أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

تحدي العقوبات:

كيف تستخدم روسيا الذهب كمورد استراتيجي في الحرب؟

11 نوفمبر، 2024


عرض: وفاء الريحان

منذ العام 2014، أصبح الذهب سلعة اقتصادية ذات قيمة متزايدة بالنسبة لروسيا، عندما أضافته إلى احتياطياتها الأجنبية، وقللت معاملاتها بالدولار. وزادت أهمية الذهب أكبر في أعقاب العقوبات الاقتصادية الغربية التي تلت الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022؛ إذ استخدمته الدولة للرد على تلك العقوبات. وعلى الرغم من عدم وجود استراتيجية أساسية توجه سياسة الذهب الروسية، باستثناء سياسة الاحتياطي التي ينتهجها البنك المركزي قبل حرب أوكرانيا؛ فإن الكثير من سياسة الحكومة المتعلقة بالذهب تتم بشكل تفاعلي؛ ومن ثم أصبح هذا المورد سمة مهمة لأجندة السياسة الروسية المحلية والدولية. 

وفي هذا الإطار، تسعى دراسة لمؤسسة راند صدرت في سبتمبر 2024 وحملت عنوان "اندفاعة الذهب: كيف تستخدم روسيا الذهب في زمن الحرب" إلى تقديم بعض الرؤى حول أهداف روسيا قبل الحرب الأوكرانية في قطاع الذهب، ثم كيف تغيرت أولوياتها أثناء الحرب. ثم تحاول التعرف على من يمول صناعة الذهب في روسيا، وتحدياتها، وأخيراً، دور الذهب الروسي في تجارة الذهب العالمية، بما في ذلك استخدامه كشكل من أشكال الدفع. 

الذهب قبل الحرب وأثناءها: 

قسم الباحثون في الدراسة سياسة روسيا في مجال الذهب إلى مرحلتين أحدهما مستقرة (قبل الحرب) والأخرى غير مستقرة (منذ الحرب) ويمكن تفصيلهما كالآتي:

- المرحلة الأولى: ركزت سياسات الحكومة بشأن الذهب قبل الحرب الروسية الأوكرانية على أولويتين: أولاهما، السعي إلى تطوير صناعة الذهب؛ بهدف أن تصبح المنتج الأول في العالم، وبما يعظم إمكانات توليد الإيرادات للقطاع. كان هذا الهدف مهماً ليس فقط لأسباب اقتصادية، لكن أيضاً بسبب العوامل الاجتماعية والإقليمية؛ نظراً لأهمية صناعة الذهب في شرق سيبيريا والشرق الأقصى الروسي، حيث يوجد معظم الذهب الروسي. وبحلول عام 2020 أصبح الذهب يمثل أكثر من 25% من جميع صادرات المعادن.

أما الأولوية الثانية، فهي سعي روسيا لزيادة احتياطاتها من الذهب منذ عام 2006، عندما سددت موسكو ديونها الخارجية، وبدأت تعمل على تراكم الاحتياطي. وبين عامي 2006 و2020، أضافت روسيا المزيد من الذهب إلى احتياطاتها تحت إشراف البنك المركزي. ومنذ تعيين نابيولينا رئيسة للبنك المركزي الروسي في عام 2013، أنشأت إطاراً سياسياً مصمماً لتمكين الاقتصاد من الاستجابة للأزمات الدورية المرتبطة في المقام الأول بانخفاض أسعار النفط العالمية. ولم يكن هذا النهج مصمماً لتمكين النمو؛ بل لضمان الاستقرار، ورغم أنه لم يمنع الأزمات؛ فإنه سمح لروسيا بالتعامل معها.

- المرحلة الثانية: منذ بداية الحرب الروسية في أوكرانيا توسعت طموحات روسيا في الذهب، فبعد ثلاثة أيام من الحرب، بدأ البنك المركزي الروسي في شراء الذهب في السوق المحلية دون أن يذكر السبب. وذكرت الصحافة الروسية أن هذا الإجراء اُتخذ رداً على احتمال تجميد الأصول الأجنبية. وفي وقت لاحق، أوقف البنك عمليات شراء الذهب عندما ألغيت ضريبة القيمة المضافة (20%) على مشتريات السبائك الذهبية حتى يتمكن المواطنون الروس من شراء الذهب مع انخفاض قيمة الروبل. 

