أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

نتانياهو و «صفقة العصر» بعد حسم معركة درعا

03 يوليو، 2018


عندما تعود درعا إلى حضن دمشق قريباً ينتهي الشق العسكري من «الثورة». المفارقة أن المدينة التي انطلقت منها الشرارة الأولى تشهد هذه الأيام انطفاء هذه الشعلة. وستواجه المعارضة السياسية أخطر مرحلة في عملها. لن تعود لها مواقع في الداخل تستند إليها في مقاومة النظام أو تهديده. ولن تكون قادرة على مواجهة قرار دولي- إقليمي سهّل، إن لم يرع مباشرة، الحملة العسكرية التي تشنها القوات السورية بمساندة واسعة من الطيران الروسي لإقفال «الجبهة الجنوبية». ولا يبدو أن الفصائل المختلفة، وبينها «الجيش الحر» ستكون قادرة على الصمود طويلاً. سيتكرر «نموذج» حلب والغوطة. ولا تملك هذه الفصائل الكثير لمنع عودة المنطقة إلى حضن دمشق. وتلقت موقفاً خطياً من الأميركيين بألا تتوقع تدخلاً عسكرياً منهم لحمايتهم من المصير المحتوم. ولن تنفع قادتها الدعوة إلى تشكيل غرفة عمليات مشتركة لآلاف المقاتلين. تأخروا سبع سنوات ولم يدركوا طريقهم إلى توحيد البندقية. وتأخروا أربع سنوات وأكثر لاستعادة قرارهم من «غرفة الموك». قيّدتهم الدول المشاركة في هذه الغرفة بسلسلة من الشروط على رأسها وجوب التزامهم بما تقرره هذه الدول... وإلا انقطعت عنهم الرواتب والإمداد العسكري.

لذلك لم تحرك الفصائل الجنوبية ساكناً لتقديم الدعم إلى شركائها الذين كانت جبهاتهم تتداعى الواحدة تلو الأخرى، من ريف حلب الشمالي إلى القلمون وريف دمشق وغوطتها. في حين كان أهل «الثورة» يعولون على الجنوب، الخاصرة الرخوة للعاصمة. كان ينظر إلى مدن الجنوب، خصوصاً درعا، خزاناً للبعث وإدارات الدولة، لذا كان كثيرون يتوقعون أن يرجح تحرك هذه المدن نحو دمشق كفة المعارضة، وأن يشكل بداية لتغيير جذري. لكن المنطقة تحصد اليوم ومعها الثورة ثمن سكوتها وقعودها وقت الحاجة للتخفيف عن ضغوط كانت تتعرض لها جبهات أخرى. استجابت رغبة «حلفائها» الخارجيين واطمأنت إليهم. كما أنها قبل هذا وذاك تسدد اليوم فاتورة انقساماتها وتشرذمها وخلافاتها وصراعاتها الدموية.

قرار إعادة الجنوب السوري إلى حضن النظام كان ثمرة «صفقة» هندسها بنيامين نتانياهو بين موسكو وواشنطن، بانتظار أن تطرح الإدارة الأميركية «صفقته» على الفلسطينيين. والواقع أن الأطراف الأربعة المعنية بهذه الصفقة وجدت فيها مخرجاً مناسباً للخلاص من المستنقع السوري. إسرائيل رفعت مستوى التفاهم بينها وبين روسيا. لم يعد هناك تواصل عسكري بين قاعدة حميميم وتل أبيب فقط، لتغطية الغارات الجوية الإسرائيلية المتواصلة على مواقع لإيران وحلفائها في بلاد الشام. بات هناك تفاهم سياسي. اقترح نتانياهو على الرئيس فلاديمير بوتين التعاون على إخراج كل القوات الأجنبية، وضبط الحضور الإيراني في سورية في مقابل وعد بمغادرة القوات الأميركية قواعدها في شرق هذا البلد وشمال شرقه، ووقف التصريحات المطالبة برحيل الرئيس بشار الأسد واستعجال المرحلة الانتقالية. ضمن رئيس الوزراء الإسرائيلي سلفاً إبعاد الإيرانيين عن الحدود الشمالية لفلسطين. أبعدتهم غاراته عشرات الكيلومترات الكافية في نظر عسكره. لكن الأهم في هذه «الصفقة» أنه يجدد العقد مع قوات النظام التي ستتولى أمن الحدود في الجولان والمناطق الأخرى، كما كانت تتولاه طوال أربعة عقود منذ حرب 1973. وكان واضحاً منذ اندلاع الحرب في سورية أن إسرائيل لا ترغب في التغيير، وظلت تمارس سياستها الخاصة من وراء الستار. حتى أنها لم تكن طرفاً مع الأميركيين والروس والأردنيين عندما توافقوا على إرساء الهدنة في الجبهة الجنوبية. وهي تبدو اليوم على أبواب «صفقتين» تاريخيتين تؤدي دوراً كان مقصوراً على الكبار، فهل تقدر تل أبيب على رسم النظام في الإقليم، انطلاقاً من سورية وما بقي من فلسطين، أو على الأقل فرض وجهة نظرها في كل من واشنطن وموسكو على السواء؟

