شكلت الحرب الروسية الأوكرانية منذ اندلاعها في 24 فبراير 2022 بؤرة نقاشات الأمن الدولي والاستجابات السياسية في أوروبا وخارجها؛ حيث وصفها المجتمع الدولي بأنها أكبر أزمة أمنية تشهدها القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من الاستجابات السريعة من قبل مؤسسات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا لمواجهة روسيا عسكرياً، بقي الحديث متعلقاً بكيفية تقويض التمدد الروسي في أوكرانيا، وتحويل الصراع في أوكرانيا إلى حرب استنزاف طويلة الأمد دون الانتباه إلى الأخطار الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر بشكل مباشر في الفئات الأكثر ضعفاً من المدنيين.
فمن الواضح أن الاهتمام – كان ولا يزال - مقصوراً على كيفية حماية السيادة الأوكرانية وأمنها القومي على حساب حماية المجتمع الأوكراني، أو بعبارة أخرى، البحث عن كافة الحلول المناسبة لحماية أمن الدول الأوروبية دون النظر إلى حماية المواطن الأوكراني الأكثر معاناة من ويلات الحرب الروسية الأوكرانية.
ولا تُعد الحالة الروسية الأوكرانية الوحيدة التي تتجاهل الأبعاد الإنسانية، بل إن سرديات الحرب وسياسات الاستجابة عادة لا تعبأ كثيراً بمفاهيم الأمن الإنساني بمعناه الواسع، أو حماية الفئات الأكثر هشاشة، وهي القضية التي يركز عليها مفهوم "الأمن الجندري" (Gender Security)، والذي يُعد صلب الدراسات النسوية الأمنية، لفهم وتحليل تأثير قضايا النوع الاجتماعي في قرارات الحرب والصراع والعنف المنظم والسلام، فضلاً عن كيفية إنقاذ الفئات الأكثر ضعفاً والأكثر تضرراً من ويلات الحروب.
لم يظهر مفهوم الأمن الجندري إلا بعد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1325 لعام 2000، والذي أكد دور المرأة في منع أو حل الصراعات وبناء السلام، مشجعاً على ضرورة تعميم المنظور الجندري في قضايا الحرب والسلام، من خلال عدة مسارات، أبرزها: 1) ضمان زيادة تمثيل المرأة على جميع مستويات صنع القرار لمنع حدوث النزاعات أو إدارتها وحلها؛ 2) دعوة جميع الأطراف في الصراعات المسلحة إلى اتخاذ تدابير خاصة لحماية الفتيات والنساء من العنف القائم على أساس الجنس، ولاسيما الاغتصاب والإيذاء الجنسي؛ 3) مراعاة الاحتياجات الخاصة بالمرأة والفئات الأكثر ضعفاً أثناء فترة اللجوء أو إعادة التوطين، وما يتعلق من تلك الاحتياجات بإعادة التأهيل والإدماج في فترات ما بعد الصراع.
وباختصار، يمكن تعريف الأمن الجندري بأنه الأمن الذي يسلط الضوء على حقوق المرأة ويعطي الأولوية لمنظور يراعي الفوارق بين الجنسين، ويقوم على فرضية أن حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين الموجودة في إطار حقوق الإنسان أو حتى الإطار الأخلاقي ليست كافية، الأمر الذي يتطلب مزيداً من الوعي والاستجابة والالتزام، وذلك من منطلق معادلة مفادها أن "الأمن يحتاج إلى النساء بقدر ما تحتاج النساء إلى الأمن".
الأمن الجندري ومخاطر الحرب
لقد أفرزت الحرب في أوكرانيا مخاطر متعددة لم تهدد فقط الأمن القومي الأوكراني وسيادة الدولة فحسب، ولكنها امتدت لتهدد الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع الأوكراني، وفي مقدمتها النساء والفتيات والأطفال، ويمكن الإشارة إلى خمسة مخاطر خلفتها الحرب ولها آثار جندرية عميقة في الداخل الأوكراني:
1. الحرمان من الرعاية الصحية والإنجابية: أفاد صندوق الأمم المتحدة للسكان بأنه في بداية الأزمة الروسية الأوكرانية، كان هناك حوالي 265 ألف امرأة حامل في أوكرانيا، وكان من المتوقع أن تلد حوالي 80 ألفاً منهن خلال الأشهر الثلاثة الأولى من بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وحذر الصندوق من أن عمليات الولادة ستكون محفوفة بالمخاطر، ولاسيما وأنها ستحدث في الأقبية والملاجئ وسط ظروف مزرية، وقد تهدد صحة المرأة وتزيد من احتمالية وفاة المواليد أو الأمهات. وبصفة عامة، فإن أوقات الحرب، وما يسفر عنها من تهجير قسري، تؤدي إلى الانقطاع عن الرعاية الصحية، وهو ما يعرض الحوامل لحالات ولادة غير آمنة تهدد حياة المرأة والمولود.
