لم يتراجع الجدل داخل إيران حول هوية الجهة التي نفذت الهجوم الذي استهدف العرض العسكري في مدينة الأحواز في 22 سبتمبر 2018. فرغم أن أطرافًا عديدة ما زالت ترى أن إحدى الجماعات المسلحة التي تنتمي للقومية العربية في الأحواز هى المسئولة عن تلك العملية، فإن بعض الجهات بدأت في الترويج إلى أن تنظيم "داعش" هو الذي قام بشن هذا الهجوم، الذي يعتبر، في رؤيتها، الثاني من نوعه بعد الهجوم الأول الذي تعرض له ضريح الخميني والمبنى الإداري التابع لمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، في 7 يونيو 2017، وأعلن "داعش" مسئوليته عنه.
اعتبارات عديدة:
وفي هذا السياق، بدأت بعض وسائل الإعلام الرئيسية في إيران، على غرار صحيفة "جوان" (الشباب) التابعة للحرس الثوري، في ترجيح فرضية مسئولية "داعش" عن الهجوم الأخير، مستندة إلى اعتبارات عديدة منها نفى حركة "النضال العربي لتحرير الأحواز" مسئوليتها عنه إلى جانب الإعداد والتخطيط المحكم للهجوم الذي يشير إلى قدرات قد لا تمتلكها مثل تلك الجماعات الإيرانية.
وربما يمكن القول إن السلطات الإيرانية تسعى عبر سماحها بالترويج لهذه الرواية إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:
1- التركيز على وجود محاور توافق مشتركة بين إيران والغرب: تسعى إيران في الفترة الحالية إلى تأكيد وجود قضايا يمكن أن تتحول إلى محاور للتوافق مع الدول الغربية، تتصدرها قضية الحرب ضد التنظيمات الإرهابية، ولا سيما تنظيم "داعش".وهنا، يمكن القول إن التوتر المتصاعد بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية حول البرنامجين النووي والصاروخي والدور الإقليمي، لم يمنع الأولى من التلميح إلى أنه يمكن الوصول إلى تفاهمات مع الدول الغربية حول الملف الأبرز الذي يحظى باهتمام خاص من جانبها، خاصة أن هذه الدول ترى أن تقليص حدة التهديدات التي يفرضها نشاط التنظيمات الإرهابية في المنطقة يفرض تداعيات إيجابية على مصالحها، بعد أن وصلت ارتدادات الأزمات الإقليمية في الشرق الأوسط إلى حدودها، ممثلة في الموجات المتتالية من المهاجرين واللاجئين والعمليات الإرهابية التي استهدفت عواصمها ومدنها الرئيسية، مثل باريس وبروكسل ولندن.
وبعبارة أخرى، فإن إيران تحرص على الترويج إلى أنها، على غرار الدول الغربية، تواجه تهديدات جدية من جانب التنظيمات الإرهابية، على نحو يفرض، في الرؤية الإيرانية، ضرورة فتح قنوات تواصل مشتركة بين الطرفين من أجل الوصول إلى تفاهمات أمنية تعزز دورهما في الحرب ضد الإرهاب.
وقد حاول الرئيس حسن روحاني، أكثر من مرة، خلال لقاءاته مع بعض المسئولين الغربيين، الإشارة إلى أن مكافحة الإرهاب يمكن أن تمثل قاسمًا مشتركًا في أولويات إيران وهذ الدول.
2- صرف الانتباه عن دور إيران في دعم الإرهاب: مثلت السياسة التي تبنتها إيران للتعامل مع التطورات السياسية والميدانية التي شهدتها العديد من دول الأزمات أحد الأسباب الرئيسية التي عززت نشاط التنظيمات الإرهابية، على غرار ما حدث في كل من العراق وسوريا تحديدًا.
ومن هنا، تحاول الجهات التي تروج لرواية "داعش" صرف الانتباه عن الدور الذي قامت به إيران في دعم هذه التنظيمات، عبر الإيحاء بأن دور إيران أنتج معطيات عكسية، باعتبار أن إيران، في رؤيتها، شاركت في الحرب ضد الإرهاب، من خلال الدعم الذي قدمته إلى النظام السوري، على سبيل المثال، الذي مكنه من مواجهة ضغوط تلك التنظيمات في الأعوام الماضية، وساعده على تعزيز سيطرته على كثير من المناطق التي تواجدت فيها تلك التنظيمات خلال تلك الفترة.
