أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

مخاطر ناشئة:

كيف يهدد التزييف العميق و"الميمات" النظام المالي الأمريكي؟

08 أكتوبر، 2024


عرض: عبد المنعم علي

يُشكل استقرار النظام المالي الأمريكي ركناً رئيسياً في استقرار الاقتصاد العالمي والأسواق العالمية، لكن التطورات المتلاحقة للتقدم التقني والتكنولوجي والتحولات الجيوسياسية الراهنة طرحت تهديدات جديدة لهذا النظام المالي مثل: الهجمات على نماذج التداول المالي، وإغراق السندات من جانب حاملي الديون الأمريكية الأجانب، واستخدام التزييف العميق لنشر المعلومات المضللة، والهندسة "الميمية" للتلاعب بالمعتقدات والسلوكيات. وتشكل تلك التهديدات خطراً محدوداً على الوضع الاقتصادي في الأمد القريب، لكنها قد تتفاقم مع التآكل التدريجي للمرونة والقدرة المالية للاستجابة لتلك التطورات بمرور الوقت. 

وفي هذا السياق، تأتي أهمية دراسة الباحث توبياس سيتسما وآخرين، بعنوان "التهديدات التكنولوجية والاقتصادية للنظام المالي الأمريكي: تقييم أولي للمخاطر المتزايدة" التي نشرتها مؤسسة راند في العام 2024؛ إذ تناولت أنماط التهديدات الناشئة للنظام المالي، خاصة الناجمة عن وسائل التواصل الاجتماعي والتقدم في مجال الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن محددات تأثير تلك التهديدات ومتطلبات التعامل معها.

تهديدات متباينة 

ثمة أربعة أنماط أساسية من التهديدات تواجه النظام المالي الأمريكي، وهي على النحو الآتي:

1- الهجمات الإلكترونية وتسميم البيانات: تُعد تلك الهجمات الأكثر انتشاراً بفضل الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي والتعليم الآلي من أجل التلاعب بالبيانات، ومن أمثلتها القرصنة والتجسس وسرقة الأصول. وبالنظر إلى سوق التداول في الولايات المتحدة؛ فإن 80% من حجم ذلك التداول يتم بواسطة خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تسمح بمعالجة سريعة للمعلومات، واتخاذ القرارات في فترات زمنية أسرع من البشر. وعلى الرغم من هذه الأهمية؛ فإنها تُشكل تحدياً في ضوء تنامي الهجمات المعادية وتسميم البيانات؛ فالهجمات المعادية تؤثر بصورة كبيرة في عمليات التداول عبر التلاعب المتعمد وإدخال اضطرابات في بيانات التداول، في حين تحاول عمليات تسميم البيانات إدخال أنماط غير صحيحة وتوقعات متحيزة؛ الأمر الذي يتسبب في التنبؤ بنتائج غير دقيقة عن عمليات التداول.

ويتضمن هذا النمط مخاطر كبيرة على النظام المالي في ضوء أن الدفاع ضد الهجمات المعادية أمر صعب؛ لأن هناك العديد من الطرق لا حصر لها، ويمكن للخصم من خلالها التلاعب بالمدخلات التي يتم إدخالها في النموذج، إضافة إلى أن الهجمات المعادية على نماذج التداول القائمة على التعلم العميق تؤدي إلى خسائر مالية كبيرة تتراوح بين 23% إلى 32% في محافظ التداول؛ لأنها تتسبب في اتخاذ قرارات تداول دون المستوى الأمثل وتوقعات غير دقيقة حول الاستثمارات المربحة.

2- إغراق السندات: يستهدف هذا التهديد إضعاف الاقتصاد الأمريكي من خلال البيع المتعمد لكميات كبيرة من سندات الخزانة الأمريكية لإحداث فوضى بالسوق. هذا النمط ذو تأثير كبير لكون الأسواق والحكومات لا تستطيع التخطيط له؛ في ضوء ما تستند إليه عملية إغراق السندات من البيع المكثف لمرة واحدة بما يتسبب في انخفاض أسعار السندات وارتفاع أسعار الفائدة وإحداث فوضى واسعة النطاق تهز الأسواق. 

