نظّم مركز "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة" ورشة عمل موسعة بعنوان "الشرق الأوسط إلى أين.. هل تتسع دائرة الحرب في الإقليم؟"، وشارك فيها خبراء في الشؤون الاستراتيجية والأمنية من عدّة عواصم عربية ودولية، وهم: اللواء محمد عبدالواحد، الخبير في شؤون الأمن القومي والاستراتيجي (القاهرة)، وتركزت مداخلته الرئيسية حول (التحديات الجيوسياسية ما بعد حرب غزة.. من شرق المتوسط إلى البحر الأحمر والقرن الإفريقي)، والأستاذة هبة القدسي، مدير مكتب صحيفة "الشرق الأوسط" في (واشنطن)، وتحدثت عن (سياسة الولايات المتحدة المرحلية في الإقليم)، والعميد خليل الحلو، الخبير الأمني (بيروت)، وناقش في مداخلته (طبيعة القيادة وإدارة وكلاء إيران في الإقليم)، والدكتور إحسان الشمري، رئيس مركز التفكير (بغداد)، وتناول قضية (حدود قدرة العراق على إدارة التوازنات بين الحلفاء الخصوم "واشنطن وطهران" ومستقبل وجودهما الأمني والعسكري)، والأستاذ حسام ردمان، الباحث في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية (عمَّان)، وتحدث في مداخلته عن (طبيعة التهديد الحوثي للأمن البحري ومتغير خريطة التوازنات الداخلية والخارجية).
وقدّم الندوة وأدارها الأستاذ حسام إبراهيم، المدير التنفيذي لمركز "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة"، وشارك فيها من المركز، الأستاذ أحمد عليبة، رئيس وحدة الدراسات الأمنية، متحدثاً عن (الانتشار العسكري في الإقليم)، والأستاذ محمد محمود السيد، نائب رئيس تحرير مجلة "اتجاهات الأحداث" والباحث في الشؤون الإسرائيلية، وتناول (السيناريوهات الإسرائيلية بعد حرب غزة وأولويات ترتيباتها الداخلية وسياساتها الإقليمية)، بالإضافة إلى حضور خبراء وباحثي مركز "المستقبل".
اتجاهات التصعيد:
ترتفع وتيرة التصعيد في ساحات إقليمية متعددة، ومنها اليمن والعراق وسوريا ولبنان، إلى جانب البحر الأحمر وبحر العرب؛ وذلك في ضوء المواجهات العسكرية بين الولايات المتحدة من جانب، والمجموعات المسلحة التابعة لإيران من جانب آخر، وذلك على وقع استمرار الصراع الذي انطلقت شرارته من قطاع غزة، بعد هجوم حماس، في 7 أكتوبر 2023.
وتتأرجح معطيات التفاعلات الإقليمية الراهنة ما بين اتجاهيْن، الأول: اتساع بؤر التصعيد الإقليمي بتزايد رقعة وتنامي حدّة وكثافة المعارك في الإقليم، والآخر: هو الحرب الإقليمية الشاملة. لكن تميل أغلب التقديرات إلى أن الاتجاه الأول هو الأقرب إلى الواقع، فالقوى الإقليمية الرئيسية تنأى بنفسها عن الانخراط في الحروب والمعارك التي ربما تخوضها واشنطن وطهران "بالوكالة"، كما تتفادى المشاركة في تحالفات عسكرية على جبهات التصعيد، بينما تلتزم بخط الدبلوماسية، والتنسيق المشترك من أجل تبريد الساحة الإقليمية، إضافة إلى التركيز على القضية الرئيسية التي تفجر الصراع الإقليمي من مرحلة لأخرى، وهي القضية الفلسطينية.
