أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

القيادة بالنموذج:

لماذا ينبغي لواشنطن تجنب التنافس الإيديولوجي مع الصين؟

14 يونيو، 2021


عرض: د. إبراهيم سيف منشاوي - مدرس العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة

شكّلت أول زيارة خارجية للرئيس الأمريكي "جو بايدن" منذ توليه منصبه، معالم السياسة الدولية من وجهة النظر الأمريكية باعتبارها خيارًا وجوديًا بين الديمقراطية والاستبداد، وذلك في إشارة واضحة إلى المنافسة الأمريكية الصينية، لأن النجاح الاقتصادي الذي حققته الصين وزيادة نفوذها في العالم أضحى يمثل تحديًا أيديولوجيًا للولايات المتحدة الأمريكية، وقد يكون هذا التحدي أقوى من ذلك الذي شكله الاتحاد السوفيتي سابقًا.

وإذا كانت إدارة "بايدن" مُحقّة في التأكيد على التحديات التي تواجه الديمقراطية في جميع أنحاء العالم؛ إلا أن هناك مخاطر شديدة ناتجة عن تصدير المنافسة الأمريكية الصينية على أنها منافسة عالمية بين الأنظمة الديمقراطية والاستبدادية. فخطاب الخير مقابل الشر هذا يخلق بيئة مغذية للكراهية والعنصرية المعادية لآسيا وللأجانب بصورة عامة. كما أن هذا النهج يقوض من قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على التعامل بشكل إيجابي مع الكثير من الحكومات في آسيا وخارجها. فالدفاع عن القيم الأمريكية، وتحقيق التعايش السلمي مع الصين، حتى وإن كان تنافسيًا؛ يتطلب -إذن- نهجًا أكثر براجماتية. وهذا الطرح هو ما يحاول "توماس بيبينسكي" و"جيسيكا تشين فايس" إلقاء الضوء عليه في مقالتهما المنشورة بمجلة "الشؤون الدولية"، والمعنونة "صدام الأنظمة: يجب على واشنطن أن تتجنب المنافسة الأيديولوجية مع بكين"، في 11 يونيو 2021.

تأثير بكين

في الوقت الذي كانت تعاني فيه الولايات المتحدة الأمريكية من الاضطرابات السياسية والتفشي غير المسبوق لفيروس كورونا، وبالتحديد في العام الماضي؛ ضاعف قادة الصين من جهودهم من أجل تدعيم الوجود الصيني العالمي. ولكن يكمن خلف الدعاية الصينية نوع من انعدام الأمن السياسي والخوف من الإفلاس الأيديولوجي. فخلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، ومع انهيار الأنظمة الشيوعية في العالم؛ تبنى الحزب الشيوعي الصيني النهج الرأسمالي، وتسامح مع عدم المساواة التي كانت ثمنًا للنمو السريع، مما خلق فجوة متزايدة بين المُثُل والقيم التأسيسية التي قام عليها الحزب وممارساته المختلفة، وهو ما عرّضه لاتهامات وانتقادات لاذعة. ولقد اضطلع الحزب بجهود مضنية للدفاع عن شرعيته الداخلية، ودرء مخاطر التحول الديمقراطي، والتي كان لها تأثير سلبي على حرية التعبير، ولكن لم تَرْقَ هذه الجهود إلى التهديد الوجودي للديمقراطية الليبرالية.

هذا فضلًا عن أن مصادر النفوذ الخارجي الصيني تستند في المقام الأول إلى المعاملات والقدرة على الإكراه دون الاعتبارات الأيديولوجية. ومثال ذلك أن سلوك بكين في منطقة جنوب شرق آسيا لا يكشف عن أي محاباة للأنظمة ذات الأسس الأيديولوجية المماثلة. ففي فيتنام نظام حكم استبدادي يعتمد على نظام الحزب الواحد، وهو حزب شيوعي التوجه كالحزب الصيني، لكنه انفتح وقام بعملية إصلاح اقتصادي مهمة منذ الثمانينيات. كما عارضت فيتنام باستمرار الأنشطة الصينية في بحر الصين الجنوبي، ووضعت مسار الإصلاح الخاص بها في ظل حكم الحزب الواحد، وأنشأت شبكة G5 الخاصة بها لكي تتجنب الشراكة مع شركة التكنولوجيا الصينية العملاقة هواوي. لذا، وجدت الصين أنّ من الأسهل أن تقوم بإدارة العلاقات مع كلٍّ من ماليزيا والفلبين على الرغم من الاختلافات الأيديولوجية فيما بينهما. فعلى الرغم من أن النظام الماليزي يُعارض بشدة التوجه الشيوعي، إلا أن العلاقات الاقتصادية القوية مع الصين قد ثبطت عزيمة الحكومة الماليزية من تصعيد المواجهات الدورية مع السفن الصينية في المياه المتنازع عليها. كما تجنب الرئيس الفلبيني "رودريغو دوتيرتي" مواجهة بكين في بحر الصين الجنوبي، وأعرب عن اهتمامه بالتعاون معها في مجال التنقيب عن النفط، حتى بعد أن أصدرت محكمة التحكيم في لاهاي حكمًا لصالح الفلبين بشأن مزاعم بكين في بحر الصين الجنوبي.

