أخبار المركز
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)
  • إيمان الشعراوي تكتب: (الفجوة الرقمية: حدود استفادة إفريقيا من قمة فرنسا للذكاء الاصطناعي 2025)
  • حسين معلوم يكتب: (تفاؤل حذر: هل تشكل الانتخابات المحلية فرصة لحلحلة المسار الليبي؟)
  • أحمد عليبة يكتب: (هاجس الموصل: لماذا يخشى العراق من التصعيد الحالي في سوريا؟)

مساومات إقليمية:

غاز المتوسط يفاقم التوتر بين مصر وتركيا

18 مايو، 2015


شهدت هياكل القوة في منطقة شرق المتوسط تغيرات كبيرة على مدى العقود الماضية. فبعد أن ظل للقاهرة دور تقليدي في حوض المتوسط، اختلفت موازين القوى لمصلحة قوى إقليمية أخرى عربية وغير عربية؛ مما أوجد تداعيات ذات تأثير واضح على تفاعلات النظام الإقليمي من جهة، وبين القاهرة وأنقرة من جهة أخرى.

والأرجح أن السياسة التي مارسها الرئيس الأمريكي أوباما، منذ وصل إلى البيت الأبيض، تجاه المنطقة، أدى إلى تراجع وتأثير واشنطن، مما شجع موسكو وقوى إقليمية للعودة إلى منطقة شرق المتوسط، وفي الصدارة منها مصر وتركيا، حيث انتقلت الأولى من السياسة الوقائية إلى الاندفاع في السياسة الخارجية دفاعاً عن مصالحها، بينما اتجهت الثانية إلى تأكيد حضورها إقليمياً، ومحاولة تقزيم الوجود المصري في حوض المتوسط، خاصة بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي وفشل مشروع الإسلام السياسي في التحكم في السلطة في العديد من دول الثورات العربية.

وفي الوقت الذي تتكاثر فيه مشاريع البحث والتنقيب على مصادر الطاقة والنفط في منطقة المتوسط عبر سياسات تكاملية ومتصارعة بين الفاعليين الدوليين أو المحليين، فثمة مواجهة بين دول حوض شرق المتوسط، خاصة القاهرة وأنقرة، لاسيما مع امتداد نفوذ القاهرة إلى داخل المتوسط، سواء عبر سياسات مباشرة، أو غير مباشرة.

تقسيم الحدود البحرية: ملامح أزمة

مع تصاعد الآمال بشأن اكتشافات النفط والغاز في حوض المتوسط، دخلت دوله في مرحلة من الشحن والتوتر، إذ تقدر دراسة صادرة عن هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية في عام 2010 أن حجم احتياطي الغاز في حوض شرق البحر المتوسط يبلغ نحو 345 تريليون قدم مكعب من الغاز، ويحتوي هذا الحوض أيضاً على كميات ضخمة من الاحتياطيات النفطية تبلغ 3,4 مليار برميل من النفط، إلى جانب كميات كبيرة أيضاً من سوائل الغازات.

وأصبحت منطقة شرق المتوسط في بؤرة الاهتمام العالمي مع إعلان قبرص الجنوبية في 28 ديسمبر 2011، عن اكتشاف أول حقولها من الغاز، والذي تقدر احتياطاته بما يتراوح بين 5 و8 تريليونات قدم مكعب من الغاز الطبيعي أمام سواحلها الجنوبية، ويعد هذا أول اكتشاف من نوعه في جنوب الجزيرة.

وعلى الرغم من فرص التنسيق التي لاحت في الأفق بين بعض دول الحوض، وفي الصدارة منها مصر واليونان وقبرص، فإن تداخل الحدود البحرية بين مصر وإٍسرائيل وقبرص ولبنان وتركيا واليونان، خلّف صراعاً خفياً وتسابقاً للفوز باحتياطات الطاقة الضخمة، خاصة أن إسرائيل وقبرص بدأتا بالفعل في استغلال بعض الحقول.

والأرجح أن توجه قبرص بشكل منفرد للبحث والتنقيب داخل مناطق اقتصادية تعتبرها خاصة بها أَضر نسبياً بمصر، وأثار قلق تركيا التي تشتبك مع اليونان أيضاً منذ عقود على ترسيم الحدود البحرية والجوية بينهما في مناطق من بحر إيجة.

وفي الوقت الذي نجحت فيه اليونان وقبرص في تحريك المياه الراكدة بشأن ترسيم الحدود البحرية مع مصر، والتي كشفت عنها اللقاءات التي جمعت مسؤولي الدول الثلاث طوال الشهور الثلاثة التي خلت، فقد تفاقمت العلاقات القبرصية ـ التركية بسبب تصاعد التوترات بشأن قرار قبرص بدء التنقيب عن الغاز في عرض البحر في أقصى الجنوب الشرقي من منطقتها الاقتصادية الخالصة.

