تعيش منطقة الشرق الأوسط وسط حالة من الشك وعدم اليقين بشأن الخطوات القادمة بعد إطلاق إيران نحو 200 صاروخ بالستي مباشرة من أراضيها على إسرائيل، مساء يوم 1 أكتوبر 2024، وذلك رداً على مقتل كل من رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران، يوم 31 يوليو الماضي، وأمين عام حزب الله اللبناني، حسن نصر الله، ونائب قائد الحرس الثوري الإيراني، عباس نيلفروشان، في بيروت يوم 27 سبتمبر الماضي.
حالة ترقب:
مثلما ردت إسرائيل على الهجوم الإيراني المباشر الأول في شهر إبريل الماضي، تعهدت تل أبيب في مطلع أكتوبر الجاري بالرد على "أكبر هجوم صاروخي" في تاريخ إسرائيل. ومن اللافت للانتباه تصميم الولايات المتحدة على الرد، وتأكيد مسؤولين أمريكيين ضرورة وجود عواقب للهجوم الصاروخي الإيراني، حتى إن جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي، امتنع عن مطالبة إسرائيل "بضبط النفس"؛ ما قد يؤشر على أن واشنطن مستعدة لأول مرة للمخاطرة عبر دعم مباشر لهجوم إسرائيلي جديد على الأراضي الإيرانية؛ الأمر الذي يشكل تحولاً كبيراً وغير مسبوق في السياسة الأمريكية عامةً والإدارات الديمقراطية بشكل خاص فيما يتعلق بأدوات الرد على طهران؛ إذ كان الديمقراطيون في السابق يعملون على تهدئة التوترات وعدم التصعيد بين إسرائيل وإيران.
وبينما يعيش الشرق الأوسط هذه الحالة من الترقب، توضح مؤشرات كثيرة أن الرد الإسرائيلي يمكن أن يُطلق مرحلة نوعية ومختلفة من الصراع المباشر مع إيران إذا ما نفذت تل أبيب تهديداتها بقصف بنى تحتية أو منشآت حيوية مثل: مخازن وحقول النفط والغاز الإيرانية، وصولاً إلى احتمالية استهداف المفاعلات النووية في بوشهر ونطنز وفوردو. وهذا الأمر يؤشر على أن المنطقة ربما باتت على عتبة حرب استنزاف طويلة، في ظل تعهد الأذرع الإيرانية باستهداف المصالح الأمريكية والغربية في اليمن والعراق وسوريا؛ ومن ثم تظل التساؤلات هي ما السيناريوهات التي يمكن أن تنتظر الشرق الأوسط خلال الأيام المقبلة؟ وهل هناك مساحة للدبلوماسية بين الصواريخ الإيرانية والطائرات المقاتلة الإسرائيلية؟
سيناريوهات مُحتملة:
لعل أكثر التعقيدات التي تحيط بحسابات دول الشرق الأوسط تتعلق "بالنشوة السياسية والميدانية" لطرفي الحرب. فبعد اغتيال حسن نصر الله، والنجاحات الإسرائيلية العسكرية منذ تفجيرات "البيجر" في 17 سبتمبر الماضي، زادت ثقة إسرائيل وخاصةً أجهزتها الاستخباراتية والعسكرية في تحقيق إنجاز تاريخي عبر "إسكات الخصوم" على عدة جبهات، وهي إيران والعراق وسوريا وحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن وحركة حماس، وفقاً لما قاله رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو.
على الجانب الآخر، شكّل الرد الإيراني مساء يوم 1 أكتوبر الجاري باستخدام عدد كبير من الصواريخ البالستية التي وصلت الأجواء الإسرائيلية خلال 12 دقيقة فقط، "نشوة ميدانية" من طراز خاص لأذرع طهران بعد أن ساد اعتقاد بأن إيران تخلت عن حلفائها الإقليميين بسبب التأخر في الانتقام لاغتيال هنية.
