لم تشكل عملية احتلال معبر رفح من جانب القوات الإسرائيلية أية مفاجأة في ظل التصريحات التي كان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يطلقها منذ شهر فبراير الماضي؛ إذ أوضحت هذه التصريحات أن الجانب الإسرائيلي لا يربط بين إنهاء أزمة مواطنيه وجنوده المحتجزين لدى حركة حماس منذ السابع من أكتوبر الماضي، وبين تنفيذ عملية عسكرية في رفح تستهدف القضاء على الوجود العسكري لحماس في تلك المنطقة. بل اعتبر نتنياهو أن عملية رفح يمكن أن تحقق الهدفين معاً: الضغط على حماس للقبول بهدنة، أو عدد من الهدن تتخللها عملية تبادل للمسجونين الفلسطينيين لدى إسرائيل، مقابل عدد من الرهائن الإسرائيليين لدى حماس، والاستمرار في نفس الوقت في السعي نحو القضاء على حماس عسكرياً، وإنهاء حكمها في قطاع غزة في نهاية المطاف. ورغم ذلك يمكن القول إن الضغوط الدولية والمصرية من جانب، وضغوط الرأي العام الإسرائيلي من جانب آخر قد نجحت في تأخير بدء العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح لعدة أشهر، فهل تنجح نفس الضغوط في وضع حدود لتلك العملية؛ بحيث تحولها من عملية حرب شاملة إلى مجرد عدد من العمليات الخاصة التي تستهدف القضاء على أكبر عدد من قادة ومقاتلي حركة حماس فقط؟
يمكن الإجابة عن هذا التساؤل من خلال البحث في ثلاث نقاط:
1- رؤية القيادات السياسية والأمنية الإسرائيلية للنتائج المتوقعة من المعركة في رفح.
2- التطورات المتوقعة في الموقف الأمريكي من عملية رفح.
3- موقف مصر باعتبارها أكثر القوى الإقليمية قلقاً من تأثير العملية الإسرائيلية في رفح في أمنها القومي.
الرؤية الإسرائيلية:
تجتمع القيادات السياسية والأمنية في إسرائيل على حتمية شن عملية عسكرية في رفح لتحقيق أهداف الحرب، وعلى رأسها القضاء على القوة العسكرية لحماس، وإنهاء حكمها في القطاع، إلا أن حجم هذه العملية وأولويتها بالنسبة لقضية تحرير المختطفين والمآلات المنتظرة للحرب، يبدو موضعاً للخلاف بين هذه القيادات لأسباب مختلفة.
يعتقد رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أن شن تلك العملية وتحقيق أهدافها الكاملة يجب ألا تعترضه أية عقبات أو تحفظات مثل: تأثير العملية في فرص بقاء الأسرى الإسرائيليين لدى حماس أحياء (تقول حماس إن العمليات العسكرية الإسرائيلية تسببت في موت عدد من الرهائن)، أو الخوف من تأثير عملية رفح في مستقبل العلاقات الأمريكية الإسرائيلية (بسبب رفض واشنطن لعملية عسكرية شاملة تؤدي الى سقوط عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين).
في المقابل، عبر رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هاليفي، عن اعتراضه على العملية بشكل غير مباشر عندما وجه انتقادات حادة لنتنياهو، في 11 مايو الجاري، متهماً إياه بالفشل في تطوير ما يسمى باستراتيجية الحرب. ونقلت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" عن هاليفي قوله، إن الجيش يهاجم منطقة جباليا، شمالي غزة، مجدداً؛ لأنه لا يوجد تحرك سياسي من شأنه أن يؤدي إلى إنشاء كيان حكم آخر غير حماس في غزة.
