من المتوقع أن يعزز منتدى الأمن والتعاون الإقليمي بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والاتحاد الأوروبي، الذي عُقد يوم 22 إبريل 2024، في دوقية لوكسمبورغ، التعاون المشترك بين التكتلين الإقليميين الأنشط في العالم، خاصةً أنه ناقش قضايا أمنية لها تداعيات ومخاطر جيوسياسية على الأمن الإقليمي والعالمي؛ ما فتح آفاقاً أوسع ليس فقط للنقاش، وإنما أيضاً لتوحيد الرؤية بين التكتلين.
وشارك في هذا المنتدى رفيع المستوى معالي الأستاذ جاسم محمد البديوي، الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، وجوزيف بوريل، الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، ووزراء خارجية دول مجلس التعاون والاتحاد الأوروبي. ولا يُعد انعقاد المنتدى مفاجئاً؛ لأن هناك أساساً أو إطاراً لنوعية جديدة من العمل أو المقاربات في تحقيق الاستقرار والأمن الدوليين، وهو التركيز على تعزيز العمل الإقليمي في أداء أدوار في تحقيق الأمن الدولي؛ لذا فإن التركيز الأساسي في هذا المنتدى كان على القضايا التي تهدد استقرار المنطقة مثل: الحرب في غزة والعمل على إيقافها، وكذلك حرب أوكرانيا، بالإضافة إلى منع تهديد الملاحة البحرية، فضلاً عن أزمات اليمن وسوريا ولبنان وغيرها.
وبالتالي فإن المنتدى الخليجي الأوروبي يُعد مهماً من حيث طبيعة وتوقيت انعقاده؛ إذ يمر العالم بأزمات تهدد استقراره، وكذلك من حيث مكانة هذين التكتلين، ودورهما في جهود حل أزمات الشرق الأوسط تحديداً، وقدرتهما على التأثير الإيجابي في دوائر صُنع القرار الدولي.
ويُعد منتدى الأمن والتعاون الإقليمي بين الكتلتين الخليجية والأوروبية، باكورة أعمال الشراكة الاستراتيجية بينهما، التي أُعلنت في مايو 2022، والتي تتضمن تعزيز التعاون في مجالات الطاقة، والتحول الأخضر، والتغير المناخي، والتجارة، والاقتصاد، والاستقرار الإقليمي والأمن العالمي، والتحديات الإنسانية والتنموية، وتوثيق العلاقات الإنسانية. كما يُعد المنتدى امتداداً لحوار الأمن الإقليمي الأول بين الجانبين الخليجي والأوروبي، الذي انعقد بالرياض في شهر يناير 2024. وفي المُجمل، هناك أسباب موضوعية تمنح هذا المنتدى أهمية كبيرة، ومنها ما يلي:
1- ترسيخ مقاربة خليجية جديدة: بدأت دول الخليج تتبع مقاربة جديدة في العمل الدولي، وهي "الأقلمة"؛ أي العمل وفقاً لطبيعة كل إقليم في العالم، وخصوصية العلاقات الخليجية معه؛ بما في ذلك من مصالح وتحديات بالمقارنة مع غيره من الأقاليم. ومع أن علاقات مجلس التعاون الخليجي مع دول الاتحاد الأوروبي قديمة، فإن العمل وفق الكتل الإقليمية بات موضع تركيز لديه بشكل واضح خلال العامين الماضيين، وبرز ذلك من خلال استضافة مجلس التعاون فعاليات جماعية مع مجموعات إقليمية مختلفة، منها على سبيل المثال، القمة الخليجية مع رابطة "الآسيان" التي عُقدت يوم 20 أكتوبر 2023 بمدينة الرياض، وذلك في إطار الحرص الخليجي على العمل كمفتاح لحل الأزمات المُعقدة، واتباع استراتيجية تشاركية مع الجميع؛ تهدف للحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليمي، الذي قد يؤدي في النهاية إلى الاستقرار العالمي.
