عرض: هند سمير
مع تسارع التأثيرات المناخية والتحول نحو مصادر الطاقة النظيفة في دول العالم، أصبحت الجيوش تفكر بشكلٍ متزايد في البصمة الكربونية لعملياتها العسكرية وبنيتها التحتية، وسلاسل التوريد الخاصة بها؛ إذ باتت هنالك مبادرات للعديد من الدول لتحسين كفاءة وقدرة مؤسساتها العسكرية للتكيف مع تحديات تغيرات المناخ، خاصة الانبعاثات الكربونية.
في هذا الإطار، يحلل تقرير المناخ والأمن العالمي لعام 2024 (الابتكار العسكري وتحدي المناخ) الصادر عن المجلس العسكري الدولي المعني بالمناخ والأمن، أهمية تغير المناخ للجيوش مع التركيز على دول حلف الناتو؛ إذ يستكشف دور الأبحاث والابتكارات العسكرية في تقليل الانبعاثات وزيادة مرونة البنية التحتية أمام تأثيرات المناخ، مع تحسين الاكتفاء الذاتي للوحدات والمرافق العسكرية، كما يكشف أيضاً عن حاجة الجيوش إلى اعتماد نهج شامل لمواجهة التحديات المناخية، يشمل البحث والتطوير (R&D)، بالإضافة إلى التغييرات في السياسات والمشتريات.
يؤكد التقرير أهمية جاهزية الجيوش للتكيف مع الظروف المناخية المستقبلية؛ بمعنى أن تكون الخطط العسكرية أكثر مرونة وقدرة على التعامل مع التغيرات البيئية، مثل: تخطيط القواعد العسكرية في أماكن محمية من الفيضانات أو تدريب القوات العسكرية على التعامل مع الكوارث الطبيعية، إلا أن التقرير يشدد أيضاً على أهمية التعاون الدولي في مواجهة هذه المخاطر الكونية، التي تؤثر في العالم كله دون استثناء.
تغيرات الحروب والمناخ:
تتغير طبيعة الحروب مع تزايد تأثيرات التغير المناخي؛ إذ يمكن للجيوش الاستفادة من التقنيات منخفضة الكربون في تكييف عملياتها مع البيئة التشغيلية الجديدة، فمع ارتفاع درجات الحرارة، وزيادة الكوارث الطبيعية مثل: الأعاصير والفيضانات، أصبحت بيئات العمليات العسكرية غير مستقرة وغير قابلة للتنبؤ. هذه التغيرات تتطلب من الجيوش إعادة التفكير في كيفية تنظيم عملياتها، من التخطيط الاستراتيجي إلى العمليات اللوجستية اليومية.
ويشير تقرير المجلس العسكري الدولي إلى أن التقنيات منخفضة الكربون، مثل: الطاقة الشمسية والطاقة المتجددة قد تكون جزءاً أساسياً من الحلول؛ فالجيوش يمكنها تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري من خلال اعتماد هذه التقنيات، بما يسهم في تقليل الانبعاثات الكربونية ويزيد من استقلالية الوحدات العسكرية. مثال على ذلك، استخدام البطاريات الشمسية لشحن المعدات في الميدان أو العربات المدرعة الكهربائية؛ مما يقلل الحاجة إلى إمدادات الوقود التقليدية.
وعلى الرغم من أن الابتكار في التقنيات منخفضة الكربون يُعد فرصة كبيرة؛ فإن هناك تحديات تواجه ذلك منها على سبيل المثال، أن التقنيات الجديدة تحتاج إلى تكيف سريع مع ظروف المعارك، ويجب أن تكون موثوقة في البيئات القاسية. لكن الجيوش التي تنجح في تبني هذه التقنيات ستتمكن من الاستفادة من بيئة عمليات أكثر مرونة واستدامة، وتقلل من مخاطر تعطيل الإمدادات اللوجستية بسبب الأزمات المناخية.
أوضح التقرير أيضاً أن الابتكار التكنولوجي يجب أن يكون جزءاً من التخطيط العسكري الاستراتيجي على المدى الطويل؛ بمعنى آخر أن تطوير تقنيات منخفضة الكربون ليس مجرد حل مؤقت؛ بل يجب أن يكون عنصراً محورياً مستداماً في كيفية تنظيم وتخطيط الحروب في المستقبل، فالتغير المناخي يفرض تحديات جديدة على العمليات العسكرية، لكنه يفتح أيضاً الباب أمام استخدام التقنيات منخفضة الكربون، كجزء من استراتيجيات الدفاع الحديثة. وستكون الجيوش التي تستطيع تبني هذه الابتكارات أكثر قدرة على التكيف مع البيئات المتغيرة ومستعدة بشكل أفضل لمواجهة التحديات المستقبلية.