وجاء ذلك النمط للتهديد بالأساس من الصين التي تمتلك سندات خزانة أمريكية أكثر من أي دولة أجنبية باستثناء اليابان، إضافة إلى العلاقة الجيوسياسية المتغيرة بين الولايات المتحدة والصين. وتجلى توظيف ذلك النمط بوضوح خلال الأزمة المالية في عام 2008، عندما حثت روسيا الصين على التعاون للتخلص من ديون وكالات الحكومة الأمريكية لإحداث اضطراب في السوق الأمريكية، وحدث الأمر مرة أخرى في عامي 2022 و2023 مع استمرار الصين في تقليص حيازتها من سندات الخزانة الأمريكية.

إلا أن الأسواق المالية الأمريكية استطاعت امتصاص هذه الصدمة؛ بفضل ما تتسم به السوق الأمريكية من مرونة ناجمة عن حجم السوق والسيولة المتوافرة، فضلاً عن تدخل بنك الاحتياطي الفدرالي. على سبيل المثال، باعت الصين وروسيا في عام 2008 ما قيمته 220 مليار دولار من الأوراق المالية التابعة لمؤسسات حكومية. وأدى هذا إلى زيادة أسعار الفائدة بنحو 1.4 نقطة مئوية. مع ذلك، لم يكن لتلك الاستراتيجية تأثير في السوق الأمريكية بفضل سرعة استجابة الحكومة الأمريكية بإجراءات للحد من التداعيات من بينها، تشديد السياسة النقدية السريع نسبياً من قِبَل بنك الاحتياطي الفدرالي لشراء كميات كبيرة من الأصول؛ ومن ثم استقرار أسعار الفائدة والحد من التقلبات في الأمد القريب، كما اتخذ بنك الاحتياطي الفدرالي إجراءات لاحقة تجلت في رفع أسعار سندات الخزانة الأمريكية لخمس سنوات بنحو 4 نقاط مئوية.

ومن المرجح أن تتسبب عمليات إغراق السندات في تقلبات قصيرة الأجل وخسائر فادحة محتملة لبعض حاملي السندات، لكنها لن تدمر الاقتصاد. وعلى الرغم من أن عمليات البيع التي قامت بها الصين في عام 2008 كانت ذات طبيعة هجومية كسياسة مالية لتحقيق أهداف سياسية؛ فإنها فشلت في تحقيق هذا الهدف، ومنذ ذلك الحين لم تنجح الصين في التأثير في السياسة النقدية الأمريكية؛ مما يعكس حقيقة أن القوة السوقية للصين غير كافية لتوليد تنازلات جيوسياسية ذات مغزى.

3- التزييف العميق للمعلومات: من أكثر التهديدات خطراً على النظام المالي الأمريكي هو استخدام التكنولوجيا المتقدمة لنشر مواد ومعلومات مزيفة يتم بثها؛ إذ تنطوي هجمات التزييف العميق على تغيير أو تلفيق مقاطع الفيديو أو تسجيلات صوتية أو صور أو نصوص لخلق انطباع زائف، ويتم نشرها من خلال منصات التواصل الاجتماعي للتأثير في الرأي العام أو التلاعب به، وتستهدف المستهلكين والمستثمرين والشركات وصناع السياسات. وعادةً ما يتم إنشاء التزييف العميق باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التي تطورت بسرعة على مدار السنوات الماضية، وتتعرض الشركات التي يتم استهدافها بالتزييف العميق إلى الإضرار بسمعتها ومبيعاتها وأسعار أسهمها.