وتعرف المناطق البحرية التي تطالب بها الدول للاستغلال التجاري بالمنطقة الاقتصادية الخالصة، ويحكمها في العادة قانون الأمم المتحدة للبحار أو الاتفاقيات الثنائية بين الدول المجاورة التي تتفق في العادة على حدود تقع على مسافة واحدة من سواحلها.

وبموجب مفهوم المنطقة الاقتصادية الخالصة يحق للدولة أن تمارس بشأنها حقوق الاستغلال والتنقيب عن الموارد البحرية، ويحددها القانون الدولي بـ"200 ميل بحري" من خط الأساس البري للدولة، وهو الخط الذي يحدد الفاصل بين اليابسة والبحر الخارجي، وتودع كل دولة من دول العالم لدى الأمم المتحدة مجموعة إحداثيات نقاط تحدد خط الأساس لتلك الدولة.

في المقابل تشكك أنقرة في حق قبرص اليونانية في التنقيب عن النفط والغاز، فقد رفضت قبرص العضو في الاتحاد الأوروبي التصريحات التركية، وحددت منطقتها الاقتصادية الخالصة عام 2004، ورسمت منذ ذلك الوقت حدودها البحرية مع كل من مصر وإسرائيل.

وفي الوقت الذي وقع الرئيس المصري المؤقت عدلي منصور في ديسمبر 2013 اتفاقية أثارت قدراً واسعاً من الجدل بشأن منطقة تنقيب على طول الحدود المصرية القبرصية، وبعمق 10 كم في المياه المصرية من خط المنتصف؛ تصاعد الصراع على غاز شرق المتوسط مؤخراً مع إرسال تركيا سفينة أبحاث إلى منطقة التنقيب المشتركة مع قبرص التركية واليونانية مدعومة بقوة بحرية، وهو ما رفع درجة التوتر في المنطقة. 

ولا تعترف حكومة أنقرة بشرعية الاتفاقيات الخاصة بترسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة التي وقعتها قبرص مع مصر، ولبنان، وإسرائيل؛ لأن قبرص ما زالت جزيرة مقسمة، ولا يمكنها تمثيل مصالح قبرص الشمالية نظرياً. كما أن لتركيا أيضاً مطالب في الجرف القاري، من غرب قبرص إلى خط الوسط ​​بين تركيا ومصر، والمتداخل جزئياً مع جزء من المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص.

غير أن الفرضية التركية إزاء الموقف من قبرص تبقى محل جدل قانوني، إذ يرى قطاع معتبر من القانونيين أن حجة أنقرة قد يعتد بها عندما يتعلق الأمر بالجزر الصغيرة أو الصخرية غير المأهولة، لكنه لا ينطبق على قبرص.

قانون البحار الثالث: تفسيرات متعارضة

في 16 نوفمبر عام 1973، اعتمدت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، التي دشنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبدأت مناقشتها في المؤتمر الثالث للأمم المتحدة بنيويورك في ديسمبر عام 1973، واستكملت الاتفاقية في عام 1982، وبدأت دعوة الدول للتوقيع عليها، حتى دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في 16 نوفمبر 1994. وكانت مصر من الدول التي وقعت وصدقت على الاتفاقية في عام 1987، بينما لم توقع عليها إسرائيل وتركيا.

وظلت هذه الاتفاقية، تحفظ حقوق دول شرق البحر المتوسط حتى تاريخ 19 أبريل عام 2004، حيث عقدت مصر مع قبرص اتفاقية بشأن ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، ما ترتب عليه اقتسام المياه الاقتصادية بين البلدين بالتساوي.

وحينما أعلنت هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية في مارس 2010 عن وجود احتياطيات ضخمة للغاز في شرق المتوسط بالمنطقة الواقعة بين مصر وقبرص، قامت إسرائيل بتوقيع لترسيم الحدود مع قبرص في 17 ديسمبر 2010، دون الرجوع لمصر.

وظل التوتر المكتوم بين القاهرة وقبرص قائماً، بالنظر إلى تنقيب قبرص بشكل منفرد في حقول تقع ضمن السيادة المصرية، وظل القلق العنوان الأبرز في العلاقة حتى اللقاءات التي جمعت الرئيس المصري ونظرائه في قبرص واليونان، وتم الاتفاق على إعادة ترسيم الحدود البحرية، والنظر في الاتفاقية التي وقعتها مصر مع قبرص، على أن تكون تلك التعديلات بالتفاوض بين جميع الأطراف، وبما يخدم شعوب الدول الثلاثة وليست بلد بعينها.

والأرجح أن عودة التواصل بين مصر من جهة واليونان وقبرص من جهة أخرى يتصل بالتوترات السياسية بين القاهرة وأنقرة منذ سقوط حكم الإخوان المسلمين،  وإصرار أردوغان على وصف ما حدث في 30 يونيو بـ "الانقلاب العسكري".

