أكد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 19 أغسطس 2022، أن "المعارضة والحكومة في سوريا تحتاجان إلى المصالحة"، مشيراً إلى أن هدف أنقرة في سوريا هو التوصل لحل سياسي، وهو ما جاء تكراراً في تصريحات سبق وأدلى بها وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، في 16 أغسطس الجاري، والتي أكد خلالها أهمية المصالحة بين الحكومة السورية والمعارضة لإحلال سلام دائم في سوريا.
تحوّل الموقف التركي:
يمكن تفصيل أبعاد الموقف التركي الأخير من سوريا في التالي:
1- تصريحات تركية متواترة: يلاحظ أن دعوة أوغلو للمصالحة في سوريا، في 16 أغسطس، كانت هي الثانية له، حيث سبقتها تصريحات مماثلة قبل أقل من أسبوع. وعلى الرغم من محاولته استيعاب غضب المعارضة السورية، عبر التأكيد، في 16 أغسطس، أن بلاده لن تخذل المعارضة السورية أبداً، غير أنه أكد في الوقت ذاته أن "التسوية" ضرورية لاستقرار وسلام دائمين في سوريا.
وأشار أعضاء كبار في التحالف الحاكم في تركيا، في 16 أغسطس الجاري، إلى لقاء محتمل قريباً بين أردوغان والرئيس السوري بشار الأسد. ويلاحظ أن هناك تحوّلاً في المصطلحات المستخدمة من جانب المسؤولين الأتراك، إذ تم استخدام مصطلح "الحكومة"، وليس "النظام" السوري، وهو ما يعني أن أنقرة بدأت تعترف بالسلطات السورية باعتبارها الحاكم الشرعي للبلاد، وهو ما يعني عملياً تخلي أنقرة عن الجهود السابقة لإسقاطها.
2- الكشف عن اتصالات دبلوماسية: تزامنت الدعوة التركية للمصالحة بين المعارضة والحكومة السورية، مع تسريب بعض المصادر الدبلوماسية التركية لموقع "بي بي سي" الناطق باللغة التركية، في 12 أغسطس 2022، عن جزء من محادثة وزير الخارجية التركي مع نظيره السوري، فيصل المقداد، في العاصمة الصربية بلجراد على هامش قمة دول عدم الانحياز في أكتوبر 2021، والتي أكد خلالها أوغلو للمقداد أن العمليات العسكرية التركية العابرة للحدود في سوريا ليست ضد سيادة سوريا، بل هي لضمان وحدة وسلامة أراضيها، وهو ما يعكس رغبة أنقرة في استعادة التفاهمات السابقة مع سوريا، والتي كانت تسمح للجيش التركي بتنفيذ عمليات عابرة للحدود ضد حزب العمال الكردستاني.
3- دور روسي فاعل: يبدو أن التغير في الموقف التركي قد ارتبط بتفاهمات بين أنقرة وموسكو، فقد جاءت التصريحات التركية المتواترة حول استعادة العلاقات مع سوريا بعد القمة، التي جمعت بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مع نظيره التركي، رجب طيب أردوغان، في 5 أغسطس الجاري، في سوتشي، فقد طلب بوتين خلال اللقاء من أردوغان التعاون مع بشار الأسد، مؤكداً أن حل الأزمة السورية سيكون أفضل بالتعاون مع الحكومة السورية.
ونظراً لأن تركيا ترغب في تنفيذ عملية عسكرية في شمال سوريا ضد الأكراد، فإن موقف بوتين ربما يشير إلى إمكانية موافقته عليها، إذا ما توصلت الحكومتان السورية والتركية لاتفاق حول هذا الأمر. وقد يكون الانفتاح التركي اللاحق على الحكومة السورية مؤشراً على استجابة أنقرة لمطالب روسيا، خاصة أن أردوغان أعلن، في 10 أغسطس، أن بلاده لن تتخلى عن العملية العسكرية في شمال سوريا لاستكمال الحزام الأمني على حدودها الجنوبية، فيما أعلن وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، في اليوم نفسه، أن الإعداد لشن عملية عسكرية تستهدف مواقع "قسد" في شمال سوريا دخل مرحلته الأخيرة.
