أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

حرب الرقائق:

مآلات التنافس الصيني الأمريكي في صناعة التكنولوجيا المتطورة

13 مايو، 2024


يتزايد القلق الأمريكي من قدرة الشركات الصينية على تطوير رقائق متقدمة، على الرغم من ضوابط التصدير الشاملة التي تم إدخالها في عام 2022، وفي أحدث إشارة على هذا القلق المتزايد؛ ألغت إدارة بايدن، مطلع مايو 2024، تراخيص التصدير التي تسمح لشركتي "إنتل" و"كوالكوم" بتزويد شركة "هواوي" الصينية بأشباه الموصلات، مع زيادة واشنطن الضغط على شركة معدات الاتصالات الصينية، وتؤثر هذه الخطوة التي اتخذتها وزارة التجارة الأمريكية في توريد الرقائق لأجهزة الكمبيوتر المحمولة والهواتف المحمولة التابعة لشركة "هواوي".

خطوات استباقية:

تسعى الإدارة الأمريكية لأن تكون خطواتها في مجابهة تطور القدرات الصينية في مجال صناعة الرقائق الدقيقة والمتطورة، خطوات استباقية لحرمان الشركات الصينية من التكنولوجيات الحيوية، وليست مجرد رد فعل على خطوات الشركات الصينية، خاصة أن إدارة بايدن تسعى لوقف توسع الشركات الصينية في هذا المجال، ومنعها من الوصول لمنافسة الشركات الأمريكية أو الآسيوية الرائدة في هذا المجال؛ إذ تضغط الولايات المتحدة على حلفائها في أوروبا وآسيا؛ لتشديد القيود على صادرات التكنولوجيا والأدوات المرتبطة بالرقائق إلى الصين. ويمكن هنا الوقوف على بعض الملاحظات الأساسية في هذا الصدد، وأبرزها:

1- مخاوف أمريكية من التقدم العسكري الصيني: ترى واشنطن أن التفوق العسكري الكاسح للولايات المتحدة حالياً يعتمد على التكنولوجيا والتقنيات المتقدمة خاصة في صناعة الرقائق، وهي الصناعة التي لا تسيطر عليها الولايات المتحدة بشكل كامل خاصة في مراحل تصنيعها التي تسيطر عليها شركات آسيوية؛ مما يثير المخاوف الأمريكية، خاصة وسط مساعي الصين الحثيثة لامتلاك هذه التكنولوجيا وتطويرها بما يهدد التفوق الأمريكي، وتذليل الفارق التقني بين الولايات المتحدة والصين، والذي يضمن لواشنطن حالياً التفوق بمراحل على منافسيها خاصة في المجال العسكري؛ ناهيك عن المجالات الأخرى التي تُعد هذه الصناعة أحد أهم مدخلاتها مثل: صناعة البرمجيات والهواتف الذكية والسيارات الكهربائية وغيرها.

2- تجاوز الصين للتوقعات الأمريكية في مجال الرقائق: تشعر الولايات المتحدة أن هيمنتها التكنولوجية تتعرض لتهديد واضح من قبل الصين بسبب قاعدة الصين الصناعية الضخمة، والتي منحتها الريادة في تقديم الابتكارات الجديدة إلى الأسواق العالمية بأسعار منافسة؛ إذ تجاوزت الصين بالفعل توقعات واشنطن في المجالات التكنولوجية؛ ما دعا الأخيرة لاستخدام قيود تجارية للحد من الصعود الصيني في المجالات التقنية، والتي يمكن كذلك استخدامها في تطوير الأسلحة سواء أكانت الأسلحة التقليدية أم غيرها من الأنظمة المتعددة الأطراف أم التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج.

