أخبار المركز
  • د. أحمد أمل يكتب: (تهدئة مؤقتة أم ممتدة؟ فرص وتحديات نجاح اتفاق إنهاء الخلاف الصومالي الإثيوبي برعاية تركيا)
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)

تصدعات قائمة:

ماذا يقول "كيسنجر" عن تحولات النظام العالمي؟

29 سبتمبر، 2014


نشرت دار "بنجوين برس" في شهر سبتمبر 2014 كتاباً بعنوان: "النظام العالمي" World Order لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر "91 عاماً"، والذي يُعد أحد أبرز وأشهر صانعي السياسة الأمريكية في القرن العشرين؛ إذ يحاول كيسنجر من خلال هذا الكتاب طرح رؤيته للنظام العالمي الجديد على ضوء التطورات الدولية في مناطق العالم المختلفة، تزامناً مع ظهور معطيات دولية جديدة مثل الحرب الأهلية في ليبيا، وظهور الجماعات المتطرفة في سوريا والعراق، وعودة التوتر في العلاقات بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين، وتراجع الاقتصاد العالمي وتباطؤ نموه"... كل هذه المعطيات وضعت النظام العالمي في "أزمة" تُحتِّم ضرورة إعادة التفكير في تأسيس نظام عالمي جديد يحاول الخروج من مأزق النظام الحالي بتصدعاته وانشقاقاته المختلفة.

النظام العالمي وسيادة الرؤية الغربية

بدايةً يشير كيسنجر إلى أن تعريف "النظام العالمي" طالما خضع، ولفترةٍ طويلةٍ، لمفاهيم وثقافة المجتمعات الغربية وحدها؛ ففي العقود التالية للحرب العالمية الثانية كان الاقتصاد الوطني الأمريكي هو الأبرز، الأمر الذي عزز الثقة فيه، وأهَّل الولايات المتحدة لتولي مقعد القيادة الدولية، وأضاف بُعداً جديداً في سياستها الخارجية هو فكرة "الأمة النموذج" التي تضرب من خلالها المثل لكل دول العالم بأن تحذو حذوها؛ فالولايات المتحدة تأسست على مبادئ الحكم الحر والتمثيل الديمقراطي بما جعلها تساهم، بشكل كبير وفاعل، في نشر الديمقراطية وأفكار التحرر مع القدرة على تحقيق السلام العادل والدائم في العالم.

وقد ساهم ذلك في التأثير على النهج الأوروبي التقليدي؛ حيث انتقلت الشعوب الأوروبية من مرحلة الصراع،  بعد الحرب العالمية الثانية، إلى تحقيق التنافس في ظل توازن القوى؛ مما أدى إلى الازدهار الاقتصادي وانتعاش فكرة الأسواق الحرة والنهوض بالأفراد والمجتمعات وإثراء الترابط الاقتصادي كبديل عن الصراعات السياسية الدولية التقليدية.

ويؤكد كيسنجر أن تلك الجهود المضنية لإقامة نظام عالمي متوازن تقوده الولايات المتحدة، كانت له عدة نواح إيجابية، وأتى بثمار كثيرة، أهمها أن عدداً هائلاً من الدول المستقلة ذات السيادة تحكم معظم الأراضي في العالم الآن، وأصبح انتشار الديمقراطية والحكم القائم على المشاركة طموحاً مشتركاً، وإن لم يكن واقعاً عالمياً حتى الآن، كما أن وسائل الاتصال العالمية والشبكات المالية أصبح يتم إدارتها بشكل مباشر في وقتها.

ويشير الكاتب إلى أن "السياسة الخارجية ليست قصة لها مقدمة وخاتمة، بل هي سيرورة إدارة التحديات الدورية وضبط إيقاعها" وعلى الرغم من أن السنوات الممتدة منذ عام 1948 وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين تُعد "فترة قصيرة نسبياً" من التاريخ البشري، فإنها شهدت تحقيق المفهوم الحديث للنظام العالمي الذي تشكَّل من مزيج من المثالية الأمريكية والمفاهيم التقليدية للدولة القومية بالمعنى الأوروبي وميزان القوى.