الأردن الطرف الإقليمي الآخر في «الصفقة» يحصد ثمار سياسة «النأي بالنفس» التي حافظ عليها طوال سبع سنوات. كان شغله الشاغل ضبط الوضع على حدوده الشمالية. وهو اليوم يتطلع إلى إقفال مسرح العمليات ما وراء هذه الحدود. يعاني أزمة اقتصادية زاد استفحالها إقفال المعابر بينه وبين العراق وسورية ويعنيه كثيراً إعادة فتح هذه الشرايين التي تحرك التجارة والاقتصاد. لم يطلق العنان للفصائل الجنوبية، ولم يقطع شعرة معاوية مع دمشق. ظل التواصل معها، تارة مباشرة وطوراً عبر الكرملين الذي حرص سيده على عقد لقاءات شبه دورية مع العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني. ولا تعارض عمان إعادة تسلم القوات السورية النظامية أمن المعابر، خصوصاً معبر نصيب. ما تخشاه وكانت تعارضه هو تقدم القوات الإيرانية وحلفائها من حدودها الشمالية. ويناسبها ويريحها أيضاً إبرام تسوية تعيد فتح الحدود بين جارها الشمالي، وترسخ الاستقرار في مدن الجنوب، لتفتح ملف إعادة اللاجئين إلى قراهم وبلداتهم. وكانت أعلنت أخيراً في الحملة العسكرية الدائرة هذه الأيام شمال الحدود أنها لن تفتح المعابر أمام مزيد من الفارين من سعير الحرب. لم يعد اقتصادها يتحمل مزيداً من الوافدين. وكانت أقفلت الأبواب أمام عشرات آلاف الفارين من منطقة الجزيرة بعد قيام «داعش» والحرب الدولية عليها. ولم ترضخ لضغوط المجتمع الدولي الذي لم يرق له بقاء هؤلاء اللاجئين في مخيم الركبان في المثلث الحدودي الأردني- السوري- العراقي. مرد التشدد في عمان ورود تقارير استخبارية عن تسلل إرهابيين بين الفارين من «عاصمة الخلافة» ومناطق التنظيم الإرهابي. وكان موقع لحرس الحدود الأردنية تعرض قبل عامين لهجوم إرهابي.

فتح نتانياهو باباً يتيح للرئيس ترامب الخروج من تخبطه السياسي في سورية. مثلما يطلق يد روسيا نهائياً في سورية من دون معاندة واعتراض غربيين. حمل له وعداً من نظيره الروسي بالمساعدة على تقليم نفوذ إيران بما يحقق هدف استراتيجيته بمنع تمدد حضور طهران إلى شاطئ المتوسط وترسيخ أقدامها في سورية. وهما أمران يعتبرهما تهديداً مصيرياً لحليفته الاستراتيجية. في المقابل تتوقف الإدارة الأميركية عن الدفع باتجاه إطلاق المرحلة الانتقالية لاستعجال التغيير في سورية. وتكف عن المطالبة برحيل الأسد. وتسحب قواتها من شرق سورية وشمال شرقها في مقابل انسحاب «الحرس الثوري» وميليشياته. وتسهل عملية الإصلاحات التي رسمتها وترسمها موسكو لإدخال بعض الإصلاحات الدستورية تمهيداً لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في 2021 بعد نهاية الولاية الحالية للرئيس الأسد. ولا يعرف كيف ستتمكن المعارضة من فرض رؤيتها في هذه الإصلاحات، مع اقتراب خسارتها آخر مواقعها في الداخل. فمن المقرر أن يستعجل المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا إلى تشكيل اللجنة الدستورية على وقع هذا التفاهم الرباعي الذي لن تنفع اعتراضات أوروبية أو غير أوروبية على مضمونه، ما دام اللاعبون المعنيون مباشرة حاضرون في الميدان. وما دام أركان الإدارة سيظلون على عدم اعترافهم بشرعية الأسد، وعلى موقفهم الممتنع عن المساهمة في أي مشروع لإعادة إعمار بلاد الشام ما لم يحصل تغيير حقيقي.

