أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

"العمل شرقاً":

استراتيجية الهند لتعزيز العلاقات مع دول رابطة "الآسيان"

05 أكتوبر، 2023


في إطار التنافس الصيني الهندي في قارة آسيا، وتصاعُد الأهمية الجيوستراتيجية لمنطقة جنوب شرق آسيا نظراً لموقعها الجغرافي وقوتها الاقتصادية المتنامية، ومساعي الدول الكبرى إلى تعزيز نفوذها في المنطقة في ظل المتغيرات الراهنة في النظام الدولي؛ تعمل الهند على تعزيز روابطها مع دول رابطة "الآسيان" على المستويين الثنائي والجماعي، وتتبنى استراتيجية متكاملة لا تُركِّز فقط على العلاقات السياسية والاقتصادية، ولكن تُعزِّز العلاقات الأمنية الدفاعية أيضاً.

وقد انتقلت الهند من سياسة "النظر شرقاً Look East"، إلى سياسة "العمل شرقاً Act East"، في عام 2014، وتمكنت من الحصول على وَضْع "الشريك الاستراتيجي الشامل" مع رابطة "الآسيان" منذ قمة الرابطة الأخيرة التي عُقِدَت في كمبوديا في نوفمبر 2022؛ وهو الأمر الذي تراقبه الصين عن قُرب، في ظل خلافاتها مع بعض دول جنوب شرق آسيا حول السيادة على جُزُر في بحر الصين الجنوبي.

وتقوم الهند بتنفيذ استراتيجية تعتمد على أربعة محاور أساسية لتعزيز حضورها في جنوب شرق آسيا بالقرب جغرافياً من بحر الصين الجنوبي، بهدف موازنة النفوذ الصيني المتنامي في المنطقة، وتحقيق مكاسب اقتصادية مع دول الرابطة، وتعزيز التعاون الأمني وبيع صفقات أسلحة لدول المنطقة على المدى الطويل.

المحور السياسي

شهدت العلاقات السياسية بين الهند و"الآسيان" تنامياً ملحوظاً منذ عام 1992 عندما طبقت الهند سياسة "النظر شرقاً"، حيث صارت شريك حوار مع "الآسيان"، ثم ارتقت هذه العلاقات إلى مستوى شريك استراتيجي على مستوى القمة في أعوام 1996 و2002، و2012، على التوالي.

وفي عام 2014، غيَّرت الهند سياسة "النظر شرقاً" إلى سياسة "العمل شرقاً"، اعترافاً بالحاجة إلى دور أكثر استباقية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وأدى ذلك إلى وجود 30 آلية حوار بين الهند و"الآسيان"، تغطي مجموعة كبيرة من المجالات. وفي يناير 2018، استضافت الهند قمة (آسيان - الهند) الـ15، التي احتفلت بمرور 25 عاماً على علاقات الهند بالرابطة، في نفس يوم الاحتفال السنوي باليوم الجمهوري في الهند، والذي يحضره كبار الزوار من دول تعتبرها الهند مهمة وتحرص على تعميق علاقاتها معها.

وصادف عام 2022 مرور 30 عاماً على تأسيس العلاقات بين الجانبين، وتم تحديده باعتباره عام الصداقة بينهما في قمة القادة في أكتوبر 2021. وفي نوفمبر 2022، منحت رابطة "الآسيان" الهند وضع الشريك الاستراتيجي الشامل في قمة بنوم بنه، في كمبويا.

المحور الأمني

تعمل الهند على تعزيز تعاونها الدفاعي مع دول "الآسيان"، خاصة وأن لديها اتفاقيات دفاع مع 9 من أصل 10 دول منها، ولا تبحث الهند فقط عن تقديم معدات دفاعية، بل تبحث أيضاً إمكانية الإنتاج المُشترَك.

في هذا الإطار، تبقى العلاقات مع فيتنام مكوناً رئيسياً لسياسة "العمل شرقاً"، فقد أصدرت الدولتان وثيقة "الرؤية الهندية الفيتنامية المُشترَكَة للسلام والازدهار" في عام 2021، وصدر كذلك بيان عن تطوير العلاقات الدفاعية بين الدولتين حتى عام 2030، وتم توقيع إطار عمل لتعزيز التعاون في الصناعات الدفاعية، خاصة إنتاج قوارب الحراسة.

وقد سلَّمت الهند أول 10 قوارب حراسة عالية السرعة إلى فيتنام، تم تصنيعها بموجب نظام دفع ائتماني قيمته 100 مليون دولار قدمتها الهند إلى فيتنام في عام 2014، وجارٍ العمل على تصنيع القوارب المتبقية في كلتا الدولتين. أيضاً سلَّمت الهند أكثر من 12 زورقاً للدوريات عالية السرعة إلى فيتنام، بعد يوم من توقيع اتفاقية تَسمَح باستخدام القواعد العسكرية لكل منهما، في توسُع كبير للعلاقات الدفاعية والأمنية.

