تزامنت الزيارة التي قام بها وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر إلى العراق، في 23 أكتوبر الجاري، مع انتقال القوات الأمريكية من شمال شرقى سوريا إلى غرب العراق، في خطوة من المرجح أنها لم تكن محل اتفاق بين الطرفين بشكل مسبق، إذ أعلنت بغداد أن تلك القوات لم تتلقى الأوامر بالبقاء في العراق، وكشف المسئولون العراقيون عن أن عملية الانتقال الجارية ستتم لكن بقاء القوات الأمريكية سيكون بشكل مؤقت، وهو ما لا يبدو أنه يتفق مع الموقف الأمريكي، حيث صرح إسبر أن تلك القوات ستتواجد فى العراق بشكل مؤقت لكن لديها مهمة في العراق وهى استكمال عملية مكافحة تواجد تنظيم "داعش"، على نحو يكشف تبايناً بين الطرفين حول السقف الزمني للفترة المؤقتة.
تصعيد متجدد:
لا يعد هذا الجدل بين بغداد وواشنطن طارئاً، وإنما تجدد بعد احتواء أزمة على الجانبين في 3 فبراير 2019، عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن نقل القوات يهدف إلى مراقبة الأنشطة الإيرانية في العراق. فقد أبدت الأخيرة تحفظها آنذاك إزاء تصريحات ترامب لرفضها، حسب تصريحات مسئوليها، أن "تكون أراضيها منصة لتهديد دول الجوار"، وساهمت تلك الخطوة في تأجيج مواقف ميليشيا "الحشد الشعبي" والقوى السياسية المقربة من إيران، كان أكثرها حدة دعوة "عصائب أهل الحق" إلى مواجهة التواجد الأمريكي في العراق، كما تحركت كتل نيابية فى مجلس النواب لسن قانون لإنهائه. ولكن مع إقدام الإدارة الأمريكية على تنفيذ الخطوة الأخيرة، من المتصور أن يؤدي ذلك مرة أخرى إلى تأجيج الساحة العراقية ضد الموقف الأمريكي، لاسيما أنه سيضع الحكومة، التي تواجه في المرحلة الحالية أزمات داخلية عديدة وتستعد لاحتجاجات جديدة في 25 أكتوبر الحالي، في مأزق مع طهران والميليشيات.
تغيير شكلي:
تكشف التطورات الحالية الخاصة بعملية انتقال القوات الأمريكية إلى العراق أن الخطة الأمريكية التي وضعت مطلع العام لم تتغير، وأن وزارة الدفاع "البنتاجون" ربما تتوافق مع الرئيس ترامب حولها، وهى التي جرى اعتمادها من جانب وزير الدفاع مارك إسبر الذي تولى حقيبة الدفاع خلفاً لباتريك شاناهان الذي كان قد شارك في وضعها عملياً قبل أن يغادر موقعه في 22 يونيو الماضي، ولكن مع تغير شكلي في عنوان المهمة من مراقبة إيران إلى مكافحة "داعش".
ويعتقد أن هذا الدافع هو ما حاول إسبر تسويقه في زيارته الأخيرة للعراق، لكن التغيير الشكلي في العنوان سيكون له تداعياته على الطرفين، فحكومة عادل عبد المهدي التي أعلنت أنها سمحت بتواجد "مؤقت" لتلك القوات، وجدت نفسها أمام تصور أمريكي مختلف، وأنها ستشارك في مهمة قد تطول ببقاء تلك القوات على الأراضي العراقية.
اللافت للانتباه في السياق ذاته، أن قيادة العمليات المشتركة في العراق أوضحت، في بيان صدر في 22 أكتوبر الجاري، أن عملية انتقال القوات ستكون إلى إقليم كردستان العراق، حيث ستبقى في قاعدة أربيل حتى يتم نقلها إلى خارج البلاد، وظل هذا التوقع قائماً مع دخول القوات عبر معبر سحيله الحدودي في محافظة دهوك بكردستان، ولكن التصريحات الأمريكية أشارت إلى تموضع القوات في غرب البلاد، بما يعني أن عملية نقل القوات الجارية تتم إلى قاعدة عين الأسد في الأنبار، وهى القاعدة ذاتها التي كان الرئيس ترامب قد أشار إليها في تصريحاته الخاصة بمراقبة إيران في 3 فبراير الماضي.