وفي ظل هذه البيئة من السيولة الميدانية والعسكرية، وغياب الحد الأدنى من المساحات المشتركة بين أطراف الحرب، وعدم وجود الطرف الإقليمي أو الدولي الذي يضغط أو بالأحرى يريد أن يضغط لمنع الانزلاق نحو الهاوية السياسية والعسكرية، تكون المنطقة على مشارف سيناريوهات رئيسية هي كالتالي:
1- نشوب حرب ثنائية: يفترض هذا السيناريو أن تقتصر الضربات الكبيرة والواسعة على إيران وإسرائيل فقط، وهو يتوقف على طبيعة الرد الإسرائيلي على الهجوم الصاروخي الإيراني؛ فإذا نفذت تل أبيب تهديداتها بـ"الهجوم الهجين" الذي يجمع بين الردين الأمني والعسكري بمعنى القيام بعمليات تخريبية ضخمة بجانب الهجوم على أي من آبار النفط والغاز أو منصات ومخازن إطلاق الصواريخ أو المنشآت النووية الإيرانية؛ لن يكون أمام طهران حينها إلا التصعيد، وتنفيذ موجات متتابعة من الرد الصاروخي على إسرائيل دون توقف. وفي هذه الحالة، يمكن أن يشهد الإقليم حرباً مثل التي كانت بين العراق وإيران في الفترة من 1980 إلى 1988.
وتملك كل من إسرائيل وإيران الأدوات التي تدفع بهما نحو هذا السيناريو؛ إذ تملك طهران أكبر قوة صاروخية في المنطقة، ولديها أكثر من 17 ألف صاروخ من طراز "سجيل" الذي يستطيع الوصول لهدف على بُعد 2500 كلم، وصاروخ "خيبر" الذي يصل مداه إلى نحو 2000 كلم، بالإضافة إلى صواريخ "فاتح" و"عماد" ذات المدى الطويل، وفقاً لـ"رابطة الحد من الأسلحة" وهي منظمة غير حكومية مقرها واشنطن العاصمة، والتي أوضحت أن إيران لديها صواريخ تعمل بالوقود الصلب الأكثر دقة، والأكثر قدرة على الوصول إلى أهداف بعيدة. وكل هذا يؤشر على أن إيران يمكن أن تدخل في حرب طويلة مع إسرائيل التي لديها أكثر من 600 طائرة حربية من الطرازات الحديثة مثل: "إف 15" و"إف 16" و"إف 35"، وجميعها طائرات تستطيع الوصول إلى الأراضي الإيرانية.
وهذا السيناريو يمكن أن يتوقف فقط حال إدراك أي من أطراف الحرب أنه منهك، أو قد يتعرض لخطر وجودي مثل: نهاية نظام الحكم في إيران، أو سقوط عدد كبير من القتلى الإسرائيليين نتيجة هجمات الصواريخ الإيرانية المتلاحقة.
2- اندلاع حرب إقليمية شاملة: قد يحدث هذا السيناريو؛ إذا شاركت الولايات المتحدة مع إسرائيل بشكل مباشر في استهداف الأراضي الإيرانية، وحينها من الممكن أن تندلع "حرب إقليمية"، بحيث نكون وقتها أمام تحالفين؛ الأول بقيادة الولايات المتحدة وإسرائيل وبريطانيا التي أعلنت مشاركتها في التصدي للصواريخ الإيرانية، وعلى الجانب الآخر إيران ووكلاؤها وبصفة خاصة الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق.
وإذا اندلعت الحرب، وفق هذا السيناريو؛ فإنها قد تستهدف المصالح الأمريكية والغربية ليس فقط في المنطقة، بل ربما تستهدف أيضاً السفارات الإسرائيلية والغربية في أماكن أخرى حول العالم. ولعل التفجيرات بالقرب من السفارة الإسرائيلية في كوبنهاغن مطلع أكتوبر الجاري، تُعد مؤشراً على ما يمكن أن يحدث حال اندلاع الحرب الإقليمية الشاملة.
3- تهديد النظام الإيراني: يفترض هذا السيناريو أن تستغل واشنطن وتل أبيب الهجوم الصاروخي الإيراني؛ لتشاركا في استهداف قادة النظام الإيراني على غرار مقتل هنية ونصر الله، بالتزامن مع قصف منشآت حيوية؛ بما قد يشجع الإيرانيين حينها على الخروج على النظام الحاكم، من وجهة النظر الأمريكية والإسرائيلية.
وعلى الرغم من فشل واشنطن من قبل في اللجوء إلى هذا الخيار لإسقاط النظام الإيراني؛ فإن حديث نتنياهو المباشر من الأمم المتحدة للشعب الإيراني، واللغة الحادة التي تتحدث بها الولايات المتحدة بعد النجاحات الإسرائيلية الأخيرة والهجوم الإيراني على إسرائيل؛ ربما يجعل هذا السيناريو غير مستبعد تماماً، في ظل تأكيد المسؤولين الإسرائيليين أن الأهداف الاقتصادية الإيرانية الثمينة ضمن أهداف الرد الإسرائيلي، وإشارة نتنياهو والجيش الإسرائيلي أكثر من مرة إلى أن رسالتهم لنظام الحكم في طهران سوف تكون على غرار ما فعلوه مع نصر الله.