إزالة الكربون والجيوش:
يناقش التقرير في هذا الجزء أهمية تحول البنية التحتية للطاقة، كجزء أساسي من استراتيجيات الجيوش لتقليل الانبعاثات الكربونية؛ الهدف من ذلك هو تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وتعزيز استخدام الطاقة المتجددة؛ مما يؤدي إلى جيوش أكثر استدامة ومرونة في مواجهة التحديات المناخية.
وتؤدي البنية التحتية للطاقة دوراً حاسماً في العمليات العسكرية، كما أن القواعد العسكرية، سواء أكانت داخل الوطن أم في مناطق العمليات تحتاج إلى كميات ضخمة من الطاقة لتشغيل المعدات، من أنظمة الاتصالات، والتدفئة والتبريد، وغيرها؛ ومن ثم فالاعتماد الحالي على الوقود الأحفوري يجعل هذه البنية التحتية عرضة للتأثر باضطرابات الإمدادات كما يزيد من الانبعاثات الضارة.
ومن ثمَّ، يؤكد التقرير أن تحول البنية التحتية للطاقة في الجيوش إلى الاعتماد على مصادر متجددة هو خطوة حتمية لتقليل الانبعاثات الكربونية، كما أن الحلول مثل: الطاقة الشمسية، والرياح، والبطاريات قد توفر طاقة نظيفة ومستدامة للقواعد العسكرية. بالإضافة إلى ذلك، فالاعتماد على الطاقة المحلية يقلل من حاجة الجيوش لنقل الوقود عبر مسافات طويلة؛ مما يقلل المخاطر اللوجستية والتكاليف، كما تحتاج الجيوش إلى تطوير بنية تحتية جديدة تركز على الاستدامة؛ إذ يمكن بناء القواعد العسكرية المستقبلية عبر أنظمة تعتمد بشكل كامل على الطاقة المتجددة، وتحسين كفاءة استخدام الطاقة. على سبيل المثال، يمكن استخدام شبكات ذكية (Smart Grids) داخل القواعد العسكرية لتوزيع الطاقة بشكل فعال وتخزين الفائض منها لاستخدامه في حالات الطوارئ.
ولعل التحول إلى الطاقة المتجددة ليس فقط أفضل للبيئة، لكنه يعزز أيضاً الأمن. فالتقليل من الاعتماد على الوقود الأحفوري يجعل الجيوش أقل عرضة لاضطرابات إمدادات الطاقة. ومن الناحية الاقتصادية، فإن التقنيات الخضراء توفر في ميزانيات الجيوش على المدى الطويل؛ إذ تقلل التكاليف التشغيلية وتزيد من كفاءة الأداء.
وبالرغم من أن التحول للطاقة المتجددة يحمل الكثير من الفوائد؛ فإن هناك تحديات مثل: التكلفة الأولية العالية لبعض التقنيات وتحديات التكيف مع ظروف الميدان؛ لذلك، يقترح التقرير أن تتعاون الحكومات والجيوش مع القطاع الخاص لتطوير حلول مبتكرة وفعالة من حيث التكلفة.
سلاسل التوريد العسكرية:
عندما تتم مناقشة العلاقة بين تغير المناخ والدفاع، غالباً ما يكون التركيز على تأثيرات الأحداث الجوية المتطرفة والصراعات الناجمة عن المناخ. إلا أن هناك قلقاً ثانوياً بدأ في الظهور في الأدبيات، وهو كيف تسهم الجيوش في تغير المناخ؛ لأنها تنبعث منها كميات كبيرة من الكربون، كتلك التي تحدث عند تشغيل الآلات الثقيلة مثل: الدبابات أو المقاتلات. ومع ذلك، فإن ما بدأ فهمه هو الانبعاثات المحتملة المرتبطة بسلاسل التوريد التي تدعم الجيوش، من خلال شراء المعدات واستخدام الوقود والسفر الجوي وما إلى ذلك. كما تتضمن سلاسل التوريد شركاء خارج المؤسسة العسكرية نفسها، وغالباً ما تكون لديهم صناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة.