3- مساعي الصين للظهور كقوة عظمى في مجال الرقائق: تسعى الصين إلى وضع نفسها كقوة عظمى رائدة في مجال العلوم والتكنولوجيا في العالم كجزء من استراتيجية "الأمن القومي الشامل"، التي تخطط من خلالها بكين لأن تكون أحد أبرز القوى عالمياً في مجالات التقنية والابتكار، وفي قلب هذه الاستراتيجية تقع رقائق أشباه الموصلات الدقيقة، التي تُعد ضرورية لجميع التقنيات المدنية والعسكرية الحالية والناشئة، وتأمل بكين أن تساعدها هذه الرقائق على تحقيق أهدافها الجيواقتصادية والجيوسياسية على مدى العقود المقبلة؛ لتحل محل الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى المهيمنة وزعيمة النظام العالمي الحالي.

صناعة أساسية رائدة:

تُعد صناعة الرقائق وأشباه الموصلات من الأعمدة الأساسية لأي اقتصاد من اقتصادات الدول الكبرى في ظل المنافسة المتصاعدة في مجالات عدة؛ إذ تدخل هذه الرقائق على مختلف أنواعها في أغلب الأجهزة التقنية من الهواتف إلى وحدات تحكم الأسلحة وأنظمة الدفاع الجوي والرادار، كما تدخل في أنظمة السيارات الحديثة والذكاء الاصطناعي، إضافة إلى أهميتها في استراتيجيات التحول الأخضر واستخدام الألواح الشمسية وتعزيز استخدام الطاقة الخضراء ودعم ظهور شبكات الجيل الخامس، والمركبات الكهربائية وأنظمة الأسلحة، وعسكرياً توجد مئات المكونات الأجنبية في أي نظام عسكري بدءاً من أجهزة الرؤية الليلية مروراً بأنظمة الصواريخ والدفاع الجوي والطائرات، ومعظمها إلكترونيات دقيقة تأتي من مجموعة من البلدان، ولا يمكن لبلد واحد إنتاجها بشكل متكامل. ويمكن هنا الوقوف على بعض الملامح الأساسية لتلك الصناعة، وأبرزها:

1- صناعة مُعقدة مُتطورة: تتطلب هذه الصناعة المتطورة، تكنولوجيا معقدة وخدمات لوجستية عبر مئات العمليات، تتحكم فيها عدد من الشركات المصنعة المستقلة، وهي تحظى بدعم كبير من الدول قدر بنحو 721 مليار دولار في عام 2020، وتستفيد من الاستثمارات الضخمة من الصناعة نفسها، إلا أن المنافسة الشرسة في مجالها قد بدأت للتو بين الولايات المتحدة والصين، وتنقسم عملية إنتاج الرقائق إلى عمليتين رئيسيتين؛ أولاهما عملية تصميم الرقائق، التي تهيمن عليها الشركات الأمريكية، وهي المرحلة الأولى من إنتاج الرقائق، وتهدف إلى تصميم الدائرة المتكاملة وتحديد خصائصها.

2- استثمارات هائلة في تكنولوجيا الرقائق: تُعد العملية الثانية هي عملية التصنيع، وهي العملية التي تحتاج لاستثمارات ضخمة وتعتمد عليها الصناعة الدقيقة، وتتطلب آلات نانوية تتضمن التصنيع في المسابك ثم الاختبار والتجميع، وتتم بشكل رئيسي في آسيا، وخاصة في تايوان، التي اكتسبت الدراية والهيمنة في مجال أشباه الموصلات، ولاسيما تلك التي يبلغ طولها 5 نانومترات أو أقل، وهي الأكثر تقدماً، وتسيطر على 90% من هذه العملية شركة "تي أس أم سي" التايوانية، إضافة إلى شركة "إنتل" الأمريكية وشركات يابانية وكورية أخرى. 