ويُحسب لدول الكتلتين الخليجية والأوروبية النأي بنفسهما إلى حد ما عن ارتدادات الصراعات الحاصلة في إقليميهما. لكن يبدو أن ما يحدث في الإقليمين حتى الآن، هو مجرد بداية لتطورات قادمة قد تجلب معها مخاطر على التكتلين، حتى لو أرادا أن يكونا محايدين؛ ومن ثم يكون من الأفضل تفعيل آليات جديدة للعمل، تخفف من حدة الصراع الأمريكي مع كل من الصين وروسيا، وكذلك المواجهات بين إسرائيل وإيران.
وبالتالي يُعد منتدى الأمن والتعاون الإقليمي بين دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي واحداً من الآليات الجديدة التي بدأت دول المجلس تفعيلها مع شركائها الدوليين؛ لترسيخ رؤيتها في الحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم؛ إذ إن ثمة قناعة بأن "الإقليمية" هي المدخل الناجح لمعالجة الأزمات العالمية، انطلاقاً من القاعدة التاريخية بأن أمن أي منطقة في العالم مسؤولية أبنائها، خاصةً في الشرق الأوسط.
2- البيئة الإقليمية المضطربة: تمر منطقة الشرق الأوسط بتطورات تهدد استقرار العالم، في ظل استمرار حرب غزة منذ 7 أكتوبر 2023، فضلاً عن المخاوف من توسع هذه الحرب، وانخراط أطراف إقليمية ودولية أخرى فيها بشكل مباشر، خاصةً بعدما ظهرت تهديدات للملاحة وأمن الممرات البحرية العالمية، وحدوث تصعيد في الأيام الماضية أدى إلى تغيير قواعد الاشتباك بين إسرائيل وإيران. وعلى الرغم من تراجع تل أبيب وطهران عن سياسة "حافة الهاوية"، فإنه يتعين الحذر من عدم نهاية الخطر، خاصةً أن الخطابات والرسائل بين البلدين ما زالت تُنذر بتصعيد الوضع؛ ومن ثم فالأمر يتطلب جهوداً مستمرة ومكثفة من الدول التي تُعد الأكثر تأثيراً في الدبلوماسية العالمية، سواءً من حيث العمل الجماعي، أم من حيث طبيعة العلاقات التي تربط كل تكتل بأطراف النزاع في المنطقة.
وفي هذا الإطار، أكد الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، جاسم البديوي، خلال كلمته بالمنتدى الخليجي الأوروبي، أهمية الالتزام بالقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وإدانة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والوقف الفوري والمستدام لإطلاق النار، وضمان توفير وصول كافة المساعدات الإنسانية والإغاثية لسكان غزة دون تأخير. كما دعا كافة الأطراف للتحلي بأقصى درجات ضبط النفس وتغليب الحكمة؛ لتجنيب المنطقة وشعوبها مخاطر الحروب، خاصةً بعد التصعيد العسكري الأخير بين إيران وإسرائيل.
3- الشراكة الخليجية الأوروبية: تنطلق دول الخليج في عقدها هذا المنتدى من كونها الشريك الاستراتيجي الإقليمي الأقدم للدول الأوروبية، فضلاً عن الحضور الأوروبي الاستراتيجي والقوي في قضايا المنطقة. فلأوروبا أدوار تاريخية وراهنة مهمة سواءً في لبنان أم ليبيا أم اليمن، وحتى في الأزمة الإيرانية مع الغرب، وبالتالي فإن إشراكها في هذه اللحظة التي يتصاعد فيها الدور الدبلوماسي الخليجي، سينعكس إيجاباً على الطرفين، وليس فقط على أوضاع وأزمات المنطقة.
وكان مجلس التعاون الخليجي قد أعلن في 28 مارس 2024، رؤيته للأمن الإقليمي التي تركزت في 15 بنداً لتعزيز الأمن الإقليمي، وذلك بحضور العديد من ممثلي دول العالم ومنظمات إقليمية ودولية ومنها الاتحاد الأوروبي. وبالتالي من المهم أن تُطلع دول الخليج شركاءها على هذه الرؤية الاستراتيجية وتتعاون معهم في تطبيقها، خاصةً أن الاتحاد الأوروبي يُعد أحد أهم الشركاء الخليجيين في طرح الأفكار الإيجابية لتهدئة الأوضاع في المنطقة. كما يحظى الجانبان باحترام كبير في العمل الدولي، وتُعد جهودهما ركائز مهمة في العديد من الأزمات والمناطق الساخنة؛ وبالتالي فإن تقريب الرؤى بينهما يعطي مزيداً من الزخم والتأثير الدبلوماسي.