2. انعدام الأمن الغذائي: أشارت التقديرات إلى أنه في حالة انعدام الأمن الغذائي، تواجه النساء حالات متزايدة من العنف القائم على النوع الاجتماعي؛ حيث تضطر المزيد من النساء إلى ممارسة الجنس مقابل الغذاء، ولا تستطيع العديد من صغار المزارعات من النساء، اللاتي غالباً ما تكن في أدنى درجات الاندماج الاقتصادي، تشغيل مزارعهن، وبالنسبة للفتيات، تزيد أزمة الغذاء من فرص إخراجهن من المدرسة، مما يقلل من مستوياتهن التعليمية وإمكانية وصولهن إلى الاقتصاد في المستقبل.
3. مخاطر اللجوء والنزوح: بدءاً من يوليو 2022، فر ما لا يقل عن 12 مليون شخص من منازلهم منذ بدء الهجوم الروسي. وتُقدر المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة (IOM) أن أكثر من نصف الذين فروا من البلاد أو نزحوا هم من النساء. ويكمن خطر اللجوء في تزايد معدلات الاتجار بالنساء والفتيات أثناء بحثهن عن المساعدة لأنفسهن ولأطفالهن، أو في افتقارهن للموارد الاقتصادية والوثائق القانونية الأساسية التي تمكنهن من الوصول إلى المناطق الآمنة.
4. مخاطر الحرمان من التعليم: أفادت وزارة التربية والتعليم الأوكرانية بأنه بحلول يونيو 2022 تم تدمير أكثر من 1800 مدرسة وجامعة في مختلف أنحاء أوكرانيا؛ وقد تم استخدام بعض المدارس كمراكز معلومات أو ملاجئ أو مراكز إمداد لأغراض عسكرية. ونتيجة لذلك، حُرم ملايين الفتيان والفتيات في الأشهر الثمانية الماضية من التعليم المناسب، وتشير هيئة إنقاذ الطفولة (Save the Children) إلى أنه في مناطق النزاع مثل أوكرانيا، تزيد احتمالية خروج الفتيات من المدرسة بمقدار 2,5 مرة عن الفتيان.
5. مخاطر العنف الجنسي: أدى النزاع المسلح في أوكرانيا إلى زيادة مخاطر العنف الجنسي، بما في ذلك الاغتصاب والاستعباد الجنسي والدعارة القسرية. وقد وردت تقارير تؤكد أن تواتر اغتصاب النساء الأوكرانيات جاء إثر إعدام أزواجهن؛ وفي بعض الحالات يتم أمام أفراد أسرهن، وهو تكتيك متعمد لتمزيق نسيج الأسرة الأوكرانية، وكسر الروح المعنوية للنساء، وعلى الرغم من تأكيدات روسيا مراراً وتكراراً في الأمم المتحدة أن الجنود الروس يخضعون لقواعد صارمة تحظر العنف ضد المدنيين، فإن تقارير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان تؤكد أن أوكرانيا شهدت 124 عملاً مرتبطاً بالعنف الجنسي تجاه النساء في الفترة ما بين فبراير ويونيو 2022.
وفي ضوء تلك المخاطر، لا بد من تبني منظور جديد للأمن يراعي الفوارق بين الجنسين في توقيت النزاعات والأزمات الإنسانية. ولذلك كان مدخل الأمن الجندري الأكثر ملاءمة لفهم وتفسير الأبعاد الجندرية في خضم الحروب.
الإسهام النسائي في الجيش
• تعبئة استثنائية للنساء: أدركت الحكومة الأوكرانية في عام 2015 أهمية إدخال النساء في معادلة التعبئة العامة للجيش الأوكراني، وبالتالي، تم الإعلان عن تعبئة عامة للنساء، وكانت جزءاً من جهد أوسع لتوسيع القوات المسلحة الأوكرانية بمقدار 200 ألف فرد رداً على التدخل العسكري الروسي في 2014.
اللافت للانتباه هو أن تلك التعبئة لم تهدف إلى تجنيد النساء في الصفوف الأولى لقيادة الجيش، ولكن بهدف تفريغ الرجال المجندين لاستراتيجيات القتال، بينما تتولى النساء المهام الخدمية، بداية من الخدمات الطبية وانتهاءً بخدمات الطهي والنظافة. وفي يونيو 2016، وسعت القوات المسلحة الأوكرانية الأدوار المتاحة للنساء العاملات بموجب "عقد" لتشمل بعض المناصب القتالية. ولكن حتى بعد هذا التوسع، ما زال باب ثلثي المناصب العسكرية مغلقاً أمام النساء، وهكذا بدا واضحاً أن النساء لم يكن يتمتعن بوضع متساو مع الرجال داخل الجيش، وتبين فيما بعد أن هذا الإجراء كان بسبب إحجام بعض الرجال المقاتلين عن شغل بعض المناصب منخفضة الأجر في الجيش. وبشكل عام، يُنظر إلى تعبئة النساء في عام 2015 على أنها بديل عن الرجال الغائبين، وهي تعبئة استثنائية، ولا تحمل نفس القيم العسكرية والقتالية التى يتمتع بها الرجال المقاتلون.