كما أجرت الهند وفيتنام في مايو 2018 مناورات بحرية للمرة الأولى في بحر الصين الجنوبي الذي تطالب الصين بالسيادة عليه بالكامل. ويتم كذلك تدريب رجال الغواصات الفيتناميين في الهند وتبادُل المعلومات الاستخباراتية بين الدولتين. وتشمل مجالات التعاون الأخرى: الطاقة النووية، والتعاون العملياتي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتبادُل المعدات الدفاعية والمعرفة التكنولوجية، ودَعْم الهند صناعة الدفاع المحلية في فيتنام، علاوة على وجود فرص لعقد صفقات أسلحة متقدمة.

وبالنسبة لسنغافورة، فقد وقَّعت مع الهند في عام 2015 اتفاقية تعاون دفاعي مُطوَّرة، وهو نفس العام الذي تم فيه كذلك توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين الدولتين، وقامت الهند بتدريب قوات سنغافورة الجوية على أراضيها.

كذلك، لدى الهند تعاون دفاعي مع ميانمار وإندونيسيا وكمبوديا ولاوس وبروناي والفلبين. على سبيل المثال، منحت الهند في أكتوبر 2021 ميانمار غواصة من طراز "كيلو" بقدرة 3 آلاف طن تعمل بالديزل والكهرباء. وتعمل الهند بالشراكة مع إندونيسيا على تطوير أول ميناء في أعماق البحار في "سابانج" بالقرب من جزيرتي "أندامان ونيكوبار" الإندونيسيتين، ويتيح ذلك للهند وصولاً بحرياً أكبر إلى جنوب شرق آسيا.

وتُجري الهند تدريبات مهمة مع دول "الآسيان"، حيث تُجري مع سنغافورة تمارين (SIMBEX) بانتظام. وتنسق مع تايلاند وإندونيسيا دورياتٍ منتظمة على طول بحر أندامان. كما أجرت الهند تدريبات ثلاثية مع تايلاند وسنغافورة. ونتيجةً لهذه التطورات، فقد جَرَت أول تدريبات بحرية مُشترَكَة بين الهند ودول "الآسيان"، في الفترة من 2 مايو إلى 8 مايو 2023، تحت اسم التدريبات البحرية الافتتاحية (AIME 2023)، والتي تُعد جزءاً من تدريبات ما يُعرَف باسم (آسيان + 1)، أي رابطة "الآسيان" مع أحد شركاء الحوار؛ لتكون الهند رابع دولة تُجري مناورات بحرية مع الرابطة بعد الصين والولايات المتحدة وروسيا، أخذاً في الاعتبار أن التدريبات مع الهند كانت الأوسع نطاقاً للرابطة مع أحد شركاء الحوار مقارنة بالتدريبات السابقة.


المحور الاقتصادي

بلغ حجم التجارة بين الهند ودول "الآسيان" حوالي 110 مليارات دولار في عام 2022. وتُعد سنغافورة أكبر شريك تجاري للهند في المنطقة بحوالي 30 مليار دولار، تليها إندونيسيا بـ26 ملياراً، وماليزيا 19.4 مليار، وفيتنام وتايلاند بنحو 15 ملياراً لكل منهما.

وفيما يخص الاستثمارات المُتبادَلَة، فقد بلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة التراكمية من دول "الآسيان" إلى الهند 117.88 مليار دولار بين أعوام 2000 و2021 (تبلغ استثمارات سنغافورة وحدها في الهند 115 مليار دولار)؛ بينما بلغ رصيد الاستثمارات الهندية في دول "الآسيان" خلال الفترة من إبريل 2019 حتى مارس 2022 نحو 55.5 مليار دولار، منها 51.5 مليار دولار في سنغافورة وحدها.

وتسعى الهند في السنوات المقبلة إلى تعزيز مشروعاتها الاستثمارية في دول "الآسيان" الأخرى، فثمة مشروعات مختلفة قيد التنفيذ، أبرزها تطوير الطريق السريع بين الهند وميانمار وتايلاند. كما تركز الهند على منصات إضافية للتعاون بين جنوب وجنوب شرق آسيا، مثل "مبادرة خليج البنغال للتعاون التقني والاقتصادي متعدد القطاعات"، والتي تشمل بنغلاديش والهند وميانمار وسريلانكا وتايلاند وبوتان ونيبال. أيضاً يعمل القطاع الخاص في الهند واليابان مع الولايات المتحدة في إطار "منتدى أعمال المحيط الهندي والمحيط الهادئ"، بهدف تعزيز البنية التحتية في دول المنطقة، وتوفير خيارات بديلة للمساعدات الصينية لها.


المحور الثقافي

هناك روابط حضارية وتاريخية قديمة بين الهند ودول "الآسيان"، فإلى جانب الصين، لم يكن لأية قوة أخرى في منطقة "الإندوباسيفيك"، تأثير ثقافي في جنوب شرق آسيا مثل الهند. فمنذ حوالي 2000 عام، أثرت الديانة الهندوسية والأدب واللغة والعمارة والفن في مجتمعات جنوب شرق آسيا، حيث امتزج ذلك مع الممارسات المحلية لخلق ثقافات متميزة.

