ما بين شهر رمضان عام 1393 هجري (1973) ومثيله في العام الحالي 1445 هجري (2024)، ما يقرب من 52 عاماً، وهو شهر برٍّ مخصص للعبادة والتأمل والتدبر في القضايا الكبرى المتعلقة بالصالح العام والمثل الإيمانية العليا.
ولكن هذا العام، ينصب الكثير من اهتمامي على مراقبة وتحليل الاعتداء الإسرائيلي الوحشي على غزة، فضلاً عن التداعيات الجيوسياسية المحتملة للقرارات التي ستتخذ، والتي ستكون لها أهمية كبيرة ونتائج ومصيرية؛ تشبه تماماً تلك اللحظات المحورية التي وقعت قبل نصف قرن؛ في عام 1973؛ تمهيداً للعاشر من رمضان وحرب أكتوبر المجيدة؛ التي استهدفت تحرير أراضٍ احتلتها إسرائيل، وخلق توازن سياسي يدفع الجميع للتفاوض من أجل تحقيق سلام عربي إسرائيلي شامل، ونتجت عنها اتفاقات السلام بين مصر والأردن وإسرائيل، وترتيبات فك الاشتباك مع سوريا، واتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتي لم تستكمل أو تنفذ.
لقد ناقشت والكثيرون سابقاً الأسباب الحقيقية لأحداث غزة، لذا أكتفي هنا بتأكيد أن الاحتلال والقمع لا يولدان سوى الإحباط والاستياء؛ مما يؤدي بدوره إلى استمرار دائرة العنف؛ ومن ثم فمن الأهمية بمكان معالجة الأسباب المولدة للعنف من جذورها، وهذا يتطلب تحولاً كاملاً في النموذج السياسي السائد عالمياً، وبالشرق الأوسط.
ولذا سأركز هنا على التداعيات الإقليمية والعالمية الرئيسية من خلال سيناريوهين مباشرين متوقعين على المدى القصير؛ إذ يحمل كل سيناريو منهما درجات متفاوتة من التشاؤم النسبي، مع الخلل الإقليمي والدولي الذي لا يشجع على الحلول الجذرية الضرورية.
سيناريو جزئي وآخر قاتم:
لقد أعلنت إسرائيل أنها ستحجم عن شن هجومها العسكري الشامل على رفح حتى 10 مارس وبداية رمضان كحد أقصى؛ إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق للإفراج عن الأسرى، ومن المتوقع أن يؤدي ذلك الهجوم إلى خسائر بشرية واسعة وتهجير للفلسطينيين؛ وبالتالي من المحتمل أن تكون آثاره واسعة النطاق، ومتعددة التداعيات على مصالح ومواقف العديد من الأطراف الإقليمية؛ لذا نشطت المفاوضات والاتصالات المكثفة ومتعددة الأطراف في باريس والقاهرة والدوحة؛ بشأن صفقة الرهائن واتفاق الهدنة، فضلاً عن الاتصالات الدبلوماسية رفيعة المستوى بين الأطراف المختلفة؛ بما في ذلك للرئيس الأمريكي شخصياً.
والسيناريو الأقل تشاؤماً للمستقبل القريب؛ هو التوصل إلى اتفاق مؤقت لوقف إطلاق النار؛ طوال شهر رمضان أو عيد الفطر، أو تواصل للمفاوضات يصاحبه إطلاق سراح جزئي متبادل لبعض الرهائن الإسرائيليين غير العسكريين، والفلسطينيين المسجونين، وهذا من شأنه أن يسمح للحكومة الإسرائيلية بتبرير توقفها عن مدِّ عملياتها العسكرية إلى رفح وتعليق عملياتها العسكرية في غزة، دون إنهائها بالكامل، وفي الوقت نفسه؛ سوف يشعر الفلسطينيون وحماس ببعض الارتياح، وهو ما من شأنه أن يُجنبهم مؤقتاً السيناريو القاتم المتمثل في سقوط المزيد من الضحايا برفح والتهجير القصري المحتمل للفلسطينيين عبر الحدود المصرية.
ويخدم هذا الترتيب مصالح إسرائيل، وحماس، والسلطة الفلسطينية، والولايات المتحدة، ومجموعة كبيرة من الأطراف العربية، والمجتمع الدولي، ويمكن للأطراف أن تستخدم هذا السيناريو لتظهر لناخبيها أنه تم إحراز بعض التقدم، في حين تطمئن المتشددين بأنه لم يتم التغاضي عن "القضية".
في حالة عدم التوصل إلى اتفاق جزئي ومؤقت، هناك السيناريو الثاني الأكثر تشاؤماً، والذي تقوم فيه إسرائيل باجتياح رفح بقوة وعنف؛ مما سيؤدي إلى تفاقم المعاناة الإنسانية هناك، وتهجير المزيد من الفلسطينيين. بل وربما تمتد الأحداث لتطال الحدود المصرية؛ مما يثير قلقاً شديداً لدى الأردن التي حذرت من مغبة التهجير القسري، وهذا خيار ستكون له عواقب وخيمة، وقد يزعزع استقرار العلاقات السلمية بين الدول، بالإضافة إلى تصاعد التوترات على طول الحدود اللبنانية والسورية، ويمكن أن تزداد التقلبات في مناطق البحر الأحمر، وشرق البحر المتوسط؛ بسبب التأثير التخريبي والهدّام المتزايد للجهات الفاعلة غير الحكومية هناك.
