أعلن تنظيم "داعش"، في 21 يناير الجاري، مسئوليته عن التفجيرين الانتحاريين اللذين وقعا في العاصمة العراقية بغداد وأسفرا عن مقتل 32 شخصاً وإصابة 110 آخرين، حيث استهدفا انتحاريان سوقاً مزدحمة في ساحة الطيران وسط بغداد، وهى العملية الأولى للتنظيم منذ يونيو 2019، في قلب بغداد، كما أنها المرة الأولى التي يستخدم فيها عناصر انتحارية في عملياته داخل بغداد منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، على نحو يوحي بأن التنظيم يسعى في المرحلة القادمة إلى رفع مستوى عملياته الإرهابية داخل العراق من جديد.
مغزى التوقيت:
تأتي العملية الإرهابية الأخيرة في سوق ساحة الطيران بوسط بغداد في سياق تصاعد العمليات الإرهابية لتنظيم "داعش" في العراق خلال النصف الثاني من عام 2020، حيث نفذ التنظيم، منذ يونيو من العام الماضي وحتى بداية العام الجاري، عدداً كبيراً من العمليات التي أسفرت عن مقتل وإصابة ما يقرب من 950 من المدنيين وعناصر قوات الأمن العراقية ومليشيا الحشد الشعبي (التي استهدف عناصرها في 24 يناير الجاري في محافظة صلاح الدين على نحو إلى مقتل 11 منهم). وربما يمكن القول إن التنظيم اختار توقيت العملية الإرهابية في بغداد لاعتبارات رئيسية خمسة تتمثل في:
1- توسيع مناطق العمليات الإرهابية وإثبات النفوذ: خلال ثمانية عشر شهراً، لم يتمكن تنظيم "داعش" من تنفيذ عملية إرهابية بوسط بغداد وذلك في ظل الإجراءات الأمنية المشددة التي اتخذتها الحكومة العراقية بالتوازي مع رفع مستوى التنسيق المعلوماتي مع قوات التحالف الدولي لمكافحة "داعش"، حيث كانت آخر عملية إرهابية نفذها التنظيم بوسط العاصمة في يونيو عام 2019، وهو ما يجعل من العملية الإرهابية الأخيرة بمثابة محاولة لتجاوز الإجراءات الأمنية المتبعة من أجل إظهار القوة والنفوذ من جانب "داعش".
2- اقتحام العاصمة: تشير تقارير عديدة إلى أن "داعش" تمكن خلال ثمانية عشر شهر منذ يونيو 2019 وحتى يناير 2021، من العودة مجدداً إلى محافظات ومناطق عراقية عديدة مثل كركوك وصلاح الدين ونينوى والأنبار وديالي ودجلة والفلوجة، مع عدم ظهور العاصمة بغداد على خريطة العمليات الإرهابية التي قام بها خلال هذه الفترة، ومن هنا، يبدو أنه سعى عبر العملية الإرهابية الأخيرة في وسط بغداد إلى توجيه رسالة مباشرة توحي بأن "العاصمة لم تعد آمنة" عبر تنفيذ واحدة من أكبر عملياته الإرهابية منذ ثلاث سنوات.
3- مضاعفة الضغوط على الأجهزة الأمنية: سعى "داعش" من خلال العملية الانتحارية الأخيرة إلى إثبات ضعف عملية التأمين ومن ثم إحراج القيادات الأمنية التي تتولى الإشراف على الوضع الأمني داخل العاصمة، وهو ما انعكس بعد ذلك في إصدار رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي العديد من القرارات الخاصة بإجراء تغييرات رئيسية في الأجهزة الأمنية، تضمنت إقالة وكيل وزير الداخلية لشئون الاستخبارات، ومدير عام استخبارات ومكافحة الإرهاب بوزارة الداخلية، ونقل قائد عمليات بغداد إلى وزارة الدفاع وتعيين آخرين مكانهم.
4- التأثير في المشهد السياسي: كانت لافتاً أن العملية الإرهابية الأخيرة تشابهت مع تلك التي نفذها تنظيم "داعش" بوسط بغداد في يناير 2018 والتي تزامنت مع مناقشة البرلمان العراقي قانون الانتخابات التشريعية الأخيرة، وهو الأمر نفسه الذي تكرر من جديد، حيث تزامنت العملية الأخيرة مع مناقشة البرلمان إرجاء الانتخابات المبكرة التي من المقرر أن تجري في يونيو 2021 إلى أكتوبر من العام نفسه، من أجل إفساح المجال أمام اللجنة الانتخابية لتنظيمها بشكل جيد. ومن هنا، يمكن القول إن التنظيم يحاول من خلال ذلك توجيه رسالة إلى الداخل العراقي مفادها أن العراق ربما تشهد مزيداً من العمليات الإرهابية مع اقتراب موعد الانتخابات، التي قد تقع عمليات مماثلة خلال فترة إجراءها، وذلك بهدف التأثير على المشهد السياسي بشكل عام وتقليص نسبة المشاركة في الانتخابات. وقد ألمح الرئيس برهم صالح إلى ذلك الهدف عندما قال في تغريدة على حسابه على موقع "تويتر" في أعقاب العملية الإرهابية: "الانفجاران الإرهابيان ضد المواطنين الآمنين في بغداد، وفي هذا التوقيت، يؤكدان سعى الجماعات الظلامية لاستهداف الاستحقاقات الوطنية الكبيرة وتطلعات شعبنا في مستقبل يسوده السلام"، مضيفاً: "نقف بحزم ضد هذه المحاولات المارقة لزعزعة استقرار بلدنا".
5- تحذيرات ضمنية: ربما سعى التنظيم إلى تنفيذ تلك العملية في هذا التوقيت الذي يلي وصول الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن إلى البيت الأبيض بيوم واحد، بهدف تأكيد أنه قادر على رفع مستوى عملياته من جديد رغم الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة الأمريكية من أجل مكافحة نشاطه في الفترة الماضية، خاصة بعد أن نجحت في قتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي في العملية العسكرية التي شنتها بمحافظة إدلب السورية في 27 أكتوبر 2019، والتي أعقبتها عمليات مماثلة تعرض التنظيم بسببها لخسائر بشرية ليست هينة.
في النهاية، لا يمكن استبعاد أن تكون العملية الإرهابية الأخيرة التي قام بها تنظيم "داعش" مقدمة لسلسة عمليات إرهابية أخرى داخل العاصمة وبعض المناطق المختلفة، وذلك عبر الاعتماد على عناصر انتحارية من أجل رفع مستوى الخسائر البشرية، لاسيما مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية خلال العام الجاري، وهو ما دفع اتجاهات عديدة للإشارة إلى أن التنظيم يسعى للترويج إلى أن 2021 سوف يكون العام الذي سيستعيد فيه قدرته على رفع مستوى عملياته الإرهابية داخل العراق وخارجها، وهو ما سوف يواجه عقبات عديدة في ظل الإجراءات الأمنية المشددة التي تتخذها القوى المختلفة المعنية بمكافحة التنظيم.