أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

بغداد تسقط معادلة «لا غالب ولا مغلوب» ؟

09 أكتوبر، 2018


إيران لم تربح في العراق. ولا الولايات المتحدة ربحت أيضاً. لعبة التوازن القائمة منذ الغزو الأميركي لا تزال مستمرة. لكنهما لم يخسرا. الخاسر هو قوى الإسلام السياسي بشقيها الشيعي والسني. الخاسر هو «حزب الدعوة» الذي استأثر بالحكم إلى حد كبير منذ 2005. وتوالى على رأس السلطة التنفيذية أبرز رموزه إبراهيم الجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي. والخاسر أيضاً «الحزب الإسلامي» الذي يشكل واجهة لحركة «إخوان العراق». لم يعد يمسك بمفاتيح السلطة الاشتراعية بالتفاهم مع القوى الشيعية المرتبطة بطهران. وهذا تطور لافت. التوافق الداخلي بين القريبين من إيران وأولئك المحسوبين على الولايات المتحدة أنتج هذه التركيبة الجديدة. ولم تكن المرجعية في النجف بعيدة من الترتيب. تغيرت الوجوه، وإن لم تتغير القواعد التي طبعت صيغة الحكم و «المحاصصة». القوى والفصائل المرتبطة بالجمهورية الإسلامية هللت لفوز مرشحها محمد الحلبوسي برئاسة مجلس النواب. لكنها لا يمكنها أن تعتبر فوز برهم صالح برئاسة الجمهورية وكذلك تكليف عادل عبد المهدي تشكيل الحكومة الجديدة فوزاً لها وهزيمة لواشنطن.

الصورة أكثر تعقيداً. لا يمكن اعتبار صالح أو عبد المهدي في صف إيران، وإن لم يكونا في صف خصومها. للرجلين تجربة وثقافة سياسيتان لا تسمحان لهما بالمجازفة في مواجهة الولايات المتحدة، ولا بإدارة الظهر لرغبات الجمهورية الإسلامية. وهما يتمتعان بعلاقات مع كل الأطراف المعنيين بالشأن العراقي، في الداخل والخارج. حتى رئيس البرلمان لا يمكنه تجاهل موازين القوى داخل مجلس النواب. فإذا كان تلاقي الكتلتين الكبريين «سائرون» و «الفتح» رجح كفته، فهو يعرف أنهما تقفان في الخط الأمامي، واحدة بمواجهة تدخل إيران والأخرى بمواجهة تدخل أميركا. بل كلتاهما وجهت رسائل ودية حيال واشنطن غداة الانتخابات في أيار (مايو) الماضي، أي أن اصطفاف الكتل داخل قبة البرلمان لا يسمح بتجاهل حضور هاتين الدولتين. فالإدارة الأميركة التي تخوض صراعاً حاسماً هذه المرة مع طهران لن تسحب قواتها التي عادت إلى العراق تحت راية «التحالف الدولية» لمحاربة تنظيم «داعش». بل ستتمسك بهذه القوات تمسكها ببقاء قواتها في سورية حتى إخراج «الحرس الثوري» والميليشيات الموالية له من سورية. ستحرص على مواصلة حربها على الإرهاب التي لم تنته. كما ستواصل تدريب القوات العسكرية التي أعادت تأهيلها بالتفاهم مع حيدر العبادي. وباتت تشكل قوة وازنة بمواجهة الميليشيات التي أطلقها الجنرال قاسم سليماني ورعاها.

يصعب على الحكومة العراقية المقبلة أن تطلب من القوات الأميركية مغادرة البلاد. بل ربما كان من مصلحتها بقاء هذه القوات، أياً كان الغطاء سواء مواصلة الحرب على بقايا «داعش» أو تدريب القوى العسكرية الوطنية، وذلك لإقامة توازن بين فصائل «الحشد الشعبي» التي يمكن إيران أن تمارس عبرها ضغوطاً على الحكم. ولا يخفى أن هذه تراهن على العراق للتحايل على العقوبات. وقد فعلت ذلك في السابق، أيام ولايتي زعيم «دولة القانون». وأفاد «الحرس الثوري» من حضوره الطاغي ليس في الساحة السياسية فحسب، بل في مكاتب الحكومة وإداراتها من أجل تمويل عملياته داخل العراق وخارجه. وتدرك إدارة الرئيس دونالد ترامب أن سياسة العقوبات التي تهدد بها بعض فصائل «الحشد» قد لا تثمر ما تشتهيه. فعمل قياداته محصور بالميدان الداخلي، في أروقة البرلمان عبر أكثر من كتلة، وفي دوائر الحكومة التي امتلأت بهم طوال نيف وعقد من حكم «حزب الدعوة»، وفي المؤسسات المدرسية والدينية... لذلك، يبدو شبه مستحيل إخراجهم من الساحة السياسية. لذا، يتعذر على العراق أن يقطع علاقاته مع الجمهورية الإسلامية شريكه التجاري الكبير، والذي يستقبل من مواطنيها أكثر من ثلاثة ملايين يحجون سنوياً لزيارة مقامات الأئمة في بغداد والجنوب خصوصاً. كما أنه يعتمد عليها في توفير نحو ثلثي الكهرباء عبر واردات الغاز الطبيعي. علماً أن انقطاع الكهرباء كان بين الأسباب البارزة لانفجار الاحتجاجات في البصرة الشهر الماضي.