لكنَّ أجزاء شاسعة من العالم لم تشارك في صياغة هذا النظام، فهي أذعنت له وللقوى المسيطرة عليه، إذ امتثلت للثنائية القطبية منذ عام 1948 إلى 1989، حتى بدأت التحفظات والاعتراضات تعبر عن نفسها الآن كما يظهر في الأزمة الأوكرانية مع روسيا أو في بحر الصين الجنوبي وغيرها، وهو ما يؤشر إلى أن النظام العالمي يواجه منعطفاً مهماً يحتاج لمزيد من التريث وإعادة النظر.

تصدُّعات النظام الحالي

في إطار الحاجة إلى ضرورة تشكيل نظام عالمي أكثر تشاركية، يشير كيسنجر إلى أن النظام العالمي الحالي قد تعرض لبعض التصدعات، لعل من أبرزها:ـ

أ) اختلال مفهوم الدولة: فالدولة، وهي الوحدة الأساسية للقانون الدولي، تعرضت للعديد من الضغوط؛ فاضطرت أوروبا إلى تخطي مبدأ الدولة والاتجاه نحو سياسة خارجية تعتمد على "القوة الناعمة" Soft Power، لكن كان من غير المؤكد إمكانية فصل المطالب المشروعة للشعوب عن السياسة العامة للدولة؛ الأمر الذي أدى في النهاية إلى صعوبة الحفاظ على النظام العالمي، فالآثار السلبية التي نتجت عن فراغ السلطة، إن جاز التعبير، نتيجة تجاوز أوروبا لسمات الدولة، أدى إلى اختلال توازن القوى على طول حدودها الجنوبية.

ومن ناحية أخرى، أصبحت العديد من دول ومناطق منطقة داخل الشرق الأوسط تعجُّ بصراعات مذهبية وعرقية؛ فالمجموعات الدينية المسلحة والدول التي تدعمها تقوم بالتعدي على حدود دول ذات سيادة، مما يكون ظاهرة "الدول العاجزة أو الفاشلة" failed state التي لا تتحكم بأراضيها. كما أن التحدي في آسيا هو على النقيض من أوروبا؛ حيث تسود مبادئ موازين قوى ليس لها علاقة بالمفهوم الغربي المتفق عليه للشرعية الدولية، مما قد يدفع بالخلافات بين دولها إلى حافة الهاوية في أي لحظة.

ب) الصدام الاقتصادي السياسي: يشير كيسنجر إلى أن النظام العالمي، لكي يتطور ويحافظ على استقراره، يحتاج إلى إيمان كامل بأهميته وضرورته، إلا إنه حينما يحدث صدام بين الاقتصاد الدولي وبين المؤسسات السياسية التي تتحكم فيه، يتنامي الشعور بضعف الهدف المشترك والضروري للنظام العالمي. وقد ازدادت الفجوة اتساعاً نتيجة للعولمة؛ إذ تطور الاقتصاد العالمي بشكل سريع، في حين مايزال الهيكل السياسي للعالم يستند إلى مفاهيم الدولة القومية التي أقرتها معاهدة ويستفاليا 1648.

وقد أفرزت تلك الفجوة، طبقاً لكيسنجر، أزمتين رئيسيتين؛ أولاهما تتعلق بصعوبة التوفيق بين الأهداف المحلية للدولة وبين الأهداف العالمية، في ضوء تجاوز طبيعة العولمة لحدود الدولة القومية والسيادة الوطنية. وارتبطت المشكلة الثانية بتزايد واستمرارية الأزمات المالية المتفاقمة حتى اليوم، ومنها على سبيل المثال ما حدث في أمريكا اللاتينية في التسعينيات من القرن العشرين، وفي آسيا عام 1980، وروسيا عام 1998،  وفي الولايات المتحدة عامي 2001 و2007، وفي أوروبا عام 2010. ومن ثم وقع النظام العالمي في مفارقة محيرة نوعاً ما؛ فنمو وانتعاش هذا النظام يعتمد على نجاح العولمة، ولكن هذه العملية تنتج ردة فعل سياسية في الغالب تعمل ضدّ تطلعاته.