وتشكل الصور ومقاطع الفيديو المزيفة خطراً كبيراً على الأسواق المالية، ومن الأمثلة البارزة على ذلك ما حدث في 22 مايو 2023، عندما بدأت صورة لانفجار خارج البنتاغون في الانتشار على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى الرغم من الإعلان عن أن هذه الصورة مزيفة؛ فإنها تسببت في انخفاض مؤشر ستاندرد آند بورز بمقدار 0.3 نقطة مئوية في دقائق. كما أن استنساخ الأصوات لاستهداف الأفراد له تأثيرات كبيرة في النظام المالي. ففي عام 2019 استطاع محتالون سرقة 667 مليون دولار من سكان الولايات المتحدة، وخسرت الشركات الأمريكية أكثر من 1.7 مليار دولار؛ بسبب الاحتيال في استنساخ الأصوات في العام ذاته.

وهناك عاملان يؤثران في حجم التأثير الناجم عن عمليات التزييف العميق، الأول يتعلق بقدرة الخصم على الانخراط في حملة تزييف عميق قد تمتد إلى أشكال متعددة من الوسائط، والآخر يتمثل في طبيعة التهديد؛ إذ إن النظام المالي قد يكون أكثر عرضة للضرر حال قيام الخصم بنشر مقطع فيديو مزيف لرئيس الولايات المتحدة أو وزير الدفاع؛ بحيث يؤدي إلى خلق فوضى سياسية تؤثر في الأسواق المالية. 

4- الهندسة الميمية: يستند هذا النمط من التهديد إلى التلاعب الاستراتيجي بالأفكار أو المفاهيم أو المعتقدات للتأثير في الجمهور المستهدف؛ بالاعتماد على المحفزات النفسية أو التحيزات المعرفية بهدف تغيير المواقف والمعتقدات والسلوكيات، وتتضمن الهندسة الميمية تصميم أفكار أو ثقافة فيروسية لتحقيق نتيجة نفسية أو مادية محددة، وهذا المصطلح مشتق من الهندسة الوراثية؛ إذ إن الميمات هي المعادل الثقافي للجين البيولوجي، وبشكل أكثر تحديداً فإن الميمات هي وحدات ثقافية متعددة الأوجه، مثل: الصور أو مقاطع الفيديو أو العبارات أو المفاهيم، والتي تنتشر بسرعة عبر الإنترنت من خلال التقليد والمشاركة. 

وتاريخياً؛ تُعد روسيا الفاعل الأساسي في استخدام الهندسة الميمية السرية، ومع ذلك، بدأت الصين في تحويل تركيزها من عمليات هندسة الميمات على وسائل التواصل الاجتماعي واسعة المدى، إلى تلك التي تستهدف أفراداً محددين. وتعتمد الهندسة الميمية على نمطين الأول، هجوم سريع يهدف إلى تدهور سريع لمجموعة محددة من الأسهم؛ والآخر تدهور طويل الأمد للمعتقدات أو الأيديولوجيات أو الثقة في السوق أو المؤسسات المالية، ومن الأمثلة الشائعة تدخل شركة أبحاث الإنترنت الروسية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016 من خلال قيامها وبشكل استراتيجي بنشر محتوى إعلامي اجتماعي زائف؛ مصمم لتحقيق أقصى قدر من التلاعب عمداً بمعتقدات وأفعال الناخبين الأمريكيين.

وتشكل الهجمات الهندسية الميمية التي تعزز تدهور المعتقدات والقيم على المدى الطويل تحدياً كبيراً، ويتوقف ذلك على القدرة على إنشاء معلومات مضللة يمكن تصديقها وانتشارها على نطاق واسع من خلال الاستفادة من الذكاء الاصطناعي؛ مما يزيد من احتمالية وقوع هجوم هندسي ميمي ناجح.

مُحددات متعددة:

تنطوي أنماط التهديدات للنظام المالي الأمريكي على تكاليف مباشرة محددة للأسواق، وأخرى غير مباشرة تؤثر في الأعراف أو المؤسسات، وهناك عدة عوامل تؤثر في توظيف أنماط التهديدات وتداعياتها وهي:

- القدرات التكنولوجية: تسهم تلك القدرات في احتمالية وقوع هجوم ناجح من خلال التحسين التكنولوجي أو زيادة تكامل التكنولوجيا، على سبيل المثال، يصبح الهجوم المزيف العميق أكثر احتمالية مع تحسن تقنيات الذكاء الاصطناعي؛ مما يؤدي إلى أن تصبح المعلومات المزيفة أكثر واقعية ويصعب اكتشافها. 