4- سيناريو إبريل 2024: ففي إبريل الماضي، ردت إسرائيل على إطلاق إيران أكثر من 330 طائرة مُسيَّرة وصواريخ كروز وصواريخ بالستية، بهجوم محسوب بالقرب من محطة بوشهر النووية دون أن تصيبها، ولم يترتب على الهجوم الإسرائيلي حينها أي رد إيراني.
لكن هذا السيناريو غير مُرجح إلى حد ما في الظروف الحالية لأسباب كثيرة، منها أن إيران استخدمت في هجوم الأول من أكتوبر الجاري نحو 200 صاروخ بالستي، وهو ضعف عدد الصواريخ البالستية في هجوم إبريل الماضي، كما أن الموقف الأمريكي هذه المرة أكثر تشدداً تجاه إيران ويشجع تل أبيب على الانتقام؛ لأن الحسابات الأمريكية تفترض أن ترك طهران دون رد صارم قد يشجعها وحلفاءها على استهداف المصالح والقوات الأمريكية في المنطقة.
5- التركيز على لبنان: يفترض هذا السيناريو أن يكون الرد الإسرائيلي على إيران محدوداً، مع العودة للتركيز على جنوب لبنان؛ بهدف إعادة نحو 100 ألف إسرائيلي غادروا منازلهم منذ 8 أكتوبر 2023، وإنشاء منطقة عازلة في جنوب لبنان حتى تضمن إسرائيل عدم تكرار أحداث 7 أكتوبر من الجهة الشمالية، مع إضعاف قدرات حزب الله. ويتحقق هذا الهدف لإسرائيل عبر مرحلة أو عدد من المراحل قد تبدأ بدخول الجيش الإسرائيلي في حرب برية واسعة؛ بهدف طرد "قوة الرضوان" التابعة لحزب الله من جنوب لبنان. وقد يأخذ هذا السيناريو أحد المسارات التالية:
أ- ترسيم الحدود البرية: يعتمد هذا الأمر على قبول إسرائيل، سواء قبل أم بعد التوغل البري، ترسيم الحدود البرية مع لبنان على غرار ترسيم الحدود البحرية عام 2022، وتسوية الخلافات حول 13 نقطة برية بين الطرفين، وهي المشكلة العالقة منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان في مايو 2000. ووفق هذا المسار، ينسحب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، ويحل الجيش اللبناني محل حزب الله على الحدود مع إسرائيل.
ب- مسار هوكشتاين: هو المسار الذي حاول فيه المبعوث الأمريكي، أموس هوكشتاين، إقناع حزب الله بالانسحاب إلى مسافة 8 كيلومترات شمال الخط الأزرق؛ بما يعني طمأنة إسرائيل بعدم تسلل عناصر من حزب الله لخطف مدنيين إسرائيليين على غرار ما جرى في 7 أكتوبر 2023. ويبدو أن تل أبيب تسعى إلى أكثر من ذلك في ظل النجاحات الاستخباراتية والعسكرية التي حققتها منذ 17 سبتمبر الماضي.
ج- منطقة عازلة حتى نهر الليطاني: ففي ظل رفض إيران وحزب الله فصل جبهتي لبنان وغزة، ترجح المؤشرات أن الجيش الإسرائيلي سوف يواصل تنفيذ تهديده بإبعاد القوات التابعة لحزب الله بعمق نحو 30 كيلومتراً، وتمتد هذه المنطقة العازلة من البقاع الشرقي حتى مصب نهر الليطاني في البحر المتوسط. ويحتاج هذا المسار إلى أن تخوض إسرائيل حرباً برية قد تطول مع قوات حزب الله، على غرار عام كامل من الحرب مع حركة حماس في قطاع غزة.
ختاماً، يعيش الشرق الأوسط على صفيح ساخن في انتظار معرفة حدود الرد الإسرائيلي على الهجوم الصاروخي الإيراني، والذي سوف يرسم معالم مرحلة جديدة، ليس فقط لمستقبل الأمن الإقليمي؛ بل يمكن أن يقود إلى تداعيات عميقة على قضايا وملفات بعيدة وخارج المنطقة.