من المفارقات أن هذا السيناريو يؤثر بشكل مباشر في تشكيل مستقبل القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية الحاليتين؛ لإن التبادل الجزئي للرهائن ووقف إطلاق النار المؤقت سيفيد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وحماس وقيادة السلطة الفلسطينية؛ إلا أنه وفي الوقت نفسه؛ يقرب المسؤولين من عتبة المساءلة والتحقيق الوطنية، وتحديد إذا ما كانوا الأكثر ملاءمة للاستمرار مع التحديات القادمة.
من المرجح أن تدعم جميع الفصائل الفلسطينية التبادل الجزئي للرهائن والوقف المؤقت لإطلاق النار، ولكن نهج كل فصيل سوف يتأثر بمصالحه واعتباراته السياسية. فعلى سبيل المثال؛ سوف تواجه حماس بشكل خاص تحدياً يتمثل بأن تكون جزءاً من علاقة فلسطينية إسرائيلية مستقبلية خالية من العنف؛ ولذلك فهي ليست رافضة تماماً للخيار الأكثر تشاؤماً؛ المتمثل في عدم التوصل إلى اتفاق غير جزئي.
وفي الوقت نفسه؛ تتعرض السلطة الفلسطينية لضغوط كبيرة لتقديم قيادة جديدة في سياق التوصل إلى اتفاق جزئي؛ إلا أن عدم التوصل إلى اتفاق جزئي واستمرار المعارك دون تدخل السلطة سيطرح تساؤلات حول دورها وأهميتها ومصداقيتها في الظروف الحالية.
من المتوقع أن تدعم أغلبية اليمين الإسرائيلي وقف إطلاق النار المؤقت على مضض؛ من أجل تسهيل عملية تبادل الرهائن وتخفيف الضغط الدولي على الحكومة، ومع ذلك؛ فمن المرجح أن يقوم اليمين، ورئيس الوزراء نتنياهو، بتأخير تنفيذ الصفقة بسبب معارضتهم لحل الدولتين؛ إذ يفضلون الإبقاء على حالة من الصراع المستمر أو المتقطع الخاضع لسيطرتهم؛ خاصة وأن ذلك يوحد معظم الإسرائيليين ويؤجل أمر مساءلة المسؤولين، وهذا أمر مهم بالنظر إلى عدد القضايا الجارية حالياً ضد نتنياهو، وبالتالي؛ فاليمين سيكون على استعداد للمشاركة في التبادل الجزئي للرهائن والوقف المؤقت لإطلاق النار في ظل ظروف معينة؛ وإلا فإنه لن يتردد في اللجوء إلى القوة مرة أخرى؛ وذلك لأن خياره المفضل هو السيناريو الأكثر تشاؤماً، والذي يتضمن العنف الخاضع لمعدلات تحددها إسرائيل؛ إذ يمثل هذا الخيار مبرراً لاستمراره في استخدام القوة ضد الفلسطينيين، ويُعد وسيلة لعرقلة أي تقدم نحو حل الدولتين.
تأثيرات إقليمية ودولية:
هناك العديد من القادة الدوليين والإقليميين يميلون أيضاً إلى سيناريو وقف إطلاق النار المؤقت والتبادل الجزئي للرهائن والمحتجزين. على سبيل المثال؛ لا يستطيع الرئيس بايدن، التغاضي عن تراجع شعبيته بين الأمريكيين من الأصول العربية داخل الولايات التي لها تمثيل محوري في المجمع الانتخابي الخاص بالانتخابات الرئاسية المقبلة لعام 2024؛ خاصة في الولايات التي بها تجمعات عربية وإسلامية.
لا تؤثر تطورات الأحداث في غزة في الانتخابات الرئاسية الروسية، ومع ذلك، تحرص روسيا على تأكيد وجودها على المسرح الدولي، وأخذت خطوات استباقية لتأمين دورها، باستضافة مختلف الفصائل الفلسطينية في موسكو أخيراً؛ لإظهار اهتمامها بتحقيق المصالحة بينهم.
أدانت الدول العربية بشدة أعمال العنف المستمرة في قطاع غزة وقدمت مساعدات إنسانية كبيرة للفلسطينيين، وتؤيد التوصل إلى اتفاق مؤقت بين الجانبين، وتأتي جهود قادة مصر والأردن في طليعة الجهود المبذولة بسبب قربهم من الصراع، ويتطلعون إلى المسار الأقل تشاؤماً باعتباره لا يغلق الباب أمام حل الدولتين، وللحفاظ على مصداقية اتفاقيات السلام الخاصة بهما مع إسرائيل، بالإضافة إلى أن الدولتين تشعران بقلق عميق إزاء العواقب المحتملة للتهجير الجماعي القسري للفلسطينيين عبر حدودهما إذا ما امتد الهجوم العسكري إلى رفح؛ ثم مارسته إسرائيل بعد ذلك على الضفة الغربية.