ج) غياب آلية عالمية فعَّالة للتشاور بين القوى العظمى، وربما للتعاون أيضاً بشأن القضايا الأكثر أهمية. فطبقًا لـ "كيسنجر"، يبدو هذا الأمر غريباً، لاسيما في ظل تعدد المنابر التي تختص بذلك، لكنه يؤكد أن طبيعة وتردد هذه الاجتماعات تعمل بشكل عكسي مع وضع استراتيجيات بعيدة المدى. فالقوى الكبرى تناقش القضايا العالقة في العالم من الناحية "التكتيكية"، ولا تعمل على وضع استراتيجيات فاعلة لحلها على المدى البعيد. وإذا ما أُريد للقواعد والأعراف الدولية أن تكون ملزمة، فيجب أن تتجاوز مجرد التصريحات من خلال تأكيدها باعتبارها مسألة قناعات مشتركة، إذ إن النتيجة الحتمية لفشل القوى الكبرى في حل القضايا العالمية بشكل جذري هي "الحرب الكبرى" بين الدول كما أسماها كيسنجر. وعلى الرغم من أن هذا شبه حادث بالفعل في بعض المناطق من العالم، فإنه سيتطور بمرور الوقت لتشمل الحرب مناطق النفوذ التي تم تحديدها مسبقاً مع القوى المحلية التابعة لهذه الدول، وصراع مناطق النفوذ يمكن أن يتطور بسهولة إلى صراع بين الأمم والدول الكبرى.

ماذا يحتاج العالم؟

يستخلص "كيسنجر" من خلال قراءته للنظام العالمي أن هيمنة دولة واحدة على النظام العالمي سيسفر عن أزمات يصعب حلها، حتى وإن بدا في ظاهره وكأنه يجلب النظام والاستقرار؛ الأمر الذي يتطلب حتمية التعاون الدولي والتحالف من أجل تدعيم أواصر النظام العالمي المنشود، والذي يجب أن تكون أهم دعائمه هي إرساء كرامة الفرد والحكم القائم على المشاركة والتعاون الدولي وفقاً لقواعد يتفق عليها من الجميع، لا بالمفهوم الغربي فقط، بحيث تشمل الثقافة الصينية والروسية والإسلامية والأوروبية وغيرها، وإن كان التقدم نحو هذا النظام يجب أن يمر ببعض المراحل الوسيطة.

إن السعي إلى إرساء دعائم نظام عالمي معاصر يتطلب استراتيجية متماسكة لتأسيس مفهوم جديد للنظام في جميع أنحاء العالم، على أن تكون قواعده وقوانينه قادرة على ربط أقاليم العالم بعضها ببعض. وهذه الأهداف يجب ألا تحركها المصالح الذاتية للدول، بل يجب أن تجمعها المصلحة العامة والمشتركة للنظام حتى تُفوَّت الفرصة على الحركات المتطرفة من أن تنجح في إرباك هذا النظام كما يحدث اليوم.

ختاماً، فقد تعرض هذا الكتاب لبعض الانتقادات، إذ يعتبره العديدون بمنزلة "دفاع فلسفي" من كيسنجر ضد اتهامات مسبقة له بالمسؤولية عن إطالة أمد حرب فيتنام، والمذابح في شرق تيمور وبنجلاديش، وغيرها من التبعات السلبية للسياسات الأمريكية في العالم.

* عرض موجز لكتاب بعنوان: "النظام العالمي"، المنشور في سبتمبر 2014 عن دار "بنجوين برس".

المصدر:

Henry Kissinger, World Order (New York: Penguin Press, September 2014) pp 432.