ميزان القوى في الداخل العراقي يميل لمصلحة إيران، بوجود قوى الميليشيات التي كان لها الدور الكبير في قمع الاحتجاجات في البصرة. لكن هذا الخلل يصححه الشارع الذي عبر عن رفضه الأحزاب الدينية تماماً كما عبر عن تبرمه من الطبقة السياسية وآليات توزيع المناصب والمكاسب. تجلى ذلك في تدني نسبة المشاركين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وفي تقدم القوى التي تعارض التدخل الإيراني. وكانت أحداث البصرة وحرق مقر القنصلية الإيرانية خير تعبير عن رفض هذا التدخل. هذا الخيط الدقيق الذي تقف عليه العملية السياسية في بغداد قد يكون الرئيس برهم صالح خير من يحافظ عليه. فهو «رفيق» الرئيس الراحل جلال طالباني الذي عرف في كثير من المناسبات، عبر علاقاته الممتازة مع كل من طهران وواشنطن، كيف يحافظ على هذا الخيط للحؤول دون كسر هذا التوازن وإدخال البلاد في المحظور. ورئيس الجمهورية الجديد قادر على أداء هذا الدور، وسيطاً بين قوتين تخوضان صراعاً حاسماً. وليس عادل عبد المهدي أقل قدرة على أداء مثل هذا الدور. فحتى حيدر العبادي أحد قادة «حزب الدعوة» لم يجازف في إغضاب الولايات المتحدة. بل كانت المفاجأة أنه أثار حفيظة طهران طوال أربع سنوات. وكان آخر فصول مواقفه إعلانه التزام حكومته العقوبات الأميركية مقدماً مصالح بلاده على ما عداها من مصالح الآخرين، وإن حاول بعد ذلك تلطيف خطابه أو توضيحه. ولا تعوز رئيس الحكومة المكلف الخبرة الديبلوماسية والتجربة السياسية والحزبية المتنوعة لنهج سياسة تجنبه السير فوق حقل الألغام التي يزخر بها العراق... إلا إذا كان المنخرطون في الصراع على العراق يصرون على إسقاط معادلة «لا غالب ولا ومغلوب»!

يدرك رجال إدارة الرئيس ترامب حقيقة المشهد السياسي في العراق واستحالة رفع يد إيران عن بغداد. لكنهم بالتأكيد يراهنون على فاعلية العقوبات وحزمتها المقبلة التي تدخل حيز التنفيذ مطلع الشهر المقبل، والتي بدأت تؤرق النخبة الحاكمة بسبب تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية. وهو ما عبر عنه صراحة المرشد الأعلى للجمهورية السيد علي خامنئي. تحدث للمرة الأولى عن المرحلة الصعبة التي تمر بها بلاده. لم يحدث أن شهدت طهران مثل هذه الضغوط الخارجية والداخلية. صحيح أنها تنشر أذرعها في عدد من البلدان العربية لكن هذه الأذرع تواجه حرب استنزاف مفتوحة لا قدرة لاقتصادها على تحمل تبعاتها. في اليمن، تتصاعد الحرب على الحوثيين. ويتفاقم الغضب الشعبي عليهم في صنعاء وغيرها من المدن والدساكر التي يسيطرون عليها، ويتعمق الخلاف الدموي بين صفوفهم. أما الحضور الإيراني في سورية فيواجه تحديات تتضارب فيها مصالح قوى كبرى إقليمية ودولية. يكفي أن إدارة الرئيس ترامب تصر على خروج القوات الإيرانية والحليفة من بلاد الشام، بعدما بدلت سياستها حيال هذا البلد وعززت قواعدها العشرين وممثليها الديبلوماسيين. وقد لخص جيمس جفري الممثل الأميركي الخاص إلى سورية الصورة في هذا البلد، قائلاً أن الثلاثي السوري (النظام) - الإيراني – الروسي يسيطر على نصف الأراضي السورية ونصف السكان. لكنه لا يملك السيطرة على حقول النفط والغاز. «إنهم يجلسون على كومة من الركام من دون بصيص أمل».

لكن هذا التفاؤل الأميركي تقابله في دوائر سياسية وإعلامية مخاوف من أن تتعزز قبضة المتشددين على القرار في طهران. وأن يفيد «الحرس الثوري» من الحصار الاقتصادي، كما فعل في السابق، من خلال الإطباق على قطاع النفط واللجوء إلى التهريب والتحايل على العقوبات في أكثر من ساحة إقليمية. وهو ما لجأ إليه في العراق قبل سنوات. وتدرك طهران أنها لا يمكن أن تعتمد على تعويض ما ستخسر نتيجة العقوبات من شركاء وحلفاء آخرين. وقد أقر مجلس الشورى قبل أيام قانون مكافحة الإرهاب، الأمر الذي ينزع من يد واشنطن ذريعة لممارسة مزيد من الضغوط عليها وفق ما صرح وزير الخارجية محمد جواد ظريف. ولم يقفل المرشد قبل أيام باب الحوار مع الولايات المتحدة، ولكن ليس مع هذه الإدارة على حد قوله. هل يثمر تصاعد العقوبات وتصميم الرئيس ترامب وارتفاع النقمة الشعبية في الشارع الإيراني ليونة متدرجة من جانب التيار المحافظ؟ هل يعتبر هذا التيار من تجربة انهيار الاتحاد السوفياتي؟

*نقلا عن صحيفة الحياة