يتزايد دور قطر أهمية مع تقدم المفاوضات؛ وبالتالي فمن مصلحتها أن تسفر جهود الوساطة عن اتفاق لوقف إطلاق النار المؤقت، والدول العربية المشاركة في الاتفاقيات الإبراهيمية تفضل أي خطوة يتم اتخاذها لإنهاء العنف والتقدم نحو المصالحة، وكانت هناك شائعات عديدة حول خطوات محتملة للمملكة العربية السعودية تجاه السلام مع إسرائيل، ولكن الظروف الحالية أوقفت هذه التكهنات تماماً إلى أجل غير مسمى.
يشعر المجتمع الدولي على نحو متزايد بالانزعاج إزاء إراقة الدماء المروعة والظروف اللاإنسانية التي يشهدها قطاع غزة، ومع ذلك فإن العديد من الحكومات الغربية لا تزال تتخذ مواقف بعيدة عن مواقف شعوبها الرافضة للممارسات الإسرائيلية، وأعلنت المؤسسات الدولية أنها لم تعد قادرة على تلبية الحد الأدنى من متطلبات المهام الإنسانية بغزة، وأبرز كل من الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، والرئيس البرازيلي، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، أن ما يحدث يُعد تحدياً لمبادئ النظام الدولي وركائز التحضر، وهناك دعم ساحق داخل المجتمع الدولي للتوصل إلى اتفاق جزئي مؤقت لوقف إطلاق النار وتنفيذه، ويُنظر إلى هذا الخيار باعتباره الخيار الأفضل بين بديلين عسيرين.
مسار حل الدولتين:
من المهم أن نلاحظ أن أياً من السيناريوهين المطروحين ليس حاسماً أو نهائياً، وأن كلاً منهما ينطوي حتماً على اندلاع أعمال عنف متكررة، لا يمكن قمعها إلا إذا تم وضع حد للصراع الفلسطيني الإسرائيلي ككل، ومن المرجح أن تمتد تداعيات الأحداث إلى الضفة الغربية؛ التي تشهد إجراءات أمنية تقييدية متزايدة، ونشاطاً استيطانياً إسرائيلياً مضطرباً وعدوانياً، واعتقالات واسعة النطاق لأعداد تفوق عدد الفلسطينيين المفرج عنهم جراء اتفاقيات إطلاق سراح الرهائن، ومن المتوقع أيضاً أن يكون المسجد الأقصى منطقة مشحونة للغاية؛ خاصة خلال شهر رمضان، ولهذا فيجب أن يكون تبادل الرهائن الجزئي وخيار وقف إطلاق النار المؤقت بمثابة خطوة على مسار نحو الحل النهائي لهذا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي طال أمده، ووضعنا جميعاً في حالة يرثى لها.
وعقب عمليات تبادل العنف الأخيرة؛ أصبح من الواضح بشكل لا يدع مجالاً للشك أن الفصل بين الشعبين هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق السلام بينهما، وقد أكد المجتمع الدولي مراراً وتكراراً أهمية حل الدولتين، ومع ذلك، فإن مؤيدي الجانب الإسرائيلي في الدول الغربية مترددون في اتخاذ إجراءات لتعزيز مفاوضات حقيقية وهادفة، واليمين السياسي الإسرائيلي مستمر في توسيع نفوذه؛ مما يزيد من تقويض احتمالات التوصل إلى حل الدولتين، وعلى الجانب الآخر، فإن الفصائل الفلسطينية مستمرة في خسارة رصيدها بين ناخبيها، ومن الجدير بالذكر أن هناك شعوراً متزايداً بين الشعوب العربية، وخاصة بين فئة الشباب، بأن إسرائيل تعطي الأولوية للسيطرة والهيمنة والعنف على إعلاء جهود السلام، وكلها تطورات جد خطرة.
من المؤسف والمحبط اليوم أن التوقعات في منطقتنا حالياً أصبحت أكثر قتامة وأكثر تهديداً عما كانت عليه قبل أكثر من خمسين عاماً، وأن مشاعر الانتقام وأخذ الثأر في ارتفاع مستمر عبر الشرق الأوسط، وأن النظام الدولي قد فقد مصداقيته إلى حد كبير، وكما كان الحال خلال شهر رمضان عام 1973؛ فإن أفعالنا وقراراتنا عام 2024 مع اقتراب أو خلال شهر رمضان ستكون لها عواقب واسعة النطاق داخل المنطقة وخارجها، ومن المتوقع أن تكون الأسابيع المقبلة حاسمة في العديد من النواحي.
أتمنى الستر والأمن والسلام للجميع.