وفي مارس 2022، بدأ البنك المركزي الروسي في شراء الذهب مرة أخرى، بسعر محدد قدره 5 آلاف روبل للغرام، بعد فترة وجيزة من فرض العقوبات الغربية على البنوك الحكومية الروسية، التي كانت قد اشترت الذهب من المنتجين في السابق. مع ذلك، تخلى البنك المركزي عن سعره الثابت في إبريل بسبب زيادة أسعار الذهب الدولية إلى جانب انخفاض قيمة الروبل. 

وفي أكتوبر 2022، أوقف البنك المركزي الروسي عمليات شراء الذهب مرة أخرى على الرغم من الضغوط من الاتحاد الروسي لمنتجي الذهب للحصول على دعم حكومي أكبر، وقد فسر البنك قراره بالإشارة إلى المخاوف بشأن ارتفاع التضخم الناجم عن زيادة توافر الأموال. وفي أكتوبر من العام نفسه، صرح نائب رئيس البنك المركزي، بأن روسيا لن تقوم بمزيد من عمليات شراء الذهب. وبشكل عام، عكَس تغير أولويات البنك المركزي الروسي بوتيرة متسارعة منذ عام 2022، سعيه للاستجابة للأزمات، رغم نهجه الواضح للسياسة النقدية.

صناعة سياسات الذهب: 

تشير الدراسة إلى أن البنك المركزي الروسي لا يُعد المؤسسة الأساسية المشاركة في صنع السياسات المتعلقة بالذهب، والتي تتغير بانتظام. ففي أكتوبر 2023، على سبيل المثال، حاولت الحكومة استرداد بعض الضرائب وفرض رسوم تصدير مرتبطة بسعر صرف الروبل على مجموعة من السلع بما في ذلك الذهب؛ مما أدى –وفقاً للبعض- إلى ارتفاع في عدد الأفراد الذين يغادرون البلاد ومعهم ذهب، في محاولة لتجنب دفع رسوم التصدير. 

ظهرت أيضاً خلافات بين الاتجاهين الاقتصادي والأمني في روسيا حول كيفية استخدام الذهب. فقد دعا بعض المسؤولين مثل نيكولاي باتروشيف، سكرتير مجلس الأمن الروسي، إلى اعتماد كل من الروبل والنظام التجاري البديل المدعومين بالذهب. وفي إبريل 2022، صرح المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن الرئيس بوتين كان يفكر في ربط الروبل بالذهب، على الرغم من اعتراض البنك المركزي ووزارة المالية على هذا الاقتراح على أساس أنه سيؤدي إلى فقدان السيطرة على احتياطي الذهب. 

وبشكل عام، تعتمد السياسة الروسية تجاه احتياطات الذهب إلى جانب البنك المركزي الروسي على مؤسستين أخريين هما: صندوق الثروة الوطنية (NWF) الذي يتم تمويله من عائدات النفط والغاز، وتديره وزارة المالية، وصندوق الثروة السيادية التابع لوزارة المالية (Gokhran)، وهو مخزن حكومي للمعادن الثمينة والأحجار الكريمة، وتموله وزارة المالية. ويتحمل الصندوق عدة مسؤوليات، بما في ذلك السيطرة على حركة المعادن والأحجار الكريمة من وإلى البلدان خارج الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. 

تمويل قطاع الذهب: 

أشارت الدراسة إلى أن تمويل قطاع الذهب في روسيا يقف خلفه عدد من البنوك المملوكة للدولة والخاصة، وكذلك شركات التعدين الحكومية والخاصة، وهو ما يمكن توضيحه كالآتي:

- دور البنوك: مع بداية الحرب الأوكرانية، كان هنالك 13 بنكاً يسيطرون على نسبة كبيرة من أصول البلاد لدرجة أن البنك المركزي الروسي عرّفها بأنها "مؤسسات مالية ذات أهمية استراتيجية". وكان عدد قليل من هذه البنوك خاصاً، في حين سيطرت ثلاثة بنوك حكومية على أكثر من 70% من أصول المؤسسات المالية ذات الأهمية الاستراتيجية. وتم ترخيص بعض البنوك لتداول الذهب نيابة عن المنتجين، ونقله فعلياً من المنتجين إلى الأسواق المحلية والدولية. وارتفع عدد البنوك التي يحق لها التداول بهذه الطريقة مع اكتساب الدولة المزيد من السيطرة على القطاع. 

