دوافع مُحفّزة:

لماذا تتواصل الاحتجاجات في بوليفيا؟

29 November 2024


تشهد بوليفيا أزمة سياسية حادّة، هي الأشدّ منذ عام 2019؛ إذ يشهد البلد الواقع في أمريكا اللاتينية احتجاجات واسعة منذ مطلع عام 2024. وتعود جذور هذه الاضطرابات إلى صراع على السلطة بين الرئيس الحالي لويس آرسي، والرئيس السابق إيفو موراليس، وكلاهما ينتمي إلى حزب "الحركة نحو الاشتراكية" (MAS). وقد شلّت الاحتجاجات المدن الكبرى، كاشفة عن انقسامات عميقة داخل الشارع البوليفي.

وفي نوفمبر 2024، تصاعدت الاحتجاجات العنيفة التي تشهدها بوليفيا؛ إذ اقتحم مُتظاهرون مؤيدون لموراليس مُنشأة عسكرية، واستولوا على الأسلحة والذخائر واحتجزوا 200 جندي كرهائن. 

أبعاد مُرتبطة: 

تُعاني بوليفيا من اضطرابات سياسية عميقة، تعود أسبابها إلى التحول في العلاقة بين موراليس وآرسي، ورغم أنهما كانا حليفين في السابق؛ فإن علاقتهما قد شهدت تحولاً إلى مُنافسة شرسة أثّرت بشكل سلْبي في الاستقرار الوطني؛ ويمكن الإشارة إلى أبرز الأبعاد المُرتبطة بالمشهد السياسي الحالي في بوليفيا على النحو التالي:

1. استقالة موراليس في 2019: يُظهر المشهد السياسي في بوليفيا خلال العقديْن الماضييْن تحولات جذرية، حيث صعد موراليس إلى سدّة الرئاسة عام 2006، مُغيّراً بذلك المشهد الاقتصادي البوليفي من خلال مُبادرات جريئة كَتأميم صناعة النفط، وإعادة توزيع الأراضي الزراعية، وفرض ضرائب أعلى على الأثرياء. وتُشير التقارير إلى انخفاض معدل الفقر من 60% عام 2006 إلى 36% عام 2017، وارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 1200 دولار إلى أكثر من 3350 دولاراً خلال تلك الفترة.

وفي المقابل؛ انتهت رئاسة موراليس باضطرابات واسعة خلال انتخابات أكتوبر 2019؛ إذ أثار تعليق فرز الأصوات لمدة 24 ساعة شكوكاً حول التلاعب بالانتخابات. وقد دفعت الاحتجاجات التي انحاز لها سياسيون وقادة الجيش والشرطة -بالإضافة إلى إعلان بعض المنظمات الإقليمية مثل منظمة الدول الأمريكية وجود "تلاعبات واضحة" في نظام التصويت- إلى استقالة موراليس ولجوئه إلى المكسيك. 

2. صعود آرسي إلى السلطة: خلف موراليس مرشح حزب الحركة نحو الاشتراكية (MAS) لويس آرسي، الذي تولى الرئاسة عام 2020، بعد أن كان قد شغل منصب وزير الاقتصاد في حكومة موراليس. وحظي آرسي بدعم شعبي واسع، حصد من خلاله فوزاً ساحقاً بأكثر من 55% من الأصوات، وقد أسهمت خبرته الاقتصادية في نجاحه الانتخابي.

لكن حزب "الحركة نحو الاشتراكية" شهد انقسامات حادّة بعد وصول آرسي إلى السلطة. فقد برز فصيلان مُتنافسان عام 2023؛ الأول هو "الأركيستاس" (كتلة التجديد) المُؤيدة لآرسي، والثاني "الإيفيستاس" الموالي لموراليس. وقد بلغت التوترات ذروتها في أكتوبر 2023، عندما حاولت لجنة حزبية تابعة لموراليس عزل آرسي ونائبه، لكنّ فصيل آرسي رفض هذه الخطوة. وتفاقمت هذه الصراعات بعد إلغاء المحكمة الانتخابية العليا لعدة قرارات صادرة عن المؤتمر الوطني للحزب، بما في ذلك ترشيح موراليس للانتخابات الرئاسية لعام 2025؛ وهو ما اعتبره أنصار موراليس حظراً غير دستوري.

