية الاستراتيجية لهذه المناطق وحيويتها. وتُمثل احتجاجات أكتوبر 2019 استمرارًا لحالة السخط العامة لدى الشعب العراقي بكافة طوائفه وتمايزاته على النخبة الحاكمة التي دائمًا ما تُقابل احتجاجاتهم بعنفٍ مفرط؛ حيث استُخدم في هذه التظاهرات الرصاص الحي، وخراطيم المياه، وقنابل الغاز المسيل للدموع، وهو ما أدى إلى مقتل حوالي 106، وإصابة 6000، وفقًا لإحصاءات المفوضية العليا لحقوق الإنسان، وهي مؤسسة عراقية رسمية. 

ومثَّل الشعور باللا عدالة في توزيع الثروة محفزًا للتظاهرات التي عكست الانفصال التام بين الكتل السياسية ورجل الشارع العادي. ويُمكن أن تؤدي عفوية التظاهرات وغياب القيادة إلى عرقلة قدرات الانتفاضة على بلورة مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية واضحة للضغط على المنظومة الحاكمة. وتعهدت حكومة "عبدالمهدي" بمعالجة أسباب الأزمة، والوقوف على أسباب الاحتجاجات، خاصة ما يتعلق بتوفير منح حكومية للأسر الأكثر احتياجًا، إضافة إلى العمل على توفير المزيد من فرص العمل. وفي هذا السياق، فرضت حكومة عبدالمهدي على الشركات الأجنبية الاستثمارية العاملة في العراق تخصيص حصة تُقدر بـ50% من الوظائف لصالح العراقيين.

دوافع متعددة:

مثّل تصاعد الفساد، وانتشار الفقر، والبطالة؛ عاملًا حاسمًا في تزايد الاحتجاجات وتركزها في بغداد والمناطق ذات الأغلبية الشيعية. وتتشابك هذه الدوافع مع الأسباب المتعلقة بنقص الخدمات الحكومية، وتهالك البنية التحتية، ومطالب مواجهة الميليشيات العسكرية، والنفوذ الإيراني بالعراق. ومن ثمّ يمكن الإشارة إلى أبرز دوافع تصاعد الاحتجاجات فيما يلي:

1- انتشار الفساد: يعاني العراق من انتشار الفساد داخل الدوائر الحكومية وخارجها؛ حيث صنف تقرير منظمة الشفافية الدولية العراق في المركز الثاني عشر في قائمة الدول الأكثر فسادًا. وتجاوزت قضايا الفساد التلاعب بالعقود والتوريدات الحكومية إلى ما يتعلق بحياة المواطن وأمنه وسلامته؛ إذ كُشف في سبتمبر 2019 عن فساد في أجهزة كشف المتفجرات بمنطقة الكرادة بعد حدوث انفجار كبير نتج عنه 300 قتيل.

وتجدر الإشارة إلى أن البرلمان العراقي قد حجب الثقة عن وزير الدفاع السابق "خالد العبيدي" عام 2016 بعد اتهامه رئيسَ البرلمان وقتها وعددًا من أعضاء مجلس النواب بمساومته للمشاركة في قضايا فساد تتعلق بتسليح الجيش العراقي. وفي السياق ذاته، كشف تقرير برلماني عن إحصائية بوجود 6000 مشروع وهمي كلفت موازنة الدولة 178 مليار دولار منذ عام 2003. ولم يُفتح أي تحقيق حول ما توصل له التقرير لتورط كثير من الزعامات السياسية الحالية والسابقة. وتحاول حكومة "عبدالمهدي" جذب الاستثمارات الأجنبية -خاصة الصينية- التي تُبدي تخوّفاتها من ابتزازات المافيات داخل العراق. وفور توليه الحكومة، شكّل "عبدالمهدي" المجلس الأعلى لمكافحة الفساد، ولكنه لم يستطع تقديم شيء، وتشير التقارير إلى أن تهديدات بالقتل أُرسلت إلى من أبدوا ترحيبهم بالتعاون مع المجلس، ومن بينهم الوزراء الذين يرسلون معلومات عن الفساد بوزاراتهم بصورة سرية.

2- ارتفاع معدلات الفقر: على الرغم من أن العراق يمتلك رابع أكبر احتياطي من النفط في العالم، ولكن يشير تقرير البنك الدولي الصادر في مارس 2019 إلى أن 22.5% من السكان فقراء. ويُمثل الفقراء والعاطلون وقود هذه الموجة الاحتجاجية. ومن المتوقع أن تشهد موازنة العراق لعام 2020 عجزًا يُقدّر بحوالي 30 مليار دولار. 