مواقف رافضة ومؤيدة:
أثارت التصريحات التركية الأخيرة ردود فعل متباينة، إذ أثارت مخاوف المعارضة السورية والأكراد في الوقت ذاته، في حين لاقت ترحيباً مشروطاً من الحكومة السورية، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- رفض المعارضة السورية: خرج عشرات الآلاف من السوريين، في 12 أغسطس، في تظاهرات حاشدة وغاضبة تحت شعارات "لا تصالح"، و"نفنى ولا يحكمنا الأسد"، وذلك في نحو 35 مدينة وبلدة، الخاضعة لسيطرة المعارضة في شمال وشمال غرب البلاد، احتجاجاً على تصريحات أوغلو، غير أن تصريحات أردوغان اللاحقة تكشف عن أن موقف أنقرة لا يكترث لمطالب المعارضة السورية، وأن الانفتاح على دمشق بات سياسة تركية لن يتم التراجع عنها.
2- قلق أكراد سوريا: رأى نائب الرئاسة المشتركة للمجلس التنفيذي في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، حسن كوجر، في 20 أغسطس، أن تقارب تركيا مع دمشق سيسمح بضرب "المشروع الديمقراطي"، في إشارة إلى الحكم الذاتي الكردي، وذلك مقابل دخول القوات السورية إلى إدلب والسيطرة على طريق "إم 4".
وحذر كوجر من أن هذه الاتفاقات الخطيرة ستفتح مجالاً لإطالة أمد الأزمة السورية وتعميقها، لأنها سوف تسهم في إعادة تنشيط تنظيم داعش الإرهابي. ويلاحظ أن هذه الورقة يستخدمها أكراد سوريا للضغط على واشنطن والغرب للتدخل لوقف العملية العسكرية التركية، خاصة أن أكراد سوريا يتهمون أنقرة بالتورط في دعم داعش.
3- ترحيب سوري مشروط: يلاحظ أن مسؤول سوري والصحافة التركية، بدأت تشير إلى مطالب الحكومة السورية لتطبيع علاقاتها مع أنقرة، فقد أكد السفير السوري السابق لدى تركيا، نضال قبلان، أنه لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة في السياسة، وكشف في 20 أغسطس عن المطالب السورية، والتي تتمثل في إعادة محافظة إدلب إلى سيطرة دمشق، وسيطرة الجيش السوري على المعابر الحدودية مع تركيا، خاصة باب الهوى، إضافة إلى السيطرة الكاملة للحكومة السورية على الطريق التجاري "إم 4"، الذي يربط اللاذقية بحلب والشمال والشمال الشرقي، فضلاً عن تراجع تركيا عن دعم العقوبات الأوروبية والأمريكية ضد سوريا، ومساندة عودة سوريا في المؤسسات الدولية. وأخيراً، توقف تركيا عن دعم التنظيمات الإرهابية. وكشفت تسريبات الصحافة التركية عن المطالب نفسها تقريباً.
أما المطالب التركية، فقد تمثلت في القضاء التام على التهديد الإرهابي لوحدات حماية الشعب الكردية، وإدماج المعارضة سياسياً وعسكرياً في الحكومة السورية، وعودة اللاجئين السوريين، وتطبيق مسار جنيف، وكتابة دستور ديمقراطي، وإجراء انتخابات حرة، والإفراج الفوري عن السجناء السياسيين. ويلاحظ أن المطالب المتبادلة تعكس تشدداً في بعض المطالب. ويعد هذا طبيعياً، بالنظر إلى أن المفاوضات لم تبدأ بعد بين الجانبين بشكل مباشر، وأن هناك ميلاً لدى كل طرف للتشدد في موقفه، قبل الجلوس على طاولة المفاوضات وتقديم تنازلات.