وفي ضوء الإجابة عن التساؤل الرئيسي، الإقليم إلى أين؟ ناقش الخبراء والحضور مظاهر وإشكاليات حالة الأمن الإقليمي، من حيث أبعاد مواقف القوى الرئيسية الدولية والإقليمية المُنخرطة في أزمات وقضايا الشرق الأوسط، وحالة وكلاء إيران من حيث القدرات والتحركات في ساحات مُتعددة، ومدى استقلاليتهم، وفق التصريحات الإيرانية في هذا الصدد، وكذلك الأداء الأمريكي والإسرائيلي في المواجهة مع المجموعات المسلحة التابعة لإيران في لبنان واليمن والعراق. مع محاولة الإجابة عن التساؤلات المتعلقة بمدى وجود تنسيق أو تبادل أدوار ضمن قواعد اشتباك مُتعددة الأطراف مُتفق عليها، ومن سيحسم ميزان الردع الإقليمي، أم أن هناك رغبة في الأخير لتأسيس قواعد جديدة لمعادلات التوزان في المنطقة، في سياق الخبرة البراغماتية ومصالح الأطراف؟
كما تطرق النقاش إلى بحث مستقبل التسويات السياسية في الشرق الأوسط، حيث إن هناك أربعة ملفات تسوية رئيسية هي: التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، والتسوية الإسرائيلية اللبنانية، والتسوية الأمريكية الإيرانية، وتسوية الأزمة اليمنية، بالإضافة إلى مشروع اتفاق السلام بين السعودية وإسرائيل.
وبالإضافة إلى هذه الخريطة السياسية، احتل العامل الجيوسياسي مساحة من نقاش الخبراء، كعامل جوهري في معادلات الصراع والتنافس والإزاحة وملئ الفراغ، وإلى أي مدى تشهد المنطقة دورة إعادة تشكل في هذا الإطار، في سياق المشهد العام، ثم انعكاسات المُحصلة الإجمالية على الأمن الإقليمي.
حالة الإقليم:
يمكن الوقوف على أبرز المحاور التي تناولها النقاش، والتي توضح الحالية الراهنة في منطقة الشرق الأوسط، على النحو التالي:
1- ما بين التصعيد والتبريد: تعكس اللحظة الحالية في المنطقة، وفق تحليل اتجاهات التفاعلات الجارية، مشهدين متناقضين؛ أحدهما هو تنامي حدة التصعيد والمواجهات العسكرية، والآخر هو محاولة التهدئة أو "التبريد". فعلى الرغم من مرور عدة أشهر على بداية الحرب في قطاع غزة، وما يصاحبها من تصعيد على جبهات أخرى، فإن هناك مبادرات وجولات دبلوماسية للتهدئة. وما بين المشهدين، تواجه دول المنطقة تحديات، خاصةً بالنسبة للمشروعات التي تتعلق بالتقدم الاقتصادي وجذب الاستثمارات أو مشروعات التنمية الاقتصادية بشكل عام، على اعتبار أن ما يحدث في الإقليم يؤثر في هذه المشروعات.
2- "اللاستراتيجية" الأمريكية تجاه المنطقة: هناك شكوك كثيرة في شكل وأهداف وتكتيكات استراتيجية الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط في ظل التوترات الحالية، للدرجة التي يمكن معها القول إن الاستراتيجية الأمريكية في هذا الصدد هي "اللاستراتيجية".
ففي ظل التوترات الإقليمية الراهنة، ليس لدى واشنطن، خاصةً في ظل إدارة جو بايدن، استراتيجية متماسكة تساندها قوة عسكرية تستطيع من خلالها التأثير في مجريات الأمور في المنطقة. ويُنظر إلى المرحلة الحالية في الشرق الأوسط باعتبارها مرحلة فاصلة في سياسات الولايات المتحدة تجاه المنطقة، خاصةً وأن التوتر الإقليمي في تصاعد، وثمة مخاوف من حرب إقليمية واسعة النطاق.