في المقابل، تجد الولايات المتحدة في اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع العراق مدخلاً لتجاوز تلك الأزمة، وهو ما ألمح إليه إسبر بإشارته إلى أن إحدى مهام القوات المنسحبة من سوريا تتمثل في "المساعدة في الدفاع عن العراق". كذلك فإن مكافحة تنظيم "داعش" لا تزال مستمرة، من خلال عملية "إرادة النصر" التي تشارك فيها القوات الأمريكية.
لكن تحليلات أمريكية تشير إلى دافعين أساسيين لهذا التوجه: الأول، يتعلق بالمخاوف من إعادة تموضع "داعش" في العراق مجدداً في أعقاب هروب العديد من عناصره من السجون ومراكز الاحتجاز الكردية في شمال سوريا بعد شن العملية العسكرية التركية. والثاني، ينصرف إلى الموقف من إيران، حيث لا يبدو أن الإدارة الأمريكية تخلت عن هدف مراقبة الأخيرة، ويرجح، وفق تلك التحليلات، أن تتمثل إحدى مهام القوات الأمريكية في العراق في مراقبة الحدود مع سوريا.
فضلاً عن ذلك، لا يزال الرئيس ترامب يواجه انتقادات في الداخل تجاه إصراره على تلك الخطوة، لاسيما وأنه كان قد وعد بـ"إعادة الجنود إلى الديار"، وهو ما اعتبرته اتجاهات عديدة بمثابة إشارة إلى أن القوات ستغادر إلى الولايات المتحدة. لكن اتضح أنه من بين 2000 جندي تقريباً في شمال سوريا تم سحب 1000 إلى العراق، ثم ظهرت تصريحات لاحقاً أكدت بقاء قوة في سوريا حول آبار النفط لمنع وصول "داعش" إليها.
أزمة مستمرة:
يرجح أن تثير زيادة عدد القوات الأمريكية فى العراق الجدل مجدداً في الأوساط السياسية والدينية العراقية التي تعتبر أنه لم يعد هناك مبرر للتواجد الأمريكي، لكن سيظل تحرك أى منها رهن بما سيصدر على المستوى الرسمي حول طبيعة التواجد وسقفه الزمني والمهام التي ستكلف بها تلك القوات، بالإضافة إلى الموقف الإيراني من تلك الخطوة، خاصة وأن طهران تؤيد الانسحاب الأمريكي من سوريا في حين تعارضه في العراق، وزاد هذا الانطباع مع الخلاف الإيراني– التركي حول العملية التي شنت في شمال سوريا وتوقفت بمقتضى التفاهمات الأمريكية-التركية الأخيرة. ومن المتصور أن ردود فعل القوى العراقية تجاه تلك الخطوة لن تتغير، بل على العكس ربما تتزايد، وقد تنخرط الحكومة معها في هذا الجدل.
في المحصلة الأخيرة، يبدو أن الولايات المتحدة ليست بصدد إنهاء تواجدها في المنطقة على النحو الذي أشار إليه الرئيس الأمريكي في خطابه الدعائي الخاص بحملته الانتخابية الماضية، وإنما هناك عملية إعادة انتشار لتلك القوات لاعتبارات عديدة من بينها إيران التي يقول مسئولون أمريكيون، على غرار وزير الخارجية مايك بومبيو، أن الإدارة تعمل على مواجهتها، بعد أن صعّدت أنشطتها المعادية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. لكن تلك الخطوة قد تساهم في تأجيج التوتر الإيراني– الأمريكي في العراق، كما أنها تمثل مؤشراً على أن المنطقة ليست على أعتاب مرحلة تعافي من التهديدات التي شكلها ظهور تنظيم "داعش" على الساحة وتصاعد حدة الأزمات الإقليمية المختلفة.