لذلك تبقى هذه الصفقة مقايضة قد لا تثمر ما يرغب فيه الطرفان تماماً. أو عنوان مرحلة بانتظار ما سينجم عن القمة المرتقبة بين بوتين وترامب منتصف الشهر الجاري. فالكرملين يعرف أن قدرته على تقليم النفوذ الإيراني تظل لها حدود ومحاذير. مثلما يعرف أن الرئيس ترامب يرغب قبل حلول موعد الانتخابات النصفية أن يعلن نهاية الحرب على «داعش»، وكذلك قراره بسحب قواته من سورية... من دون أن تنسحب هذه القوات فوراً كما ترغب موسكو ودمشق. هدفه دعم مواقف الحزب الجمهوري عشية الانتخابات. كما أن صقور الإدارة يعون بالتأكيد أن استعجال سحب القوات من سورية يجرد واشنطن من أي أداة للضغط إذا أخلت موسكو بوعودها، أو عجزت عن الوفاء بها. ويرون أن حضور بلادهم السياسي وقواعدها العسكرية في مناطق انتشار «قوات سورية الديموقراطية» ربما تشكل بديلاً من بعض خسارتها في العراق لحساب إيران التي رمت بثقلها أخيراً لاستعادة زمام المبادرة وفرض يدها العليا في بغداد، إثر نتائج انتخابات برلمانية لم توفر لحلفائها الغلبة. ولا يستبعد هؤلاء أن تتجاهل إيران رغبة روسيا في تقليص حضورها. أو أن تلجأ إلى أسلوب الاعتماد على القوى المحلية الموالية لها لعرقلة أي تفاهم بين الكبار يتجاهل دورها ومصالحها. لذلك لا تعول إدارة كثيراً على دور موسكو في إضعاف الجمهورية الإسلامية بقدر ما تعول على سياسة العقوبات القاسية التي بدأت بفرضها عليها، وتستهدف خصوصاً وقف صادراتها النفطية وإعادتها إلى الصفر. وهو أكثر ما تخشاه النخبة الحاكمة في طهران التي تواجه نقمة شعبية وحراكاً في الشارع يكبر ويخفت على وقع أزمة اقتصادية عميقة ودقيقة. ألا يقلقها كثيراً أن تتجه الهند إلى وقف استيراد خمسمئة ألف برميل من نفطها يومياً، أي ما يشكل خمس صادراتها؟

عودة درعا إلى حضن دمشق تفتح باب البحث في التفاصيل. فهل تعقد مصالحات بين فصائل والمسؤولين العسكريين الروس كما جرى في كثير من المواقع والجبهات، أم تذهب الغالبية إلى إدلب الوجهة الأخيرة لمعظم الفصائل المقاتلة؟ وبإقفال جبهة الجنوب السوري يبقى إعلان انتهاء الحرب رسمياً رهناً بمصير إدلب وريفها. وتقرير مصير هذه المدينة سيطرح في مرحلة لاحقة بتفاهم بين واشنطن وموسكو، وكذلك أنقرة. الولايات المتحدة لا يمكنها السكوت عن خطر يشكله انتشار أكثر من عشرة آلاف عنصر «قاعدي» من «جبهة تحرير الشام» أو غيرها في هذه المدينة الشمالية. كما أن روسيا ستستغلها ورقة لإعادة العلاقات رسمياً بين النظام في دمشق وحكومة الرئيس رجب طيب أردوغان. وهو ما يساهم برأيها في إعادة تأهيل نظام الأسد!

*نقلا عن صحيفة الحياة