أهداف أردوغان:
يتمثل هدف أردوغان من تطبيع العلاقات مع الحكومة السورية تحقيق الأهداف التالية:
1- ترحيل اللاجئين السوريين: أكد أكار، في 10 أغسطس، على إعادة جميع السوريين الموجودين في تركيا خلال عام بحيث لا يتبقى منهم أحد بعد عام 2023، وهي السياسة التي يسعى من خلالها أردوغان إلى تعزيز فرص انتخابه في الانتخابات الرئاسية القادمة في 2023، خاصة أن قضية اللاجئين السوريين باتت قضية توظفها المعارضة التركية ضد أردوغان، ويساعدها على ذلك وجود رأي عام تركي غاضب من وجود اللاجئين السوريين. كما أن تنفيذ عملية عسكرية تركية ضد أكراد سوريا، أو حتى التوصل لتفاهم مع دمشق لإبعاد تهديدات الأكراد ضد سوريا، سوف يعد إنجازاً أمنياً لحكومة أردوغان يمكن أن يوظفه داخلياً لتعزيز شعبيته.
2- التخلي عن التدخل الخارجي: تؤكد أنقرة أنها ليست لها مطامع خارجية في الأراضي السورية، كما أن انفتاحها على الحكومة السورية يعني تخليها عن سياساتها التدخلية، ودعمها للمعارضة السورية في مواجهة دمشق، وهو ما يؤشر إلى تراجع أنقرة عن سياستها الخارجية القائمة على التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، والتي تبنتها رسمياً منذ ثورات الربيع العربي في عام 2011. ويتوقع أن ينعكس هذا الأمر إيجابياً على علاقة تركيا بدول المنطقة، خاصة مصر، والتي يؤرقها التدخل التركي في العديد من الدول العربية.
3- الضغط على واشنطن: كشف مسؤول في قوات التحالف الدولي، في 14 أغسطس الجاري، أن بلاده تجري اتصالات مع تركيا للوصول إلى تسوية تفاوضية تنهي العنف في سوريا، وتضمن عدم تصاعد تهديدات داعش، وهو ما يعكس قلق واشنطن من التفاهمات التركية – الروسية الأخيرة، والتي قد يترتب عليها عملية عسكرية تركية ضد أكراد سوريا.
وإذا ما أقدمت تركيا على تنفيذ هذه العملية، فإن ذلك سيضعف النفوذ الأمريكي في سوريا، إذ إن نجاح أنقرة في تنفيذ العملية العسكرية لن يجعل أمام الأكراد من خيار سوى التفاوض مع الحكومة السورية للعودة إلى سيادتها، وهو هدف كانت موسكو تحرص على تحقيقه خلال أشهر، كما أن مثل هذا السيناريو سيعني تراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، بشكل أكبر، ويعزز من الاعتقاد السائد بأن واشنطن تتخلى عن حلفائها.
وتتمثل الخيارات الأمريكية، إما في التدخل لدعم الأكراد في مواجهة سوريا، أو محاولة تقديم تنازلات لأنقرة لإثنائها عن تنفيذ العملية العسكرية، غير أن كلا الخيارين ليس من اليسير تنفيذهما، إذ إن كل خيار سوف تترتب عليه خسار واشنطن أحد حلفائها، أي أكراد سوريا، أو تركيا.
وفي الختام، يمكن القول إنه من المرجح أن تتحسن العلاقات بين أنقرة ودمشق في المستقبل القريب، خاصة إذا نجح الجانبان في تسوية القضايا الخلافية، ولعل رغبة أنقرة في إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم قبل الانتخابات الرئاسية عام 2023، قد تمثل أحد العوامل الدافعة لتركيا لتقديم مرونة في المفاوضات.