بيد أن الخيارات المتاحة أمام إدارة بايدن محدودة، إذ إن الخيارات التي تم اعتمادها في السابق والتي تعتمد على التهدئة أو الاحتواء أو فرض عقوبات اقتصادية لم تؤت ثمارها، والآن يتمثل المسعى في إبطاء الأزمة الحالية والتركيز على استهداف وكلاء إيران، لكن ذلك قد يدفع إلى تفاقم الأزمة، خاصةً أن هناك أطرافاً تريد جر الولايات المتحدة إلى حرب إقليمية، وأي سوء تقدير أو استغلال للتوترات قد يدفع بواشنطن إلى صراع أوسع تضطر فيه إلى دفع تكلفة سياسية وعسكرية كبيرة.
3- انتشار عسكري مُكثف: يكشف وضع الانتشار العسكري للأطراف الدولية والإقليمية في ضوء التطورات التي تشهدها المنطقة، عن أن الإقليم في حالة ذروة انتشار عسكري، وأن الانتشار هو انعكاس لاستجابة طوارئ أمنية، مع عدم امتلاك أي طرف "استراتيجية ردع".
وعليه، يمكن القول إن هناك حرباً في الإقليم، وليس حرباً إقليمية، ومع ذلك فإن الصراعات في الإقليم غير قابلة للحسم العسكري، ولم تُحسم بالتسويات في نفس الوقت، ما يُرجّح إمكانية استمرار الوضع القائم، لفترة ما. كما يطرح الواقع الإقليمي الحالي الكثير من التساؤلات حول موقف الصين، وطبيعة الترتيبات بين الولايات المتحدة والصين، وثمّة توقعات بأن واشنطن لن تنفرد بترتيبات أمن الإقليم في المستقبل.
4- انشغال إسرائيلي على أكثر من جبهة: من المُتصور إن إسرائيل ليست معنية حالياً بتصعيد عسكري إقليمي واسع النطاق، وإنما تركيزها على إعادة ترميم الوضع الداخلي. لكن هذا لا يمنع من أن تؤدي التحركات العسكرية الإسرائيلية على مختلف الجبهات (لبنان، وسوريا، واليمن)، وتحركات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو (الهادفة إلى تعزيز وضعه السياسي في الداخل)، إلى تصعيد غير مقصود، سيعتمد في شدته على ردود فعل الفواعل الأخرى.
فبالنسبة لجبهة لبنان، فإن الموقف الإسرائيلي ينحصر في أمرين: الأول هو التخوف من أن يقوم حزب الله بهجوم، على غرار ما قامت به حركة حماس في 7 أكتوبر الماضي، خاصةً بالنظر إلى تطور الإمكانات العسكرية لحزب الله مقارنةً بحماس. والأمر الثاني يتعلق بإعادة الإسرائيليين الذين تم إجلاؤهم منذ بدء الحرب، على جبهتيْ لبنان وغزة، والذين بلغ عددهم 231 ألفاً، بما يعادل نحو 2.4% من مُجمل سكان إسرائيل، ما يمثل مُعضلة إسرائيلية إلى جانب المعضلات الأخرى.
أما بالنسبة للجبهة اليمنية، فترى إسرائيل حالياً أن مدى الضرر والخطر الذي يشكله الحوثيون لا يقترب بأي حال من الأحوال من التهديد الذي يشكله حزب الله اللبناني وحركة حماس، أو حتى وكلاء إيران في سوريا.
5- توظيف طهران وكلاءها في الصراع: تعتبر إيران مشكلة أمنية بالنسبة للولايات المتحدة، وفي المقابل ما يُهم طهران بالنسبة للمنطقة هو إخراج القوات الأمريكية منها، وخاصةً من العراق وسوريا، وهذا هدف مُعلن وتعمل عليه إيران منذ زمن بعيد. بيد أن ذلك لا يمنع من أن يتوصل الطرفان (طهران وواشنطن) إلى صفقة تفاهم في الأخير، خاصةً في ضوء استمرار تبادل الرسائل بين الجانبين.