وتجدر الإشارة إلى أن مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي يتسمان بالتماسك السياسي مقارنةً بالتكتلات الإقليمية الأخرى في العالم، وهو ما يعطيهما ميزة خاصة بامتلاك أريحية إيجاد أفكار جديدة تساعد على الخروج من الأزمات النابعة من حرب غزة. وكان هناك اجتماع مشترك بين وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي، استضافته العاصمة العُمانية مسقط في 9 و10 أكتوبر الماضي، بعد يومين فقط من اندلاع حرب غزة، وجرت خلاله مناقشة هذه الأزمة التي وضح من اللحظة الأولى مدى خطورتها على الاستقرار الإقليمي والعالمي.
وقد اُتخذت خطوة بالتزامن مع انعقاد منتدى الأمن والتعاون الإقليمي بين دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي، ستسهم بلا شك في تعزيز العلاقات بين الجانبين، وهي تتعلق بقرار الاتحاد الأوروبي في 22 إبريل الجاري منح تأشيرة "شنغن" لمواطني دول الخليج لمدة خمس سنوات عند أول طلب لها.
4- حكمة العمل الخليجي الأوروبي: في كثير من المواقف، كانت الدبلوماسية الخليجية والأوروبية تعمل بهدوء ودون ضجيج لإنهاء أزمات كبرى، فيما يُعرف بـ"دبلوماسية القنوات الخلفية". وهي غالباً تنجح في تخفيف الاحتقان السياسي في المنطقة والعالم؛ ما خلق لديها المصداقية والخبرة التراكمية في إحداث اختراقات في الملفات المعقدة، ومنها الملف النووي الإيراني والقضية الفلسطينية. ومع المنتدى الخليجي الأوروبي الذي ناقش الملفات والأزمات الإقليمية المثارة حالياً والمستمرة منذ سنوات، فإن الجانيين مؤهلان لقيادة جهود نزع التوتر وخدمة السلام والاستقرار في المنطقة، والتي يبدو أنها تحتاج إلى وقت.
واستكمالاً لهذه الحكمة الخليجية الأوروبية، فقد عرف العالم مستويين من العمل الدبلوماسي في هذه المنطقة، هما العالمي والإقليمي. ومع مرور الوقت في ظل تحيز الراعي الأمريكي، وإدارته ملفات الخلافات برؤية وحيدة قد تؤدي إلى نشوب صراع خفي على النفوذ الدولي، وتزيد فرص الحروب في العديد من مناطق العالم؛ أثبتت الخبرات السياسية وتطورات الأحداث أن المحور الخليجي الأوروبي يمثل "حكماء العالم"؛ إذ يمتلك المقومات والموضوعية والمصداقية اللازمة لتهدئة ونزع فتيل الحروب، وإطلاق الأفكار التي تهدف للحفاظ على استقرار المنطقة والعالم.
ختاماً، إن مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي كيانان في إقليمين جغرافيين يتميزان بحراك سريع ومكثف وكثيراً ما يكون مصحوباً بالتوتر؛ وبالتالي فإن اتفاقهما على تعزيز العمل المشترك يبدو طبيعياً، انطلاقاً من الرغبة في مضاعفة قوة الدفع الدبلوماسي من أجل تهدئة الأوضاع المتوترة في الشرق الأوسط. وسيمهد الأمن والتعاون الإقليمي بين مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي لمزيد من الخطوات والترتيبات للتنسيق ووضع قواعد للعمل المشترك في المجالات والقضايا الأمنية المختلفة. ولن يكون هذا المنتدى هو الوحيد من نوعه؛ إذ تنشط دول الخليج دبلوماسيتها الجماعية والمشتركة مع العديد من التكتلات في مختلف أقاليم العالم، وهذا خيار استراتيجي للخليج حالياً.