ويُعد تصريح هاليفي بمثابة تأييد للجهود الأمريكية التي تريد إنهاء حكم حماس في غزة عن طريق إحلال السلطة الفلسطينية مكانها، أو تسليم القطاع لتحالف إقليمي عربي بدلاً من طروحات نتنياهو، التي تريد تحطيم القدرات العسكرية لحماس فقط، وليس البحث عن بدائل لحكم القطاع، فيما يعتقد هاليفي أنه من دون تحديد الهدف السياسي من الحرب لا يمكن حساب أهداف عملية رفح، خاصة مع ما أثبتته حقيقة اضطرار الجيش للعودة إلى شمال غزة مجدداً بعد تمكن حماس من إعادة السيطرة على شمال القطاع بعد انتهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية هناك في شهر مارس الماضي.
ما يمكن ملاحظته من كل تصريحات القادة الإسرائيليين، أن هناك إجماعاً على ضرورة المضي في خطة القضاء على حماس، ولكن في حين يربط غانتس ذلك بفقدان الأمل في محاولات عقد هدنة وتبادل للسجناء والمختطفين، فإن نتنياهو، مدعوماً بالوزيرين المتطرفين في حكومته بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، يرى عدم الربط بين قضية الرهائن وعملية رفح، بينما يذهب رئيس الأركان هاليفي إلى أن استكمال الحرب يجب أن يسبقه تقديم تصور واضح عن مصير حكم القطاع بعد الحرب.
ويمكن تفسير هذه الاختلافات في إطار حقيقة انقسام الرأي العام الإسرائيلي حول قضية عملية رفح، وعملية تحرير المختطفين؛ إذ أظهر استطلاع للرأي نشره المعهد الديمقراطي الإسرائيلي، في 8 مايو الجاري، أن 47% من الإسرائيليين اليهود، يمنحون الأولوية لتحرير الرهائن، مقابل 42% يرون أن استكمال عملية رفح وتحقيق هدف الحرب بالقضاء على حماس هو الأمر الأكثر أهمية. وبناءً على هذا الانقسام وتقارب النسب بين الجانبين، يبدو من الصعب على صانع القرار الإسرائيلي التخلي عن أحد الهدفين، وهو ما يمكن أن يؤدي عملياً إلى تكثيف إسرائيل لحملتها في رفح تحت ذريعة أن تحرير الرهائن أصبح غير ذي أولوية بسبب إصرار حماس على أن يكون الثمن هو الوقف النهائي للحرب.
ضغوط أمريكية:
منذ بداية تلويح إسرائيل بالدخول إلى رفح، أظهرت الولايات المتحدة تحفظها على ذلك، وأصرت، على لسان الرئيس جو بايدن، بأن الولايات المتحدة لن تقبل بعملية عسكرية ضخمة تهدد حياة عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، وطالبت بدلاً من ذلك بأن تركز إسرائيل على القيام بعمليات نوعية لاغتيال قادة حماس وتفكيك شبكة الأنفاق في القطاع، وفي مرحلة لاحقة بعد أن أدركت صعوبة إقناع إسرائيل بعدم تنفيذ العملية، اشترطت واشنطن أن تقوم إسرائيل بنقل أغلب سكان رفح لأماكن آمنة قبل القيام بأية عملية عسكرية هناك. ولم تستجب إسرائيل لهذا المطلب أيضاً، وبادرت باحتلال معبر رفح كبداية لشن الهجوم الكبير هناك، وهو ما أدى إلى اتخاذ الرئيس بايدن قراراً بتعليق بعض شحنات السلاح الأمريكية، التي كان مقرراً إرسالها لإسرائيل. ورغم ذلك صرح نتنياهو، بأن تعليق شحنات السلاح لن يردع إسرائيل عن تنفيذ عمليتها العسكرية، وإن حاول تقليل عمق المواجهة مع واشنطن بالبدء في ترحيل مئات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين من رفح ومن شمال غزة إلى مناطق في الوسط والغرب.