أما فيما يتعلق بدور وكلاء إيران، فهم موجودون في العديد من الدول، وهدف إيران في العراق، هو ألا تشكل الأخيرة خطراً على الأولى، إذ إن كابوس إيران الحقيقي هو العراق. بينما في لبنان، يمتلك حزب الله مجموعة عسكرية قوية، وهناك قناعة لدى الكثيرين في لبنان بأن هدف حزب الله الأساسي لكي يستطع التحكم والسيطرة بشكل نهائي على لبنان هو الاعتراف قانوناً ودستوراً بشرعية قواته لكي تصبح جزءاً من الدولة اللبنانية، كما هو الحال في العراق، وكما هو الحال في إيران.
6- حدود العراق في إدارة التوازن بين واشنطن وطهران: أسفر هجوم حماس على إسرائيل، في 7 أكتوبر، عن خلل في مبدأ التوازن الذي كانت تعتمده الحكومة العراقية بين الولايات المتحدة وإيران، وبالتبعية أهدرت محاولات الوصول إلى تفاهمات حول بعض الموضوعات. فالعراق كانت تقوم بدور وسيط في نقل الرسائل بين الطرفين الأمريكي والإيراني، لكن ما بعد 7 أكتوبر، أدى الانخراط الكبير للجماعات الموالية لطهران، على خلاف القرار الرسمي للحكومة العراقية، إلى تغير المعادلة، وقد أحرج هذا حكومة بغداد بشكل كبير تجاه واشنطن والمحيط العربي الذي نظر إلى العراق على أنه جزء من الصراع، وأنه تحول إلى مساحة جغرافية مفتوحة للاشتباك وتصفية الحسابات.
لذلك حاولت الحكومة العراقية، قدر المستطاع، أن تطوّق تداعيات هذا الصراع لغرض تثبيت مبدأ التوازن، ومن جانب آخر، تحاول أن تجنب العراق والجغرافيا العراقية هذا الصراع. كما أسفر الهجوم الذي استهدف القاعدة الأمريكية "البرج 22"، على الحدود الأردنية، وأدى إلى مقتل ثلاثة أمريكيين، عن تغيّر في قواعد الاشتباك، إذ يرجح أن تتراجع إيران خشية أن تفقد مجالها الحيوي في العراق، وعلى الجانب الآخر يُرجح أن يؤدي هذا التطور إلى بقاء الوجود الأمريكي في العراق، حتى وإن تغير التوصيف أو شكل هذا الوجود.
7- اليمن ومُتغير خريطة التوازنات والمصالح: دخلت اليمن مُبكراً على خط الصراع الإقليمي منذ 7 أكتوبر الماضي، وقد بدا واضحاً أن الجانب الإيراني كان مُصراً على توظيف الجبهة اليمنية بشكل مُبكر للاشتباك الإقليمي، لتحقيق أكثر من هدف، الأول: هو محاولة الضغط على الجانب الإسرائيلي في إطار الصراع الدائر في غزة، والثاني: هو إدارة الصراع المباشر مع الجانب الأمريكي، والثالث: يتعلق بالمسألة اليمنية على وجه التحديد.
والمتصور أن إيران بعد المصالحة مع السعودية كانت منفتحة على إيجاد تسوية في اليمن، إلا إنها كانت تتحفظ على إبرام تسوية شاملة لأنها ترى أن فواتير هذه التسوية هي أكبر من المصالحة، وأنها يجب أن تكون تسوية إقليمية أشمل. كما يبدو واضحاً أن التطورات الأخيرة أعادت اكتشاف الجبهة اليمنية حتى لدى صُناع القرار الإيراني، بصرف النظر عن أن التصعيد على مستوى البحر الأحمر يؤتي أكله بشكل مباشر أو أنه سيأتي بنتائج عكسية على الحوثيين ويجعلهم يتلقون بعض الضربات.
وعلى مستوى الداخل، أصبح الحوثيون أقل تطلعاً من أي وقت مضي للذهاب إلى تسوية حتى وإن كانت جزئية مع القوى السياسية الأخرى، بينما يستعيد معسكر الشرعية قدراً من عافيته. لكن ملف التسوية تم ترحيله حتى إشعار آخر، مع التصور بأن تداعيات التطورات الحالية ستسهم في إعادة هيكلة هذا الملف من جديد.