- المحفزات الظرفية: تعتمد بصورة كبيرة على فكرة السياق والظروف الموجودة مسبقاً؛ مثل: عدم اليقين في السوق أو التقلبات أو أزمة العلاقات العامة، كما أن التوترات الجيوسياسية تشكل محفزات مهمة قد تغير دوافع الجهات الفاعلة الأجنبية من خلال تقليل التكلفة السياسية التي قد تخلفها الضربة الاقتصادية، خاصةً وأن الهجوم الذي يهدف إلى زعزعة استقرار القطاع المالي الأمريكي قد يكون له رد فعل عكسي على اقتصاد الجهة الفاعلة في الدولة المهاجمة؛ مما يقلل من الحوافز. مع ذلك قد تكون هناك بعض الدول خارج النظام المالي الأمريكي، مثل كوريا الشمالية أو تلك التي تخضع لعقوبات اقتصادية مثل روسيا؛ مما يجعل لديها الحافز لإلحاق الضرر بالاقتصاد الأمريكي.

- إدارة المخاطر: إن عملية إدارة المخاطر تتمثل في التدابير المختلفة التي يتم اتخاذها لتقليل تكلفة الهجوم على النظام المالي، وتشمل هذه العوامل التدابير التكميلية لتعطيل أنظمة الذكاء الاصطناعي المالية، وسياسات حوكمة البيانات المنسقة.  

ختاماً، يُعد النظام المالي الأمريكي ركيزة مهمة في إدارة المخاطر للسوق العالمية، هذه الأهمية تجعل من ذلك النظام هدفاً حيوياً للدول ذات الصراعات مع الولايات المتحدة، عبر توظيف الأنماط والتهديدات التي تؤثر في الاستقرار المالي داخل الدولة. ومع ذلك فإن أغلب التهديدات التي تمت الإشارة إليها قد تتسبب في خسائر اقتصادية أكثر محدودية حال حدوثها بصورة منفردة، لكن حال تعرض النظام المالي الأمريكي إلى سلسلة من المخاطر التدريجية والمترابطة؛ فإن ذلك قد يؤدي إلى تأثيرات واسعة النطاق.

وتتطلب مجابهة تلك التهديدات تبني سياسات قائمة على فكرة التطوير والاستخدام المسؤول لتقنيات الذكاء الاصطناعي لكونها ضمانات مهمة للاستقرار المالي مع فرض ضوابط التصدير على أشباه الموصلات المتقدمة وإلزام مقدمي الخدمات السحابية بإبلاغ الحكومة الأمريكية في إطار السياسات التنظيمية. أضف إلى ذلك، وضع سياسات اقتصادية تعزز مرونة القطاع المالي من خلال تشجيع المنافسة في السوق؛ مما يؤدي إلى توسيع الخيارات المتاحة للمؤسسات المالية التي تتطلع إلى دمج الذكاء الاصطناعي في عملياتها. 

وأخيراً، ثمة أهمية للجمع بين أصحاب المصلحة لتحقيق فهم أكثر تطوراً لكيفية تطور تهديدات النظام المالي الأمريكي، خاصة على مدى العقد المقبل، كما أن المراقبة المستمرة والتكيف مع المشهد المتغير، واحتضان التقدم التكنولوجي بطريقة مسؤولة، وتعزيز سياسات المنافسة والشفافية، ستمكن الولايات المتحدة من تخفيف حدة هذه التهديدات الناشئة والحفاظ على استقرارها المالي.

المصدر:

Sytsma, T., Marrone, J. V., Shenk, A., Leonard, G., Grek, L., & Steier, J. (2024, July). Technological and economic threats to the U.S. financial system: An initial assessment of growing risks.  RAND Corporation. https://www.rand.org/pubs/research_reports/RRA2533-1-v2.html