• خطوة إلى الأمام: في 11 أكتوبر 2021، أصدرت وزارة الدفاع الأوكرانية الأمر رقم 313 الذي حدد 100 مهنة وطلب من جميع النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 18 و60 عاماً العاملات في تلك المهن بالتسجيل في مكتب التجنيد المحلي، وبهذا تم التوسع في قائمة مهن النساء العاملات في القوات المسلحة، لتشمل مجموعة مهارات أوسع وذات صلة بالقتال الحربي. وهكذا، أفادت التقارير بأن هذه الخطوة عززت مشاركة النساء في القوات المسلحة الأوكرانية، ليشكلن نحو 25% من إجمالي حجم القوات الأوكرانية، كما عكست قدرة المرأة على الإسهام في المجهود الحربي بطرق متنوعة، في حين أن العديد من المهن المدرجة يمكن اعتبارها وظائف "قطاع الخدمات"، ومع ذلك تعكس إمكانات المرأة الإسهام في المجالات العسكرية الجديدة، بما في ذلك مجال الحرب الإلكترونية، بدلاً من الأدوار التقليدية المؤنثة التي اقتصرت عليها النساء في فترات الحروب، وأغلبها تحت مظلة جهود الإغاثة والمساعدات الإنسانية.
• العودة إلى الوراء: مع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، قرر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فرض الأحكام العرفية في جميع أنحاء البلاد، لضمان عدم خروج الرجال من أوكرانيا من أجل حالة التعبئة العامة، في المقابل، قللت هذه الأحكام العرفية من قيمة إسهامات المرأة المحتملة في المجهود الحربي وعززت المعايير التقليدية التي تضع المرأة في المقام الأول كضحية للنزاع المسلح بدلاً من المشاركة فيه، وهكذا صارت الروايات البارزة عن النساء الأوكرانيات تتلخص في معاناة المرأة الأوكرانية كلاجئة أو كضحية للعنف الجنسي.
ويتضح من ذلك أن جهود المساواة بين الجنسين عادة ما تنهار أوقات الأزمات وتعود نفس المعايير التقليدية الهيكلية إلى الأمام مرة أخرى.
الأمن الجندري وإعادة الإعمار
يعزز الأمن الجندري جهود إعادة الإعمار بعد النزاعات المسلحة، وذلك على النحو التالي:
• تحقيق الانتعاش الاقتصادي: إن مسألة اندماج النساء الأوكرانيات في جهود إعادة الإعمار أمر لا مفر منه؛ إذ تُعد أحد المسارات الحيوية لإنقاذ اقتصاد أوكرانيا، وعليه يجب توفير مسارات آمنة لتحفيز النساء اللاجئات على العودة إلى الأراضي الأوكرانية؛ حيث إن الفشل في إقناع نحو 2,8 مليون امرأة في سن العمل بالعودة إلى البلاد من شأنه تكلفة أوكرانيا 10% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي، وهذا يعني بحسب التقديرات 20 مليار دولار سنوياً، وهو ما قد يفوق حزمة المساعدات التي اقترحها الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا لمدة أربع سنوات، والتي تبلغ قيمتها السنوية 12,5 مليار يورو. ولذا، فإنه من المهم أن تضع الحكومة الأوكرانية خطة استعداد ذات بُعد أمني جندري، لاستعادة النساء وإدماجهن في جهود إعادة الإعمار في أوكرانيا عقب انتهاء الحرب.
• استجابات متكاملة لجهود إعادة الإعمار: يحفز مدخل الأمن الجندري على إدماج النساء في محادثات إعادة الإعمار، وخطط التعافي الاقتصادي، الأمر الذي يجعل عملية إعادة الإعمار متكاملة الأبعاد، ولا تقتصر فقط على البُعد الاقتصادي المتمثل في كيفية الوصول إلى اقتصاد مزدهر عبر حماية شركات القطاع الخاص، وهو المدخل الذي يؤدي إلى إهمال الجوانب الاجتماعية والصحية والاقتصادية للفئات الأكثر ضعفاً، وربما وضع مزيد من الأعباء على النساء الأوكرانيات، وتفاقم ظاهرة تأنيث الفقر بسبب تخفيض الدخول في المجال العام، أو فقدانها للفئات الأكثر ضعفاً.
في ضوء ما سبق، يتضح أن الخطوات الحثيثة التي اتخذتها أوكرانيا قبل وأثناء الحرب الروسية الأوكرانية لا تعدو كونها إجراءات مؤسسية لتوسيع دور المرأة في القوات المسلحة الأوكرانية، ولكن دون فهم جيد لمفهوم الأمن الجندري، والذي بموجبه يمكن تعزيز دور وفاعلية المرأة والفئات الأكثر ضعفاً في ميادين القتال، والوصول بها إلى أعلى المناصب العسكرية، فتبني مفهوم الأمن الجندري يمكن أن يُسهم في تحقيق الأمن المجتمعي والأمن الاقتصادي اللازمين لجهود إعادة الإعمار والإغاثة.