يطرح الانهيار المفاجئ لحكم عائلة الأسد، الذي دام 54 عاماً في سوريا، إمكانية نشوء نظام إقليمي جديد. في حين لا يزال الأمر غير مؤكد، بيد أن تركيا، التي استضافت معظم اللاجئين السوريين ودعمت الجانب الفائز، تبدو في وضع قيادي لتشكيل هذا المستقبل. تُقدر تكلفة إعادة إعمار سوريا بنحو 400 مليار دولار، والشركات التركية في وضع جيد لتأمين عقود كبيرة؛ إذا اتجه الاقتصاد السوري، الذي تقوده الدولة، نحو تبني نظام السوق الحرة.
في هذا السياق، نشر معهد "تشاتام هاوس" البريطاني، في 17 ديسمبر الجاري، تحليلاً تحت عنوان "طموحات تركيا في مجال الطاقة تكتسب زخماً جديداً بعد سقوط الأسد". وأشار كريم الجندي، وهو زميل مشارك بالمعهد، إلى أن أنقرة بإمكانها توظيف المعارضين السوريين للتفاوض على اتفاقيات دفاع مواتية مع الحكومة الجديدة في دمشق، على غرار اتفاقيات مماثلة عقدتها أنقرة مع دول أخرى كالصومال وليبيا. ومن شأن مثل هذه الترتيبات أن توسع بشكل كبير العمق الاستراتيجي لتركيا بمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط.
يمثل ترسيم الحدود البحرية فرصة حاسمة أخرى، فقد تكون الحكومة السورية الجديدة أكثر استعداداً للاعتراف بمطالبات المنطقة الاقتصادية الخالصة التركية في شرق البحر الأبيض المتوسط؛ مما يعزز موقف أنقرة في النزاعات القائمة مع اليونان وقبرص. قد يشمل هذا كلاً من المطالبات التركية ومطالبات قبرص الشمالية التركية، وهي دولة، بحكم الأمر الواقع، لا تعترف بها إلا أنقرة.
إعادة تشكيل شرق المتوسط:
لقد لاحت هذه الفرص في وقت تبذل فيه أنقرة جهوداً حثيثة؛ لترسيخ مكانة تركيا كمركز رئيسي للطاقة في المنطقة. وقد برزت هذه الطموحات المتجددة بشكل كامل في حدث رئيسي للطاقة، نُظم في مدينة إسطنبول بالشهر الماضي. وقد استضاف المسؤولون الأتراك وزراء البلدان الرئيسية المنتجة للغاز، بما في ذلك أذربيجان وليبيا وأوزبكستان، إلى جانب ممثلين من دول العبور مثل جورجيا، وكذلك المستوردين من أوروبا الشرقية.
وتتمثل رؤية أنقرة في أن تعمل تركيا كنقطة عبور رئيسية بين منتجي الغاز وصولاً إلى الشرق والجنوب، والأسواق الغربية. وتوفر البنية الأساسية الحالية للطاقة أساساً جيداً لهذه الطموحات، ويُثبت خط أنابيب الغاز الطبيعي عبر الأناضول، والذي يشكل جزءاً من ممر الغاز الجنوبي الذي ينقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا، ملاءمة تركيا بالفعل كدولة عبور.
كما تمتلك تركيا سبعة خطوط أنابيب للغاز، وخمس محطات للغاز الطبيعي المسال، وثلاث وحدات تخزين عائمة، ومنشأتين للتخزين تحت الأرض، فضلاً عن قدرة استيراد فائضة كبيرة يمكن استغلالها لتعزيز التجارة.
يخلق قيام دولة سورية جديدة مستقرة فرصة لتركيا للاستفادة من هذه الإمكانات، من خلال إنشاء خط أنابيب للغاز يمتد إلى الغرب عبر سوريا، مع الاتصال بخط أنابيب الغاز العربي. كما يمكن لتركيا أن تقدم لمنتجي الغاز الإقليميين الآخرين طريقاً أكثر جدوى تجارياً إلى الأسواق الأوروبية.
لقد واجه مشروع خط أنابيب "إيست ميد" البارز، والمدعوم من منتدى غاز شرق المتوسط، صعوبة في تحقيق الجدوى الفنية والمالية، حيث لم يحقق خط الأنابيب المقترح بطول 1900 كيلومتر، والذي يربط إسرائيل وقبرص باليونان، سوى تقدم ضئيل. كما تعرض خط الأنابيب لضربة كبيرة، بعدما سحبت الولايات المتحدة الدعم المقدم له في عام 2022.