وتشير الدراسة إلى أن بنك "في تي بي" وبنك "غازبرومبانك" يؤديان دوراً مهماً بشكل خاص في توفير التمويل؛ ومع ذلك، تواصل البنوك الكبرى أداء دور مركزي في بيع الذهب للروس في السوق المحلية. فقد باع بنك "في تي بي" وحده أكثر من 33 طناً للأفراد في عام 2023، و50 طناً في المجموع؛ وهو ما يمثل نحو ربع إنتاج البلاد في ذلك العام. 

- شركات التعدين: تأتي على رأسها شركة "مانجازيا" - التي قامت بشراء شركة "بوليميتال" إحدى أكبر شركات تعدين الذهب في روسيا في مارس 2024. وكان هناك بعض إعادة توزيع مناجم الذهب وأصول الإنتاج ذات الصلة. على سبيل المثال، اشترت "مانجازيا" منجم "تاسييفسكوي" من شركة "هايلاند غولد"، التي زادت هي نفسها حصتها في القطاع منذ بداية الحرب. كما باعت "هايلاند غولد"، التي اشترت أصول "كينروس" الشركة الأجنبية الكبرى الوحيدة في القطاع في بداية عام 2022، مشروع "تشولباتكان" في خاباروفسك إلى "بوليوس" بعد أيام من الاستحواذ عليه. 

ولكن هؤلاء المنتجين الكبار لا يشكلون كل النشاط الملحوظ في القطاع. فتأتي شركة مثل "روس آتوم" لتؤدي دوراً أساسياً في العلاقات التعدينية الدولية لروسيا؛ إذ تدعم مصالح تعدين الذهب في الخارج، وخاصة في إفريقيا، بما في ذلك بوركينا فاسو ومالي. ومنذ الحرب الأوكرانية، استحوذت الشركة على أصول عديدة، وأبرزها في كازاخستان مع الاستحواذ على منجم "بودينوفسكوي" من شركة "كازاتومبروم"، ومن المتوقع أن تصبح الأخيرة أكبر مصدر لليورانيوم في العالم.

تحديات أساسية: 

قبل الحرب الأوكرانية، هدفت روسيا إلى أن تصبح أكبر منتج للذهب في العالم من خلال زيادة إنتاجها من الذهب بنسبة 27% أي من 329.5 إلى 420 طناً في عام 2022؛ ومع ذلك، يبدو أن الحرب قد غيرت آفاق الصناعة، وأصبحت تواجه العديد من التحديات التي جعلت مستويات الإنتاج تقف عند مستويات عام 2021 تقريباً. 

ومع ذلك، كان قطاع الذهب الروسي مربحاً في عام 2023، كما في أرباح شركة "بوليوس" الرائدة في الصناعة، والتي تمثل نحو ربع الإنتاج الروسي. ويعزى ذلك إلى ارتفاع أسعار الذهب وليس زيادة الأداء التشغيلي، فالشركات حذرة في سعيها إلى إعادة بناء سلاسل التوريد الخاصة بها، كما أدت التكاليف المرتفعة إلى كبح جماح بعض الاستثمارات. والحقيقة أن تلك الاتجاهات السلبية لا تقتصر على قطاع الذهب فقط؛ بل تنطبق على الصناعات الموجهة نحو التصدير بشكل عام.

وتشير الدراسة إلى تعرض قطاع الذهب الروسي إلى عدد كبير من الصدمات الحادة في عام 2022، بما في ذلك: عدم إمكانية الوصول إلى أنواع رئيسية من المعدات الأجنبية وقطع الغيار والمواد الكيميائية؛ وانخفاض سعر صرف الروبل؛ مما جعل استيراد مثل هذه المعدات باهظ التكلفة، فضلاً عن زيادة سعر الفائدة الرئيسي للبنك المركزي الروسي وأسعار البنوك؛ مما أدى إلى شل الإقراض؛ وفقدان وضع التسليم الجيد في مصافي التكرير الروسية مع فرض العقوبات الغربية عليها.