دوافع الاحتجاجات: 

تعددت العوامل التي أجّجت الاحتجاجات في بوليفيا عام 2024، وتترابط فيما بينها لتشكل بيئة شديدة التوتر على النحو التالي: 

1. تفاقم الأوضاع الاقتصادية: يشهد النظام المالي البوليفي ضغطاً هائلاً؛ نتيجة انخفاض حاد في الاحتياطيات الدولية من 15 مليار دولار إلى 1.7 مليار دولار في نهاية عام 2023؛ وهو أدنى مستوى في 19 عاماً. وقد أدّى هذا الانخفاض إلى تفاوت كبير بين سعر الصرف الرسمي للدولار وسعره في السوق السوداء؛ مما أحدث آثاراً سلبية خطرة تمثلت في ندرة السلع الأساسية، وتزايد تجارة العملات عبر الحدود، وارتفاع معدلات الفقر، ومعاناة الشركات في سداد ديونها الدولية.

2. تأزم مشكلة نقص الوقود: ترافق هذا الوضع مع نقص حاد في الوقود؛ نتيجة اعتماد البلاد الكبير على الاستيراد (نصف احتياجاتها من البنزين و80% من الديزل، بتكلفة 800 مليون دولار سنوياً). وسبّب هذا النقص طوابير طويلة في محطات الوقود، مع انتظار السائقين لساعات أو حتى أيام للتزود بالوقود. 

3. التُّهم الموجهة لموراليس: أجّجّت التُّهم المُوجّهة لموراليس بشأن علاقته بقاصر عام 2016، ومُتابعة النيابة العامة للتحقيق في تهمة "الاغتصاب القانوني"، الاحتجاجات في الشارع البوليفي؛ إذ احتشد أنصار موراليس، بمن فيهم مزارعو الكوكا، للدفاع عنه؛ الأمر الذي أدّى إلى تصاعد حدة التوتر وحدوث مواجهات بين المتظاهرين وعناصر الشرطة؛ ما أسفر عن سقوط إصابات عديدة.

4. صراع على السلطة داخل الحركة الاشتراكية: يشهد حزب الحركة نحو الاشتراكية (MAS) انشقاقاً عميقاً بين أنصار الرئيس الحالي لويس آرسي، وأنصار الرئيس السابق إيفو موراليس. وقد برز هذا الانقسام بوضوح عندما تحالف أنصار موراليس مع أعضاء المعارضة لعرقلة تمرير الميزانية الوطنية. هذا الصراع على السلطة يشل قدرة الحكومة على مُواجهة الأزمة الاقتصادية الراهنة، فأنصار موراليس داخل الجمعية التشريعية (البرلمان البوليفي) يعرقلون باستمرار مساعي آرسي للحصول على تمويل إضافي من خلال القروض الخارجية. كما تعرض موراليس لمحاولة اغتيال، في أواخر أكتوبر 2024، واتهم السلطات الحاكمة بمحاولة اغتياله. 

أبعاد الاحتجاجات: 

شهدت بوليفيا احتجاجات واسعة النطاق، شارك فيها آلاف المتظاهرين من مختلف أنحاء البلاد، متجهين نحو العاصمة لاباز. وتُمثّل هذه الاحتجاجات تصعيداً خطراً للأزمة السياسية، كاشفة عن انقسامات عميقة داخل القوى السياسية الحاكمة، ومُظهرة حدّة التوترات الاجتماعية. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى الآتي:

1. اشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن: بدأ المتظاهرون، الذين يُطلق عليهم "المتظاهرون الحُمْر"، بمسيرة نحو لاباز مطالبين باستقالة الرئيس آرسي. وقد امتدّت هذه المسيرات من مدن أخرى، كمدينة أورورو، في مسيرة امتدت 200 كيلومتر أُقيم خلالها معسكرٌ قرب مدينة إل ألتو، ثاني أكبر مدن بوليفيا وتقع في لاباز، وقد لجأ المتظاهرون إلى إقامة حواجز طرق في المناطق الجبلية؛ مما عرقل حركة التجارة بين المدن الكبرى وأدّى إلى نقص حاد في الغذاء والوقود، وانقطاع سلاسل التوريد، وتكبّد الاقتصاد خسائر فاقت 1.7 مليار دولار أمريكي. كما اندلعت اشتباكات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن في عدّة مواقع، استُخدم فيها الغاز المُسيّل للدموع، وأسفرت عن إصابات واعتقالات.