لذلك ربما ينال التواصل بين القاهرة وقبرص واليونان من المصالح التركية، فإذا ما نجحت مصر في تعديل حدودها البحرية الموقعة مع قبرص في عام 2004، وتعديل اتفاق ترسيم الحدود الموقع في عام 2010 بين قبرص وإسرائيل بما يتضمن اقتسام التنقيب عن الغاز في حقل “ليفياثان” الواقع تحت السيطرة الإسرائيلية وحقل “أفروديت” الواقع تحت السيطرة القبرصية، فإن ثمة انعكاسات سلبية على تركيا التي تتمسك بكون المناطق الاقتصادية الكاملة تختص بحدود الدول وحدها وليس الجزر، ناهيك عن أن تركيا ترى أن أي تفاوض بين قبرص ومصر وإسرائيل على الحدود البحرية هو تفاوض لا يعتد به لأن شمال قبرص غير ممثلة في التفاوض.

القاهرة وأنقرة في المتوسط: انتصارات وانكسارات

على الرغم من أن تركيا بدت منذ عام 2002 وكأنها تعيد تموضعها الجغرافي والسياسي في المنطقة الشرق أوسطية، وصاغت في المرحلة الراهنة سياسة خارجية تختلف كلياً عن السياسة التقليدية التي مارستها سابقاً، وهي بزعامة العدالة والتنمية تبدو فاعلة ديبلوماسياً واستراتيجياً عبر التحول الناشط لإعادة التمركز، بعد تراجع دورها في الإقليم، وتعرض سياستها الخارجية تجاه دول الجوار والقائمة على "تصفير المشاكل" إلى هزات عنيفة عقب الثورات العربية، فإنها تندفع في الوقت الحالي إلى الدخول في خلافات مع عدد من الفاعلين الإقليميين داخل المنطقة، وفي مقدمتهم مصر.

كما عادت أجواء التوتر بين تركيا والقبارصة الأتراك، بعد فوز زعيم القبارصة الأتراك مصطفي أكينجي في الانتخابات الرئاسية في الشطر الشمالي من الجزيرة مطلع مايو الجاري، حيث رحبت قبرص اليونانية - للمرة الأولى - بانتخاب رئيس جديد لجمهورية شمال قرص التركية، كما طالب أكينجي بما اعتبره تصحيحاً للعلاقة بين أنقرة وجمهورية شمال قبرص، رافضاً تعبير تستخدمه الدولة التركية لوصف هذه العلاقة على أنها أخوة بين أخ وشقيقه الصغير، قائلاً: "آن للأخ الصغير أن يكبر ويجالس أخيه"، وأعلن رفضه فرض أنقرة "وصايتها" على القبارصة الأتراك، مشيراً إلى تفضيله "توحيد شطري الجزيرة وتسوية القضية القبرصية".

وقد أثرت تلك التطورات على صورة تركيا ونفوذها في منطقة شرق المتوسط، وأصبح الموقف التركي أكثر ارتباكاً، خصوصاً مع توقيع مصر وقبرص واليونان في 29 أبريل الماضي على إعلان "نيقوسا" الذي تضمن الالتزام بتعبئة كل القدرات لدعم المصالح المشتركة من خلال آلية التشاور الثلاثية، التي تجتمع بانتظام على مختلف المستويات بهدف العمل على إطلاق الإمكانات الكاملة للمنطقة، وأضاف الإعلان أن اكتشاف احتياطات مهمة من النفط والغاز في شرق البحر المتوسط سيكون حافزاً للتعاون الإقليمي.

ورغم أن أنقرة تسهم بثلث موازنة جمهورية شمال قبرص التركية منذ انقسامها عام 1974، فإن خيار أكينجي يعكس قناعة توصل إليها سكان الشطرين وتتعلق بجدوى المصالحة التي تمكنهما من العمل معاً للاستفادة من حصة الجزيرة من المخزون الضخم من الغاز والنفط في مياهها الإقليمية، والذي تتقاسمه مع دول مجاورة عدة، ليست بينها تركيا التي لا تخفي أطماعها في حصة القبارصة الأتراك.

لذلك فإن فوز المعتدل أكينجي قد يزيد من صعوبة الوجود التركي في شرق المتوسط، إذ يأمل أكينجي بأن تذلل ثروة الغاز المكتشفة حديثاً العراقيل التي تعترض مسار المفاوضات الدبلوماسية لتوحيد شطري الجزيرة القبرصية، علاوة على أنه لا يريد أن تستخدم أنقرة المسألة القبرصية، لمساومة قبرص وإسرائيل على مد خط غاز عبر تركيا بشروط أنقرة، بحيث تبقى مسألة قبرص مجمدة إلى حين تأمين الحكومة التركية مصالحها الاقتصادية.

القصد أن ثمة صراعات خفية ومعلنة بين دول حوض شرق المتوسط غذتها الاكتشافات الغازية والنفطية من جهة، وأطر التعاون والصراع بين دول الحوض من جهة ثانية، ففي الوقت الذي قطعت مصر واليونان وقبرص شوطاً كبيراً على صعيد التعاون الاستراتيجي، يتواصل الصراع بين اليونان ومعها قبرص في مواجهة أنقرة.