3- هيمنة مُتعددة لشركات عالمية على الصناعة: تهيمن شركتا سامسونج الكورية الجنوبية، و"تي أس أم سي" التايوانية، على السوق الأفضل في فئتها مُقابل 5 نانو وأقل، إلا أن الشركة التايوانية، هي التي تحتل الصدارة، وهي تمتلك حوالي 50% من سوق المسابك العالمية، وتنتج 92% من أشباه الموصلات الأكثر تقدماً، وتمثل اليوم 15% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وتضاعفت الاستثمارات إلى عشرات المليارات لخدمة أكثر من 530 عميلاً بما في ذلك "آبل" و"سوني"، وغيرها.

4- مساعي الشركات الصينية للدخول لصناعة الرقائق: بدأت الشركات الصينية في إنتاج المكونات المعقدة داخل تلك الهواتف، بما في ذلك المكوِّنات الصوتية وأجزاء الشحن وعبوات البطاريات. وبعد أن تمكنت من إنتاج تلك التكنولوجيا المعقدة، باتت الشركات الصينية قادرة على طرح منتجات أفضل من منافسيها في أوروبا وآسيا، وخطت الشركات الصينية خطوات واضحة من مرحلة تجميع المكونات المُصنَّعة في الخارج إلى مرحلة إنتاج التقنيات الأحدث الخاصة بها. وبالتزامن مع صدارته في مجال معدات توليد الطاقة المتجددة، فإن البلد الآسيوي الآن يتصدر في عدد من مجالات التكنولوجيا الصاعدة مثل: الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية.

استراتيجية صينية مُغايرة:

ركَّزت الشركات الصينية على تصنيع المنتجات التي يمكن أن تُباع بأسعار أرخص في الدول النامية. أما غياب العلامات التجارية الصينية المتطورة فأكَّد تصوُّراً غربياً مفاده أن الصين مصنع ضخم لا بيئة خصبة للابتكار، لكن الشركات الصينية تعاني من ضعف أكبر حين يتعلق الأمر بتطوير الأدوات الخاصة بتصنيع تلك الشرائح، مثل آلات "الليثوغرافيا" المستخدمة في طباعة أشكال محددة على رقائق السيليكون، ومعدات القياس المستخدمة في ضبط جودة عملية إنتاج الشرائح التي تشمل المئات من الخطوات؛ إذ تعتمد الصين في كل ذلك اعتماداً هائلاً على الواردات اليابانية والأمريكية والأوروبية. ويمكن هنا الوقوف على عدد من المحددات، وأبرزها:

1- قيود أمريكية لمواجهة الصناعة الصينية: فرضت إدارة بايدن مجموعة شاملة من ضوابط التصدير، استهدفت وصول الصين إلى أشباه الموصلات ذات المنشأ الأمريكي والمنتجات المرتبطة بها؛ إذ أصبحت الشركات والأفراد في الصين غير قادرين الآن على شراء الرقائق المتقدمة وتكنولوجيا صناعة الرقائق من الموردين الأمريكيين دون حصول البائع على ترخيص محدد من حكومة الولايات المتحدة، ففي أغسطس 2022، وقّع الرئيس الأمريكي جو بايدن على "قانون الرقائق" الذي يوفر ما يقرب من 53 مليار دولار من الدعم لبناء المصانع.

2- جهود أمريكية لمحاصرة الصين: شجعت الولايات المتحدة شركة "تي أس أم سي" التايوانية على بناء مصنع في ولاية أريزونا لإنتاج شرائح من فئة "النانو"، كما تقرر في المكان نفسه، إنشاء "غيغافاب"، وهو مصنع ضخم فائق الحداثة باستثمارات إجمالية تبلغ 40 مليار دولار بحلول عام 2027، وكثّفت الولايات المتحدة منافستها مع الصين في صناعة أشباه الموصلات، كما وقّعت إدارة بايدن على قانون الرقائق والعلوم، وهو عبارة عن سياسة صناعية بقيمة 52.7 مليار دولار؛ تهدف إلى تعزيز البحث، وتعزيز مرونة سلسلة التوريد، وتنشيط إنتاج أشباه الموصلات في الولايات المتحدة.