3- نقص الخدمات: لا تزال البنية التحتية العراقية تُعاني من آثار التدمير الممنهج الذي اتبعه مقاتلو تنظيم "داعش" الإرهابي، وهو ما يُعد أحد بواعث تجدد الاحتجاجات في المناطق الجنوبية. وتجدر الإشارة إلى أن الاحتجاجات التي شهدتها مدن الغرب السني العام الماضي طالبت كذلك بتحسين البنية التحتية خاصة قطاع المياه والكهرباء.

4- مواجهة النفوذ الإيراني: رغم أن مطالب مواجهة النفوذ الإيراني بالعراق لم تكن المحرك الأساسي للتظاهرات، إلا أن المحتجين رفعوا شعارات مناهضة لتدخلات طهران. وفي هذا الصدد، انتشر هتاف "إيران برة برة، بغداد تبقى حرة"، ونشط كذلك كوسم على موقع التواصل الاجتماعي تويتر الذي تضمن تغريد العديد من المشاركين في التظاهرات ضد النفوذ الإيراني. وقام عدد من المتظاهرين بحرق العلم الإيراني، متهمين طهران بدعم الميليشيات لإضعاف الدولة وتقويض دورها في حفظ الأمن وبسط السيادة.

السمات العامة للاحتجاجات:

رغم أن دوافع مظاهرات 2019 لا تختلف كثيرًا عن سابقاتها، سواءً ضد حكومة "المالكي" في 2014، أو "حيدر العبادي" في 2018؛ إلا أن الاحتجاجات هذه المرة تختلف في العديد من السمات، ومن ذلك: غياب القيادة المنظمة للاحتجاجات، وشعبية المطالب وتجاوزها الكتل والمرجعيات، وتصدر الشباب للمشهد الاحتجاجي، واستخدام العنف المفرط من طرف الميليشيات، إضافة إلى تجاوز الطائفية سواءً من خلال دراسة الهتافات أو تركز المظاهرات في المناطق الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية. وسنتناول هذه السمات تفصيلًا فيما يلي:

1- غياب القيادة المنظِّمة: تبرز عفوية التظاهرات وعدم التخطيط لها غياب القيادة المنظمة، خاصة في ضوء تجنب الكتل السياسية والمرجعية الدينية المشاركة الفعلية بها، باستثناء "مقتدى الصدر" زعيم كتلة "سائرون" الذي دعا أعضاء كتلته لمقاطعة جلسات مجلس النواب تضامنًا مع المحتجين دون أن يدعو أنصاره للمشاركة في الفعل الاحتجاجي نفسه. وتُشير التقارير إلى تمثيل هذه الاحتجاجات للفئات الأكثر احتياجًا داخل المجتمع العراقي، خاصة ممن أنهكتهم الحرب وأرهقهم الفساد المستشري في أجهزة الدولة ومؤسساتها. ويعتمد المحتجّون في تجمعاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما دعا حكومة "عبدالمهدي" إلى حجبها والتشويش عليها.

2- تزايد مشاركة الشباب: يبرز من هذه الاحتجاجات سطوة العنصر الشبابي في الفئة العمرية بين 17-29 عامًا، حيث يعاني معظمهم من البطالة، والفساد في التعيينات الحكومية التي تعتمد على المحسوبية وغياب العدالة.

3- تورط الميليشيات المدعومة إيرانيًّا: تُمثل هذه الاحتجاجات تحديًا حقيقيًّا للمنظومة الحاكمة برمتها. وبالفعل وجه المتظاهرون اتهامات للميليشيات العراقية المدعومة إيرانيًّا بالتورط في موجة العنف الأخيرة ضد المتظاهرين وأفراد الشرطة لإرباك المشهد الاحتجاجي وتصويره على أنه حالة من العنف بهدف حماية المنظومة الحاكمة وإجهاض التظاهرات التي تطالب بتقليص النفوذ الإيراني. وفي هذا السياق، أعلن وزير الداخلية فتح تحقيق موسع لكشف العناصر والجهات المتورطة في قتل المتظاهرين وأفراد الأمن الذين تعرض بعضهم لعمليات قنص.

4- تجاوز الطائفية: تركزت الاحتجاجات هذه المرة على المناطق الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية، وغابت في المناطق الكردية والسنية. وتجدر الإشارة إلى أن المناطق الجنوبية كانت تصوت في الماضي لصالح تكتل الحكومة، ولكنها تعاني الآن من نقص ورداءة الخدمات الحكومية العامة كالكهرباء والماء، إضافة إلى انتشار البطالة بين صفوف أبنائها. ومثلت هتافات الاحتجاجات بُعدًا جديدًا يوحي بتجاوز المسألة الطائفية، وهو ما برز في الهتافات مثل "إخوان سنة وشيعة.. وطن ما نبيعه".