2. تعامل أمني مع التظاهرات: نفّذت الحكومة إجراءات صارمة شملت نشر 3 آلاف ضابط شرطة، واعتقال 66 مُتظاهراً. وقد اشتدّ التوتر بشكل خطر بعد ادعاءات بسيطرة المتظاهرين على ثكنات عسكرية في منطقة شاباري، بالقرب من لاباز، مع تُهم باحتجاز 200 جندي كرهائن، كما سبقت الإشارة، وقد نَفَى قادة الاحتجاج بشدة هذه التُّهم، مُشيرين إلى أنّ المتظاهرين قاموا بـ"وقفة احتجاجية" فقط خارج هذه المنشآت. 

وقد حاولت الحكومة فتح قنوات للحوار لمنع تحوّل الأزمة إلى حرب أهلية، على الرغم من الشكوك حول نيات موراليس بعد أن أعطى حكومة آرسي مهلة 24 ساعة لإجراء تغييرات أو مواجهة المزيد من التصعيد. وقد رفضت الحكومة مطالب موراليس بإجراء تغييرات وزارية واعتبرتها محاولة للضغط عليها.

3. مخاوف من مُحاولات انقلاب مُحتملة: بلغت الأزمة السياسية في بوليفيا ذروتها بمحاولة انقلاب قام بها قائد الجيش البوليفي السابق الجنرال خوان خوسيه زونيغا، في يونيو 2024؛ إذ اقتحمت قواته القصر الرئاسي في لاباز، لكنّ السلطات استعادت السيطرة سريعاً، مُتّخذة إجراءات حاسمة شملت؛ اعتقال زونيغا وإقالته من منصبه، وتعيين خوسيه ويلسون سانشيز قائداً عسكرياً جديداً، وفتح تحقيق في أحداث الانقلاب. 

وقد خلّفت هذه الاضطرابات خسائر كبيرة، حيث أُصيب 61 من ضباط الشرطة وتسعة مدنيين خلال الاشتباكات، مما أدّى إلى خسائر اقتصادية تجاوزت 1.7 مليار دولار أمريكي نتيجة للاحتجاجات وحواجز الطرق؛ ومن ثمّ فهناك تخوف من محاولات انقلاب مُحتملة قد تحدث ضد السلطة في لاباز، على غرار ما قام به زونيغا. 

في التقدير، يمكن القول إن بوليفيا تُعاني من أزمة مُعقّدة تُهدد استقرارها ومؤسساتها الديمقراطية. فالتدهور الاقتصادي، المُتمثل في انخفاض الاحتياطيات الأجنبية وانخفاض قيمة العملة، يُفاقم الصراع السياسي في البلاد. كما يُسهم الانقسام داخل حزب "الحركة نحو الاشتراكية" والجدل حول ترشّح موراليس لدورة رئاسية جديدة في زيادة الجمود الحكومي وتصعيب حل الاضطرابات الاجتماعية.

وتتجاوز تداعيات هذه الأزمة الحدود البوليفية، مُؤثّرةً في مواردها الاستراتيجية كالليثيوم والهيدروكربونات، وفي استقرار المنطقة. ويُبدي المجتمع الدولي دعمه للمؤسسات الديمقراطية في بوليفيا، لكنّ مُستقبل البلاد يعتمد على قدرتها على مُعالجة هذه التحديات بشكل حاسم؛ مما يتطلب إصلاحات سياسية، وإجراءات اقتصادية فعّالة، وخطوات نحو المصالحة الوطنية. ستُحدد نجاح بوليفيا في إيجاد توافق وطني بين الأطراف السياسية المختلفة، وإيجاد حلول للأزمة الاقتصادية.