وبعبارة أخرى، فإن هذه الاتجاهات تزعم أن مثل تلك النوعية من الهجمات التي استهدفت العرض العسكري للحرس الثوري تمثل ردًا من جانب تلك التنظيمات على الدور الذي تقوم به إيران في الحرب ضدها، خاصة في سوريا، وهو ما يمكن أن يعزز الجهود التي يبذلها النظام الإيراني لتبرير إصراره على تقديم مزيد من الدعم الاقتصادي والعسكري للنظام السوري، باعتبار أن ذلك يحمي مصالح إيران وأمنها القومي في المقام الأول.
وخلال لقاءاته على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحتى في كلمته أمام الجمعية، أشار روحاني إلى دور إيران في سوريا، حيث أعاد التذكير بأن انخراط المستشارين الإيرانيين في المواجهات العسكرية داخل سوريا كان بناءً على طلب من الحكومة السورية في إطار محاربتها للتنظيمات الإرهابية.
3- تقليص أهمية قضايا القوميات: كان لافتًا أن الاتهامات المتسارعة التي وجهها كثير من المسئولين الإيرانيين وبعض وسائل الإعلام الرئيسية إلى إحدى الجماعات المسلحة التي تنتمي إلى إقليم الأحواز، أنتجت في النهاية تداعيات عكسية، بعد أن أعادت القضايا الخاصة بالقوميات إلى الواجهة من جديد، في ظل الأوضاع المعيشية المتردية التي تعاني منها تلك القوميات، سواء العرب أو الأكراد أو البلوش أو الآذاريين أو غيرهم، والتي سوف تتفاقم خلال المرحلة القادمة على ضوء المعطيات الجديدة التي فرضتها العقوبات الأمريكية التي ستصل إلى ذروتها في 5 نوفمبر القادم عندما تستهدف تقليص الصادرات النفطية الإيرانية، التي تراجعت بالفعل حتى قبل تفعيل تلك الحزمة من العقوبات.
وبالطبع، فإن ما ساهم في تراجع زخم الرواية الأولى التي أشارت إلى أن تلك الجماعة هى المسئولة عن تنفيذ الهجوم، هو مسارعة الأخيرة إلى نفى ذلك، بالتوازي مع حرص تنظيم "داعش" على إعلان مسئوليته مجددًا عن الهجوم، حيث نشر تسجيلاً صوتيًا جديدًا هدد فيه بأن "هجوم الأحواز لن يكون الأخير".
4- تعزيز التعاون الأمني مع دول الجوار: استغلت إيران الهجوم الأخير في الأحواز من أجل دعم الجهود التي تبذلها بهدف توسيع نطاق التعاون الأمني مع بعض دول الجوار، إلى جانب العديد من القوى الدولية المعنية بأزمات المنطقة، وهو ما بدا جليًا في الاجتماع الأول لمنتدى الحوار الأمني الإقليمي الذي عقد بطهران في 26 سبتمبر 2018، وضم أمناء ومستشاري الأمن القومي في إيران وأفغانستان والهند وروسيا والصين.
إذ اعتبرت إيران أنها وجميع هذه الدول مُعرَّضة لتصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية سواء داخل حدودها أو بالقرب منها، مشيرة إلى احتمال انتقال الإرهابيين من سوريا والعراق إلى أفغانستان ودول آسيا الوسطى، بعد أن تعرضوا لهزائم عديدة في الدولتين، في ظل الأدوار التي قامت بها بعض الدول في الحرب ضدها ومنها إيران وروسيا وذلك وفقًا للرواية الإيرانية.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إنه رغم تهديدات إيران المستمرة بالرد على العملية الأخيرة في الأحواز، إلا أن ذلك لا ينفي أنها ما زالت مصرة على أهمية وضرورة الوصول إلى توافقات أمنية مع الدول الغربية، قد تساعدها في تحييد المسارات الصعبة لتفاعلاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي قد تفرض في النهاية استحقاقات استراتيجية ربما لا تتوافق مع مصالحها ورؤيتها لمستقبل دورها الإقليمي في المنطقة خلال المرحلة القادمة.