يسعى تنظيم "داعش" إلى تجنب الوصول إلى مرحلة الانهيار الكامل، بعد أن فقد معظم الأراضي التي كان يسيطر عليها خلال الأعوام الأخيرة، بشكل يدفعه حاليًا إلى محاولة العودة إلى الساحة العراقية، عبر العمل على تنظيم صفوفه من جديد، وهو ما أشارت إليه تقارير عديدة، على غرار التقرير الأخير الذي أصدرته وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون"، في 4 فبراير 2019، وكشفت فيه عن أن التنظيم يقوم بتجديد المهام الرئيسية وبناء القدرات في العراق بأسرع مما يفعل في سوريا، مشيرة إلى أنه ما زال يجتذب العشرات من المقاتلين الأجانب كل شهر ويحصل على تبرعات بصفة مستمرة. وقد توازى ذلك مع التحذيرات التي وجهتها السلطات العراقية، في اليوم التالي، من محاولات يقوم بها التنظيم لاختراق بلدات محصنة أمنيًا، مثل بلدة جرف الصخر التابعة لمحافظة بابل، بما يعني أن "داعش" ما زالت لديه القدرة على تهديد أمن واستقرار العراق.
أسباب متعددة:
ربما يمكن تفسير حرص "داعش" على إعادة بناء قدراته داخل العراق في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- توافر الموارد البشرية: كانت العراق هى الدولة الأولى التي سيطر تنظيم "داعش" على مناطق واسعة منها عندما بدأ في الظهور على الساحة عام 2014، حيث تشكلت فيها توجهاته الفكرية وبدأ عبرها في استقطاب إرهابيين من أنحاء مختلفة من العالم، بما فيها العراق نفسها، على نحو وفر له موارد بشرية استند إليها في محاولاته المستمرة للانتشار داخل وخارج العراق.
2- التنظيمات المنافسة: انتشرت في سوريا، في مرحلة ما بعد اندلاع الأزمة في مارس 2011، تنظيمات إرهابية عديدة، بشكل خصم، إلى حد ما، من قدرة "داعش" على التوسع داخلها، بل وفرض عليه الانخراط في مواجهات مسلحة معها أضعفت من نفوذه نسبيًا داخل سوريا قبل أن يتعرض لهزائم كبيرة بسبب الضربات التي وجهتها له القوى المعنية بالحرب ضده. بل إن بعض هذه القوى تحاول في الفترة الحالية استثمار دورها في تلك الحرب للحصول على مكاسب سياسية، على نحو سوف يدفعها إلى بذل مزيد من الجهود لمنع تمدد التنظيم من جديد داخل سوريا.
3- الحصول على الدعم: أسس التنظيم شبكة علاقات اجتماعية داخل العراق بعد انضمام عناصر محلية إليه، على نحو مكنه من تكوين خلايا نائمة بعد خروجه من معظم المناطق التي كان يسيطر عليها في السابق، وهى الخلايا التي تمكنت من تنفيذ عمليات إرهابية عديدة بعد إعلان رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، في 9 ديسمبر 2017، الانتصار عليه.
ومع ذلك، فإن ثمة اتجاهات عديدة داخل العراق تشير إلى أن هناك أطرافًا محلية تسعى إلى الاستفادة من التحذيرات الخاصة بمحاولات "داعش" العودة من جديد إلى المناطق التي سبق أن سيطر عليها، من أجل تعزيز نفوذها الداخلي ودعم الميليشيات المسلحة التي كونتها وتصر على بقاءها، خاصة في ظل الدعوات المستمرة التي تطلقها بعض الأطراف الأخرى بضرورة حصر السلاح بيد الدولة فقط.
وسائل مختلفة:
كشف نشاط "داعش" خلال عام 2018 عن اعتماده على مجموعة من الوسائل التي سعى من خلالها إلى العودة من جديد إلى الساحة العراقية، يمكن يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تغيير الأولويات: بدأ "داعش"، خلال الفترة الأخيرة، في التخلي بشكل كبير عن ما يسمى بـ"السيطرة الترابية أو المكانية"، والتي تتمثل في تعزيز نفوذه داخل منطقة محددة، بوسائل عسكرية وتنظيمية، وهو ما كان يساعد، إلى حد ما، في استهدافه، من خلال الغارات الجوية التي تشنها دول التحالف الدولي، وهو ما دفعه إلى التحول للاعتماد على النشاط التنظيمي فقط، عبر التواجد بشكل عملياتي في مناطق محددة، لكن دون السيطرة عليها، وهو النهج الذي يتبعه تنظيم "القاعدة" وفروعه المختلفة منذ تأسيسه، على نحو اعتبرت اتجاهات عديدة أنه كان سببًا في بقاء التنظيم حتى الآن، رغم كل الضربات التي تعرض لها.
2- الاختفاء والتمويه: بدأ "داعش" في الاعتماد على تكتيكات جديدة لتنفيذ عملياته الإرهابية، مثل تكتيك "الأكواخ" أو "المضافات"، التي يستخدمها في تخزين الأسلحة التي يستخدمها في تنفيذ الهجمات الإرهابية، بشكل يمكن أن يفرض صعوبات أمام إمكانية رصدها من جانب السلطات الأمنية. وتشير تقارير عديدة إلى أن التنظيم يستخدم "المضافات" في التخطيط للعمليات الإرهابية الجديدة وتوزيع المهام على قياداته وكوادره. وقد أعلنت الحكومة العراقية، في مارس 2018، عن الكشف عن 4 "مضافات" تابعة لـ"داعش" وجدت السلطات بها ملابس عسكرية وقذائف هاون عيار 120 ملم وحاويات وقود و3 زوارق وغيرها.
3- الكمائن المتنقلة: بات التنظيم يعتمد بشكل واضح على "الكمائن المتحركة" في استهداف عناصر القوات الحكومية وميليشيا "الحشد الشعبي"، عبر إقامة نقاط أمنية وهمية، أو من خلال وضع عبوات ناسفة على الطرق لاستهداف المركبات العسكرية، فضلاً عن تسريب معلومات مغلوطة عن مواقع التنظيم لاستدراج القوات إلى مناطق يسيطر عليها الأخير، بشكل يساعده، في بعض الأحيان، على الإيقاع بعدد أكبر من الخسائر داخل صفوفها. وقد بدأت السلطات الأمنية العراقية في تبني آليات عديدة للتعامل مع مثل هذه التكتيكات على نحو ساعدها في توجيه ضربات قوية للتنظيم خلال المرحلة الماضية وتقليص قدرته على الاستناد لتلك الكمائن في تنفيذ عمليات إرهابية نوعية.
وفي النهاية، يمكن القول إن محاولات "داعش" استغلال التطورات السياسية والأمنية التي طرأت على الساحة العراقية خلال الفترة الماضية تواجه عقبات عديدة، أهمها أن الأجهزة الأمنية العراقية باتت مدركة إلى أن ثمة تحولات عديدة في الآليات التي كان يستخدمها التنظيم لتعزيز نفوذه داخل العراق، على نحو دفعها إلى تبني استراتيجية مختلفة للتعامل معها، تقوم إحدى ركائزها على توجيه ضربات قوية لمواقع التنظيم داخل سوريا بهدف قطع خطوط التواصل بين المناطق التي يتواجد بها في الدولتين ووضع عقبات عديدة تقلص من قدرته على الاستفادة من الحدود المشتركة لشن هجمات جديدة داخل العراق.