من شأن إنشاء طريق بري عبر سوريا يمتد إلى البنية التحتية الحالية في تركيا، أن يوفر بديلاً أقصر وأبسط من الناحية الفنية وأكثر فعالية من حيث التكلفة. وقد يخلق هذا أيضاً فرصة مستقبلية للبنان، الذي بدأ مؤخراً أعمال التنقيب البحري ويفتقر إلى البنية الأساسية للتصدير الخاصة به. ولبنان ليس عضواً في منتدى غاز شرق المتوسط، وقد تجد بيروت الطريق التركي جذاباً بشكل خاص؛ إذا أثبتت جهودها في التنقيب عن الغاز نجاحها.
بالإضافة إلى ذلك، قد يسمح الاستقرار في سوريا بإحياء مشروع خط الأنابيب الذي ظل، مهمشاً، لفترة طويلة؛ ويهدف لربط حقول الغاز الطبيعي القطرية بتركيا عبر المملكة العربية السعودية والأردن وسوريا. وقد رفض نظام الأسد الخطة. ويقال إنه كان يهدف إلى حماية صادرات الغاز الروسية إلى الأسواق الأوروبية. ولم يستغرق الأمر سوى يومين فقط من سقوط الأسد؛ لكي يُعبر وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار علناً عن انفتاحه على إعادة النظر في الخطة.
ما وراء النفط:
الجدير بالذكر أن بيرقدار أشار أيضاً إلى اهتمام أنقرة بالتعاون مع سوريا في إعادة بناء نظام الطاقة، بما يتجاوز الوقود الأحفوري. لقد حققت تركيا نجاحاً كبيراً في توسيع قدرات شبكة الكهرباء المولدة عبر مصادر الطاقة المتجددة، حيث تم توليد 43% من الكهرباء في البلاد في عام 2023، من خلال مزيج من طاقة الرياح والطاقة الشمسية والطاقة الكهرومائية؛ مما يتيح تبني خطة عملية لتطوير نظام الطاقة في سوريا بعد الحرب.
هذا النموذج ذو أهمية خاصة؛ نظراً لوفرة موارد الطاقة الشمسية في سوريا، وسط الحاجة الملحة لإعادة بناء قدراتها الكهربائية اللازمة لدعم التنمية الاقتصادية. وسيكون تكامل الشبكة التركية السورية بمثابة عقدة حاسمة في شبكة الكهرباء الناشئة في شرق البحر الأبيض المتوسط. وستساعد هذه البنية الأساسية على إدارة تقلبات الطاقة المتجددة، ووضع تركيا كمرساة شمالية لنظام طاقة إقليمي متنامٍ.
تمثل المكونات الأخرى للشبكة (في شرق المتوسط) بنية ناشئة للطاقة، وهي قادرة على تحويل أمن الطاقة الإقليمي، ودعم تكامل مصادر الطاقة المتجددة. كما بإمكانها أن تعزز التعاون الاقتصادي، وتساعد على الحد من التوترات الجيوسياسية، عبر زيادة الاعتماد المتبادل.
التحديات البنيوية والفرص الاستراتيجية:
يطرح الانفتاح الاستراتيجي لتركيا بعد سقوط الأسد فرصاً وخيارات استراتيجية؛ إذ إن بنية الطاقة الإقليمية الناشئة على الرغم من كونها واعدة، تواجه تحديات بنيوية وسوقية كبيرة. ولا يزال إنشاء حكومة مستقرة ومعترف بها دولياً في سوريا غير مؤكد.
إضافة إلى ذلك، سوف ينخفض الطلب الأوروبي على الغاز بعد عام 2030، كما أن الجهات التمويلية الدولية لديها شهية أقل للاستثمار في البنية الأساسية للوقود الأحفوري. حتى مع البيئة السياسية المواتية في سوريا، تواجه تركيا قراراً حاسماً، ما إذا كانت ستواصل طموحاتها التقليدية في مجال الغاز، والتي قد تواجه عوائد متراجعة، أو تسعى لبسط نفوذها من خلال سياسات خطوط الأنابيب التقليدية، أو حتى الاستفادة من هذه اللحظة لوضع نفسها في قلب جهود تعزيز انتقال الطاقة النظيفة بالمنطقة.
ختاماً، يبدو أن إعطاء الأولوية للطاقة المستدامة على حساب شبكات الغاز التقليدية هو أفضل طريق يمكن لتركيا عبره تحويل ميزتها الاستراتيجية المؤقتة إلى نفوذ إقليمي دائم. بغض النظر عن ذلك، فإن الخيارات التي تتخذها أنقرة في الأشهر المقبلة؛ ستكون محورية لمستقبلها كمركز إقليمي وللمشهد الطاقي بمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط بأكمله.
المصدر:
Elgendy, K. (2024, December). Turkey's energy hub ambitions have new momentum after Assad's fall. Chatham House. https://www.chathamhouse.org/2024/12/turkeys-energy-hub-ambitions-have-new-momentum-after-assads-fall