والحقيقة، لم تكن المساعدة التي تقدمها بكين في جميع أنحاء العالم مستندة إلى الظروف الأيديولوجية، وذلك بخلاف مراعاة القضايا التي يعتبرها الحزب الشيوعي جزءًا لا يتجزأ من بقائه السياسي والسيادة الإقليمية. فالجهود الاقتصادية الصينية في الخارج هي في الغالب نتاج للسياسات الداخلية الفوضوية في البلاد وليست نتاجًا لخطة رئيسية منسقة. على سبيل المثال، تم تعليق مشروع بوابة " “Melakaالضخم في ماليزيا بعد وصول "مهاتير محمد" إلى رئاسة الوزراء خلفًا لنجيب رزاق منذ عام 2018، لأنه غير موالٍ لتوجهات الصين. وفي ميانمار، تصرفت الصين بشكل عملي وليس أيديولوجيًا. فعلى الرغم من أن التحرر السياسي في عام 2010، قد أدى إلى ارتباط كبير بين الولايات المتحدة الأمريكية وميانمار؛ إلا أن مبادرة "الحزام والطريق" الصينية في ميانمار ظلت نشطة، وأثبتت الصين أنها شريك مفيد لأونغ سان سوكي عندما واجهت حكومتها إدانة دولية ردًا على ممارسات الإبادة الجماعية بحق الروهينيجا. ولكن في أعقاب انقلاب ميانمار عام 2021، تبنت الصين موقفًا حذرًا، وفضلت العودة إلى النظام من أجل حماية استثماراتها. وهذا ما يوضح أن المصالح الجيواستراتيجية للصين قد تطغى على أي قواسم أيديولوجية مشتركة مع شركائها ومنافسيها. فالصين لم تعد تمثل تهديدًا شيوعيًا بالنسبة للدول الآسيوية، بل تجد فيها هذه الدول، وعلى الأخص ماليزيا، مدافعًا عن القيم الآسيوية.

الطموح المترنح

في عهد الرئيس الصيني "شي جين بينغ"، أصبحت الصين أكثر طموحًا في جهودها الرامية لجعل النظام الدولي أكثر ملاءمة لمصالحها. لكن عالمًا آمنًا للاستبداد لا يستبعد وجود عالم آمن للديمقراطية. ففي ظل هذا العالم، أضحت المهمة القصوى للولايات المتحدة هي إصلاح الديمقراطية، لا سيما مع تحذير الخبراء الأمريكيين من أن "ديمقراطيتنا بأكملها في خطر" نتيجة لقيود التصويت الجديدة والمزاعم الخادعة بتزوير الانتخابات. وفي حين أن من المهم تأكيد القيم الليبرالية في الخارج، فإنّ بناء استراتيجية كبرى للولايات المتحدة لمحاربة الاستبداد يمكن أن يأتي بنتائج عكسية، ويؤدي إلى تصعيد الصين على الجبهة الأيديولوجية، بل ودفع الدول الأخرى إلى الاقتراب من الصين.

حتى الآن، روّج الحزب الشيوعي الصيني لتفوق نظامه وقدمه كمثال يمكن للبلدان الأخرى أن تتعلم منه. لكن كلما رأت بكين أن المنافسة الجيوسياسية تقوم على أسس أيديولوجية، زاد احتمال إعطاء الأولوية لاتخاذ خطوات لإضعاف الديمقراطيات. ومن ثم، يمكن لمثل هذه الجهود أن تتجاوز صادرات بكين الحالية من تكنولوجيا المراقبة وحملات التضليل المتعلقة بفيروس كورونا لتشمل المزيد من المحاولات المنسقة لإعادة تشكيل بلدان أخرى على النمط الصيني. فالتشديد على الحاجة إلى مواجهة الاستبداد في جميع أنحاء العالم قد يزيد مخاوفها المتعلقة بسعي واشنطن إلى تغيير النظام في بكين، مما يعجّل باتخاذ الصين لخطوات هدامة في الخارج. كذلك، من المرجّح أن يؤدي تأطير استراتيجية الولايات المتحدة على أنها منافسة بين الديمقراطية والسلطوية إلى عزل البلدان التي ترى جاذبية أيديولوجية محدودة إما في نموذج الولايات المتحدة أو الصين. علاوة على أن التحدي المتعلق بمدى دقة تعريف الديمقراطية قد يفتح الباب أمام تقويض القيادة الأخلاقية للولايات المتحدة إن هي تجاهلت الانتهاكات الداخلية في بعض الدول التي تطلق عليها وصف "الديمقراطية". ثم إنه -أيضًا- سيكون من غير المجدي لها أن تضع عقبات شديدة للغاية أمام الانضمام إلى المعسكر الديمقراطي.