ولأن إدارة بايدن تدرك مدى عجزها عن فرض مزيد من الضغوط على إسرائيل، خاصة مع احتمال أن يؤثر قرارها بمنع إرسال الأسلحة والذخائر لإسرائيل في فرص الرئيس بايدن في الفوز بولاية انتخابية ثانية، في ظل استغلال منافسه دونالد ترامب ذلك لصالحه بالإعلان عن تأييده التام لغزو إسرائيل لرفح، واتهام إدارة بايدن بتهديد أمن إسرائيل ودعم حماس... لهذا السبب تحولت الولايات المتحدة نحو محاولة إغراء إسرائيل بأنها ستزوّدها بمعلومات استخبارية حساسة عن المواقع التي يختبئ فيها قادة حماس، ومعلومات أخرى عن شبكة الأنفاق في غزة مقابل التراجع عن مواصلة العملية في رفح!!
ولكن يبدو أن هذا العرض قد أضعف الموقف الأمريكي أكثر؛ إذ يمكن للإسرائيليين تأكيد التُّهم الموجهة لإدارة بايدن بأنها تحمي حماس، لأنها تمتنع عن تقديم معلومات تملكها عن أماكن اختفاء قادة حماس وشبكة أنفاقها في القطاع عمداً.
وفي كل الأحوال يبدو أن واشنطن لم يعد أمامها عملياً سوى التمسك بنقل السكان الفلسطينيين بعيداً عن ميدان المعارك أولاً. وقد نقل موقع "تايمز أوف إسرائيل" في تقرير له، في 11 مايو الجاري، عن مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية، لم يذكر اسمه، قوله إن إسرائيل قدمت ضمانات بأن الجيش الإسرائيلي لن يدخل رفح قبل إخلاء حوالي 800 ألف، مما يقدر بنحو مليون فلسطيني يحتمون في رفح. فإذا كانت إسرائيل قد نجحت مؤخراً في إجلاء نحو300 ألف شخص من رفح وشمال غزة خلال ثلاثة أيام فقط (بدأ الإجلاء الكثيف في الثامن من مايو) فما هي أوراق الضغط الأمريكية المتبقية للضغط على إسرائيل إذا ما تمكنت من نقل نصف مليون آخرين من رفح في غضون عشرة أيام على أقصى تقدير؟
الموقف المصري:
يكتسب الموقف المصري من الحرب الدائرة في غزة عامة وعملية رفح خاصة، قوته من عاملين رئيسيين أولهما أن العمليات العسكرية الإسرائيلية في رفح تشكل تهديداً جسيماً للأمن القومي المصري؛ بسبب احتمال وصول الضربات الجوية الإسرائيلية للحدود المصرية لقرب المسافة، حتى ولو عن طريق الخطأ. والثاني أن نفس العمليات الإسرائيلية يمكن أن تتسبب في تدفق مئات الآلاف من الفلسطينيين الهاربين من الحرب نحو الحدود المصرية، وهو ما يشكل تهديداً جسيماً للسيادة المصرية على أراضيها. وتدرك إسرائيل خطورة احتمال وقوع هذين التطورين أثناء تنفيذها عملية رفح؛ مما قد يدفع مصر لإجراءات تصعيدية تبدأ بتجميد العمل بمعاهدة السلام الموقعة بين البلدين عام 1979، مروراً بإلغائها، وعودة العلاقات العدائية بين البلدين بكل تداعياتها السياسية والأمنية وحتى العسكرية. والأمر المؤكد أن إسرائيل لن تغامر بخسارة معاهدة السلام مع مصر، ويمكن للقاهرة أن تنسق مع واشنطن في الضغط على إسرائيل لتحجيم العملية العسكرية في رفح ووضع ضوابط قوية لمنع وقوع مذبحة أو تهجير جماعي للفلسطينيين من غزة. وسيتحتم على إسرائيل في حينها أن تتقدم ببطء في رفح، وأن تدمج العمليات الخاصة الموجهة لاغتيال قادة حماس وتدمير الأنفاق، مع عمليات عسكرية محسوبة تتوخى عدم استفزاز واشنطن والقاهرة بقدر الإمكان. ورغم ذلك لا توجد ضمانات كبيرة بألا يتدهور الوضع في أي لحظة إذا ما وقعت أخطاء عسكرية من جانب إسرائيل تؤدي إلى تحولات في الموقفين المصري والأمريكي.