لهذا كانت إحدى الاستراتيجيات الأكثر بروزاً للدبلوماسية الثقافية الهندية تجاه "الآسيان" هي ترميم المعابد في جميع أنحاء المنطقة، وذلك بسبب الروابط القديمة بين الديانتين الهندوسية والبوذية، وهذا يعطي للهند قوة ناعمة. وقد بدأت "دبلوماسية المعابد" الهندية في عام 1992، عندما ساعد علماء الآثار الهنود في ترميم معبد "أنغكور وات" وأجزاء من معبد "برياه فيهيار" وغيرها من المعابد الأنغورية في كمبوديا. كما ساعدت الهند كذلك في ترميم معابد "ابني" في فيتنام؛ ومعابد بوذية في ميانمار مثل معبد "أناندا" في باغان؛ ومجمع معبد "وات فو" في لاوس.

من ناحية أخرى، أعلنت الهند عن 1000 منحة دراسية للطلاب والباحثين من دول "الآسيان" لإعداد رسائل علمية في "المعهد الهندي للتكنولوجيا" ذي المكانة المرموقة عالمياً. واقترح مودي أيضاً إعلان 2019 "عام السياحة لآسيان والهند".

ويساعد الهند على تعزيز قوتها الناعمة ودبلوماسيتها الثقافية في جنوب شرق آسيا مجتمع الشتات الهندي بالمنطقة، والذي يتركز بشكل كبير في المستعمرات البريطانية السابقة في ميانمار وماليزيا وسنغافورة، حيث يشكل الهنود 5% و8% و7% من سكان هذه الدول على التوالي. ويُشبه ذلك إلى حد كبير دور الصينيين في دول جنوب شرق آسيا، والذين أسهموا في تعزيز الروابط الاقتصادية للصين مع المنطقة، ولكن الشتات الهندي يفتقر إلى نفس مستوى التأثير والنفوذ الاقتصادي للصينيين، ولهذا تسعى الهند إلى دعم وصول المواطنين من أصول هندية للحكومة والمجتمع المدني في دول مثل ماليزيا وسنغافورة، باعتبارهم جسراً بين الهند ودول المنطقة. 

تحديات عديدة

على الرغم من تنامي العلاقات بين الهند و"الآسيان" نظراً للمصالح والمحفزات العديدة المشترَكَة، فإن الهند تُواجه عقبات في توثيق هذه العلاقات مستقبلاً. ولا تنبع هذه العقبات فقط من مساعي الصين لتوسيع نفوذها في المنطقة في ظل تخوُفها من دخول فاعلين دوليين وإقليميين مؤثرين، ولاسيما في النزاعات الخاصة ببحر الصين الجنوبي، بل هناك عقبات أخرى سياسية واقتصادية.

تتمثل أبرز هذه العقبات في تخوف ماليزيا وإندونيسيا تحديداً من صعود أيديولوجية القومية الهندوسية العابرة للحدود بين مجتمعات الشتات الهندي، والتي ارتبطت بوصول مودي إلى رئاسة الوزراء في الهند. على سبيل المثال أثار العنف الطائفي بين الهندوس والمسلمين في نيودلهي في فبراير 2020 احتجاجات وإدانات من الجماعات الإسلامية في البلدين. وفي يونيو 2022، أثارت التعليقات التي أدلى بها متحدث باسم حزب "بهاراتيا جاناتا" عن الإسلام، اعتراضات الحكومتين الماليزية والإندونيسية، واستدعت الدولتان سفيري الهند لديهما وقدمتا لهما احتجاجات رسمية.

ومن العقبات الأخرى تواضُع الحضور الاقتصادي الهندي في المنطقة، مقارنةً بالصين، التي تبقى الشريك التجاري الرئيسي لدول "الآسيان"، وتُقدِّم مساعداتٍ كبيرة في مجال البنية التحتية، بينما لم تستطع الهند تقديم بدائل حقيقية لهذه المساعدات الصينية حتى للدول الأصغر. أيضاً مثَّل خروج الهند من صفقة الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة عبر المحيط الهادئ، في نوفمبر 2019، ضربة قوية لمؤيدي التكامل الاقتصادي الإقليمي، وأضْعَف عملية دمج الهند في النظام متعدد الأطراف الذي تقوده "الآسيان" داخل المنطقة.

أخيراً، لا يُوجَد توافق كبير بين دول "الآسيان" حول درجة ما تُمثلِّه الصين من تهديد مُحتمَل، ولا حول طريقة إدارة هذا التهديد، حيث تختلف رؤية أغلب دول "الآسيان" تجاه الصين؛ فبينما ترى دولتان مثل الفلبين وفيتنام، الصين مصدر تهديد رئيسي لمصالحهما خاصة في بحر الصين الجنوبي، تُقلِّل دولتان أخريان مثل تايلاند وكمبوديا من هذا التهديد ولا تريان سبباً في التعامل بحذر مع الصين؛ ومن شأن هذا الخلاف أن ينعكس على مساعي الهند للتقارب مع دول "الآسيان"، حيث تبقى دول المنطقة غير متوافقة على طريقة إدارة علاقاتها التعاونية والصراعية مع الصين، وبالتالي تختلف أيضاً فيما يتعلق بدرجات التعاون مع الهند خاصةً في المجالات الأمنية والدفاعية.