سيناريوهات متوقعة:

تتمثل أهم السيناريوهات المحتملة للاحتجاجات فيما يلي:

1- احتواء الاحتجاجات: يرتبط هذا السيناريو بتمكن الحكومة من احتواء الموجة الاحتجاجية، وهو ما بدأت بوادره تظهر في القرارات التي اتخذها مجلس الوزراء في جلسته التي انعقدت في 6 أكتوبر 2019؛ حيث أعلن مجلس الوزراء عن 17 قرارًا لاحتواء الغضب. وتُعد هذه القرارات محاولةً لتحييد وقود التظاهرات من العاطلين والفقراء عن المشاركة في الاحتجاجات. ومن بين هذه القرارات اعتبار ضحايا الاحتجاجات من الشهداء، وتضمينهم ضمن القوانين المنظمة وما ترتبه من امتيازات، ودعم العاطلين، وتوفير التدريب المهني لهم، وتقديم منح لعدد لا يتجاوز 150 ألفًا من غير القادرين على العمل بدل بطالة لمدة 3 أشهر مع مساعدتهم خلال هذه الفترة في البدء بمشاريعهم الخاصة، وفتح باب التطوع للشباب بوزارة الدفاع، وتوجيه وزارة الداخلية بإعادة المفصولين إلى الخدمة، إضافة إلى تسهيل قروض الإسكان وتوزيع عددٍ من الأراضي والوحدات السكنية للفئات الأكثر احتياجًا مع منح الأولوية للمحافظات الأكثر فقرًا. بيد أن قرارات مجلس الوزراء السبعة عشر لم تتعرض للفساد الذي كان قوام مطالب المحتجين في الساحات والشوارع. 

2- تغيير القيادات الرئيسية: دائمًا ما تشهد حالات التغيير السياسي في العراق منذ إسقاط نظام الرئيس الراحل "صدام حسين" في 2003 تغييرًا على مستوى الأوجه دون تغير حقيقي في منظومة الحكم برمتها. وغالبًا ما ينتهي ضغط الشارع إلى تبديل الأوجه والحفاظ على المنظومة. وحدث ذلك في حالة رئيس الوزراء الأسبق "نوري المالكي" (2006-2014) الذي استقالت حكومته بعد احتجاجات عنيفة شهدتها المدن العراقية عام 2014، و"حيدر العبادي (2014-2018) الذي واجهت حكومته قُبيل سقوطها في الانتخابات تظاهرات عنيفة. ومن الممكن أن يتكرر الأمر نفسه مع حكومة "عبدالمهدي" التي فشلت في مواجهة الفساد. ويكتسب هذا السيناريو وجاهته من عدم مشاركة الأحزاب والكتل في هذه الاحتجاجات لأنها تستهدف الفساد في المقام الأول، وتمثل الأحزاب قوام الفساد، وبالتالي مالت الأحزاب والكتل السياسية في السابق للتضحية برئيس الوزراء من أجل الحفاظ على المنظومة الحاكمة.

3- تغييرات جذرية: رغم حالة العنف المفرط التي واجهت بها قوات الأمن المحتجين، إلا أن مطالب الاحتجاجات توحي بتغير كبير في نمط الاحتجاجات العراقية التي بدت متجاوزة للمرجعيات الدينية والكتل السياسية، وهو ما يُمكن أن يُهدد القوى السياسية التقليدية التي تصاعد دورها منذ عام 2003، ويتهمها العراقيون بالتورط في الفساد. وتفرض هذه الحالة الجديدة على الشارع السياسي العراقي سيناريوهات قد تتجاوز تغيير رأس الحكومة كما كان يحدث في السابق، إلى محاولة فرض واقع سياسي جديد في منظومة الحكم بأكملها بشرط استمرار حالة الزخم في الاحتجاجات، أو في أضعف التقديرات يُمكن أن تنجح الفئات المشكِّلة للاحتجاجات -خاصة الفئات الشبابية- في تكوين كتلة سياسية جديدة عابرة للمرجعيات والأحزاب لتكون نواة لحركة معارضة جديدة. 

ويبدو أن السيناريو الأول هو الأرجح على المدى القصير على الأقل، حيث يظهر في هذا السيناريو رغبة الحكومة الجادة في احتواء الاحتجاجات، وهو ما يظهر في استجابتها للعديد من المطالب الاجتماعية والاقتصادية، ودعوتها لشخصيات بارزة في الاحتجاجات للحوار، واستخدام أعلى درجات العنف لقمعها، إضافة إلى عدم دعم المرجعية الدينية في النجف صراحة للاحتجاجات، وحرصها على إمساك العصا من المنتصف، من خلال دعوتها للاستجابة لمطالب المحتجين والدعوة إلى عدم استخدام العنف.