3- تعاون أمريكي مع الحلفاء لتقييد التكنولوجيا الصينية: في أكتوبر 2023، فرضت الإدارة الأمريكية القيود الأكثر شمولاً حتى الآن على صناعة تصنيع الرقائق في الصين، للحد من بيع الرقائق المتقدمة للصين؛ مما يحرم الصين من القوة الحاسوبية التي تحتاجها لتدريب الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع. كما أنه يوسع نطاق القيود المفروضة على أدوات صنع الرقائق بشكل أكبر لتشمل الصناعات التي تدعم سلسلة توريد أشباه الموصلات، وعززت الولايات المتحدة هذه الضوابط في يناير 2024، من خلال إقناع هولندا واليابان بالحد من صادرات التكنولوجيا المستخدمة في إنتاج الرقائق، بما في ذلك شركة (ASML) الهولندية، وهي الشركة الوحيدة التي يمكنها توفير أحدث جيل من معدات الماسح الضوئي للطباعة الحجرية، التي تُستخدم لحفر دوائر دقيقة على رقائق السيليكون. 

4- مخاوف شركات أمريكية من تزايد القيود: أدرجت واشنطن بالفعل الشركات الصينية على القائمة السوداء لعزلها عن سلاسل توريد التكنولوجيا الأمريكية، وتم فرض قيود صارمة لتشديد الصادرات؛ مما يتطلب من الشركات طلب تصريح من حكومة الولايات المتحدة، حتى تتمكن من تصدير منتج يحتوي على التكنولوجيا الأمريكية، فيما تحاول شركات الرقائق الأمريكية جاهدة الاحتفاظ بالسوق الصينية؛ إذ تمثل شركة (Nvidia) على سبيل المثال، أكثر من 90% من سوق شرائح الذكاء الاصطناعي في الصين، وأصدرت جمعية صناعة أشباه الموصلات الأمريكية بياناً دعت فيه البيت الأبيض إلى عدم فرض المزيد من القيود على تصدير أشباه الموصلات إلى الصين؛ مما قد يضعف القدرة التنافسية لصناعة أشباه الموصلات الأمريكية، ويعطل سلسلة التوريد، ويعرض الاستثمارات الجديدة الضخمة للخطر. 

وكانت الشركات في بلدان أخرى أيضاً حريصة على كسر الضوابط أو الالتفاف عليها؛ إذ درست شركة "نيكون" اليابانية الاستفادة من سوق الطباعة الحجرية للرقائق في الصين، لتوسيع حصتها الحالية في السوق العالمية البالغة 7%، والتي تحتل المرتبة الثالثة. وتأتي رغبة شركات تصنيع الرقائق الأمريكية في الحفاظ على الوصول إلى السوق الصينية؛ لأنها مثلت 30% من إيرادات أكبر 10 شركات لتصنيع الرقائق في الولايات المتحدة في عام 2023.

وفي التقدير؛ من المُرجح أن تؤثر القيود الأمريكية الأخيرة بشكل كبير في مسار تصنيع أشباه الموصلات المحلي في الصين. والخيار الواضح المتبقي للصين، هو إنتاج قدرات محلية في صناعة الذكاء الاصطناعي تقلل الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية على المدى الطويل. وربما تنجح الصين في سعيها للتفوق على المنتجات الغربية في نسبة السعر إلى الأداء؛ مما يعزز دخول الصين لصناعة الرقائق المتطورة، إلا أنها رغم ذلك، ومن دون دعم من الشركات التي تستخدم التكنولوجيا المتطورة؛ ستكون غير قادرة على إنتاج رقائق 5 نانو متر ورقائق 3 نانو متر التي تصنعها شركة "تي أس أم سي" التايوانية، بينما ستكون الشركات الصينية قادرة على إنتاج رقائق 7 نانو متر، خاصة أن تكلفة إنشاء المصنع الواحد لإنتاج الرقائق الأكثر تطوراً ما بين 10 إلى 15 مليار دولار.