وتُعد الدرجة العالية من الاعتماد على الأجزاء والمعدات الأجنبية في قطاعات التعدين في روسيا، إشكالية تعمقت مع الحرب الروسية الأوكرانية، وسلطت العديد من التقارير الضوء على حاجة المنتجين لموردين جدد في مواجهة العقوبات الغربية وعلى رأس أولئك الموردين تأتي الصين، التي تُعد المصدر الرئيسي لواردات المعدات لروسيا؛ ومع ذلك، هناك مخاوف من أن الموردين الجدد لن يتمكنوا من توفير معدات بنفس الجودة، فضلاً عن مخاطر الاعتماد على مصدر واحد للتوريد، وهو ما يؤثر في الإنتاجية المستقبلية للقطاع.

على جانب آخر، أدت دول آسيا الوسطى دوراً حاسماً بالنسبة للصناعة الروسية؛ إذ بلغت الصادرات من كازاخستان إلى روسيا مستويات قياسية في عام 2022 (8.78 مليار دولار) وعام 2023 (9.79 مليار دولار). كانت الآلات والمفاعلات النووية والغلايات ثالث أهم فئة من الصادرات. وبشكل عام، تتمتع روسيا بمصالح تعدينية كبيرة في العديد من البلدان حول العالم، ولاسيما في أرمينيا، وقرغيزستان، وكازاخستان حيث تعتمد تلك المصالح على العلاقات الشخصية الوثيقة بين النخب السياسية والأمنية والتعدينية الكازاخستانية والروسية. 

وختاماً، ترى الدراسة أن الذهب أصبح سلعة ذات أهمية استراتيجية لروسيا منذ الحرب مع أوكرانيا، لكن قيمته المالية للدولة صغيرة نسبياً مقارنة بالنفط، الذي يُعد وسيظل أهم صادرات روسيا. فقد بلغت قيمة صادرات روسيا من المعادن النفيسة في عام 2022 نحو 28.3 مليار دولار، شكل الذهب أكثر من نصفها بقليل (14.6 مليار دولار). وعلى الرغم من أن هذا الأمر جعل الذهب خامس أهم صادرات البلاد، كما أنه يسهم بأكثر من 3% من إجمالي أرباح التصدير؛ فإن مساهمة الذهب الإجمالية في أرباح التصدير على مدى السنوات الخمس الماضية كانت صغيرة نسبياً، إن لم تكن غير مهمة.

على جانب آخر، تستخدم بعض أجهزة الدولة الروسية الذهب بشكل مباشر في المدفوعات بين الدول بطرق مختلفة، وتشارك الشركات الروسية في تبادل الذهب مقابل السلع أو الأسلحة أو النقد. وليس من الواضح مدى تكرار قيام الدولة بسداد المدفوعات مقابل الأسلحة بالذهب، ولكن التقارير تشير إلى أنها تفعل ذلك مع إيران وكوريا الشمالية. ووفقاً للدراسة، هناك دلائل تشير إلى أن روسيا تعمل على إضفاء الطابع الرسمي على هذا النمط من التجارة؛ إذ أصدرت وزارة الاقتصاد مؤخراً إرشادات جديدة بشأن ثلاثة أنواع من تجارة المقايضة (التبادل العيني) جنباً إلى جنب مع سياسات الواردات الرمادية؛ مما يشير إلى أن الدولة مستعدة للسماح للأنشطة غير الرسمية -والمعفاة من الضرائب بالفعل- بالوصول إلى السلع الأجنبية؛ ومع ذلك، يظل نجاحها في هذا الاتجاه معتمداً على الشركاء الراغبين.

المصدر:

Kennedy, John, Elena Grossfeld, Zsofia Wolford, and Thomas Kenchington, Gold Rush: How Russia is using gold in wartime. Santa Monica, CA: RAND Corporation, 2024.

https://www.rand.org/pubs/research_reports/RRA3230-1.html.