وقد اهتم التقرير في هذا الجزء بمناقشة كيفية تقليل الانبعاثات الكربونية الناتجة عن سلاسل الإمداد العسكرية، وهي عنصر أساسي في العمليات العسكرية الحديثة؛ إذ سلط الضوء على أهمية تبني ممارسات مستدامة داخل هذه السلاسل لضمان أمن مستدام يقلل من الأثر البيئي ويزيد من كفاءة العمليات، وتمثل سلاسل الإمداد العسكرية شبكة معقدة تضم: نقل المعدات، الوقود، الأغذية، والموارد من نقاط الإنتاج إلى الجبهات والمناطق النائية. وتعتمد هذه السلاسل بشكل كبير على النقل البحري والجوي والبري، وهي مصادر رئيسية للانبعاثات الكربونية. وكلما زاد طول وتعقيد سلاسل الإمداد، زادت الانبعاثات المرافقة لها، وهنا يقترح التقرير عدة استراتيجيات لتقليل الانبعاثات في سلاسل الإمداد العسكرية، من أبرزها:
- استخدام المركبات والمعدات الصديقة للبيئة، مثل: الشاحنات والعربات المدرعة التي تعمل بالطاقة الكهربائية أو الهجينة.
- اعتماد المركبات ذاتية القيادة التي تستهلك كميات أقل من الوقود مقارنةً بالمركبات التقليدية.
- تحسين الكفاءة اللوجستية، من خلال تقليل المسافات المقطوعة وتجنب الهدر في العمليات اللوجستية.
- استخدام الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية لتحسين إدارة المخزون وتخطيط النقل.
- الاعتماد على المصادر المحلية، وتقليل الاعتماد على الموارد المستوردة من مسافات بعيدة واللجوء إلى مصادر قريبة لتقليل الحاجة للنقل.
التكنولوجيا والابتكار:
تؤدي التكنولوجيا دوراً مهماً في تحسين استدامة سلاسل الإمداد العسكرية، فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام الطائرات من دون طيار (Drones) في تسليم الإمدادات؛ مما يقلل الحاجة إلى المركبات التقليدية عالية الانبعاثات، كذلك يمكن استخدام تقنيات التتبع الذكي لتقليل الأخطاء اللوجستية والهدر.
وعلى الرغم من الفوائد الكبيرة لاعتماد استراتيجيات مستدامة، هناك تحديات مثل: التكلفة الأولية العالية لتبني التقنيات النظيفة، والتعقيد في تغيير الأنظمة اللوجستية القديمة. لكن التقرير يؤكد أن الاستثمار في الاستدامة على المدى الطويل سيؤدي إلى تقليل التكاليف التشغيلية وتحسين الكفاءة، كما يوصي في هذا السياق بضرورة التعاون الدولي بين الجيوش المختلفة لتبني معايير بيئية موحدة في سلاسل الإمداد العسكرية. بالإضافة إلى تعزيز الشفافية والحوكمة لتتبع الانبعاثات والتحكم فيها بشكل أفضل.
طرح التقرير أيضاً مجموعة أخرى من التوصيات لتعزيز دور الجيوش في مكافحة تغيرات المناخ من أبرزها، اعتماد الجيوش على الأبحاث المدنية والتجارية التي تشمل برامج يمكن دمجها مع العمليات العسكرية بمجرد اكتمالها والعمل على زيادة كفاءة استخدام الطاقة في المنصات العسكرية، حتى لو كانت بشكل تدريجي، إذ إن هذا الأمر له فوائد على مستوى كلٍ من القدرة التشغيلية وتقليل البصمة الكربونية.
أضف لذلك، زيادة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي؛ لأنه سيسهم في زيادة الكفاءة، وتقليل التكاليف المتعلقة بالجنود في المركبات، وربما يفتح آفاقاً جديدة للبحث؛ إذ إن الاعتماد على التكنولوجيا التي تقلل الانبعاثات وتتوافق مع التطورات الأخرى الجارية سيكون أكثر فعالية.
وبينما يوفر البحث العسكري طرقاً واضحة لتطوير تقنيات جديدة؛ فإن أفضل الفرص لتقليل البصمة الكربونية للجيوش ستكون من خلال نهج مبتكر في الشراء والسياسات؛ لذا من الأهمية بأن تعيد الجيوش التفكير في سياسات الشراء الخاصة بها، والمتطلبات، لأنها ستكون أكثر تأثيراً في تحديات المناخ من الابتكار في التكنولوجيا العسكرية وحدها.
أخيراً، من المهم أن يرسل القادة العسكريون إشارات واضحة للباحثين والمستثمرين في الطاقة النظيفة بأن هناك التزاماً من قبل الجيوش بشراء المنتجات المطورة، إضافة إلى توسيع مفهوم الابتكار ليشمل طرقاً جديدة لإدارة المنظمات العسكرية والدفاعية، والذي يُمكن أن يسهم في تقليل الأثر الكبير لتحديات المناخ على العالم.
المصدر:
The International Military Council on Climate and Security. (2024, July). World Climate and Security Report 2024. https://councilonstrategicrisks.org/2024/07/10/world-climate-and-security-report-2024/