والواقع أن وجود عالم آمن للاستبداد لا يمنع وجود عالم آمن للديمقراطية. فإندونيسيا تقدم درسًا مفيدًا في هذا الصدد. فهي شريك أمريكي مهم من الناحية الاستراتيجية على الرغم من أن ديمقراطيتها على المحك نتيجة لاستخدام إدارة الرئيس "جوكو ويدودو" تكتيكات قمعية لخنق الانتقادات وتعبئة المعارضة، بالإضافة إلى لعب الجيش الإندونيسي دورًا استثنائيًا في السياسة الوطنية. هذا فضلًا عن أن العديد من الإندونيسيين يشعرون بالقلق مما يعتبرونه تجاوزات لليبرالية الأمريكية. على الجانب الآخر، فهم معجبون بنجاح الصين الاقتصادي واستقرارها السياسي، ويتطلعون لما يجنونه من فوائد اقتصادية مباشرة من التجارة مع الصين. وفي المقابل، تركز الصين في تعاملها مع إندونيسيا على تعميق العلاقات التجارية، وتأمين الوصول إلى الموارد الطبيعية، وتحييدها حتى لا تنتقد اعتقال ما يصل إلى مليوني شخص من أقلية الإيغور المسلمة. ولكن لم تؤدِّ هذه الإجراءات إلى إرضاء إندونيسيا أو تبديد مخاوفها بشأن النفوذ الصيني.

ويتمثل الخطر الأخير في أن تنشيط التنافس الأيديولوجي سيدفع الأنظمة الاستبدادية، ولا سيما الصين وروسيا، إلى تعميق تعاونهما. فخلال الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة أكثر نجاحًا عندما استغلت الخلافات بين الخصمين الشيوعيين. اليوم، لا يوجد "تحالف حتمي للأنظمة الاستبدادية"، لكن تأطير السياسة الدولية على أنها منافسة أنظمة يمكن أن يكون له تأثير عكسي في إحداث ذلك.

نهج مرن

على الرغم من رؤية تأثير الصين المتنامي على أنه نذير بتصاعد الاستبداد في العالم، إلا أن جذور أو أسباب التراجع الديمقراطي هي في معظمها داخلية، مثل: الاستياء الشعبي من خسارة السلطة والموارد لصالح المهاجرين والأقليات والروبوتات، وتواري النخب السياسية والفكرية، والتفكك الاقتصادي الناتج عن العولمة، وتراجع التصنيع، والاستقطاب والمعلومات المضللة التي يغذيها مجال رقمي غير منظم. ومن هنا، يحب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تدافع عن الديمقراطية دون تأجيج الصراع الأيديولوجي مع الصين. فعلى الصعيد الدولي، يجب على واشنطن أن تجدد الالتزام لكي تكون نموذجًا يُحتذى به للقيادة، كذلك يجب عليها أن تُرسي أسسًا ديمقراطية موحدة من خلال دعم الإصلاحات في الديمقراطيات المعيبة. كما يجب أن تعمل إدارة بايدن على إعادة تصور نظام دولي مفتوح وقائم على قواعد مرنة بما يكفي لاستيعاب الدول الليبرالية وغير الليبرالية على السواء. فصعود الصين لا يتطلب تغيير النظام الدولي القائم تغييرًا جذريًا، حتى وإن كانت بكين تميل إلى نظام يقوم على قواعد ويستفالية كالسيادة وعدم التدخل.

هذا إلى جانب أنه يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية أن تخفف على الصعيد الدولي من الممارسة أحادية الجانب للقوة القسرية، سواء من خلال الوسائل العسكرية أو الاقتصادية أو المعلوماتية، وأن تعمل على التركيز على القضايا المشتركة مثل المناخ والصحة، والتي ستكون لها فوائد غير مباشرة على القدرة التنافسية للولايات المتحدة وتأثيرها. لأن هذا هو ما عكسه إنشاء صندوق أمريكي لمكافحة فيروس نقص المناعة/ الإيدز في إفريقيا، لأنه ساهم في تحسين سمعة أمريكا في القارة الإفريقية على خلاف الكثير من الجهود المباشرة لمواجهة النفوذ الصيني في القارة.

لذلك، يمكن القول إنه إذا خلُص القادة الصينيون إلى أن واشنطن لن تسمح أبدًا لبكين بلعب دور رائد على المسرح العالمي، فقد يؤدي ذلك إلى نوع من المواجهة الشاملة التي يجب على الولايات المتحدة أن تسعى جاهدة لتجنبها بينما تستأنف جهودها للقيادة الدولية. وهو الأمر الذي يوجب على واشنطن ضرورة الاستثمار في إبقاء الصين ضمن نظام دولي أكثر مرونة.

المصدر: 

Thomas Pepinsky and Jessica Chen Weiss, The Clash of Systems?: Washington Should Avoid Ideological Competition With Beijing, Foreign Affairs, 11 June 2021.