بدأ رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في 15 إبريل 2024، زيارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، على رأس وفد رفيع المستوى ضمّ وزراء النفط والمالية والتجارة والكهرباء، ورئيس البنك المركزي، فضلاً عن خمسة من رجال الأعمال العراقيين.
وقد التقى السوداني، خلال الزيارة، بالرئيس الأمريكي جو بايدن؛ إذ تناولا عدداً من الملفات ذات الاهتمام المُشترك، كما التقى مع وزراء الخارجية والدفاع والخزانة الأمريكيين، ومستشار الأمن القومي، ومسؤولي غرفة التجارة الأمريكية وكبار المسؤولين في الشركات النفطية والصناعية.
ملفات حرجة:
ناقشت زيارة رئيس الوزراء العراقي إلى الولايات المتحدة عدداً من الملفات ذات الأولية لكلا الجانبين، وكان أبرز تلك الملفات ما يلي:
1. مُستقبل الوجود الأمريكي في العراق: ناقش رئيس الوزراء العراقي مسألة الوجود الأمريكي في العراق ومُستقبل قوات التحالف الدولي؛ إذ أشار إلى أن العراق توصل إلى إطار عمل في الحوار الأمني المشترك مع الولايات المتحدة؛ يقضي برفع الأمر إلى اللجنة العسكرية العليا الأمريكية العراقية، التي ستقوم بتقييم القدرات والظروف التشغيلية، ولاحقاً تحديد موعد لانسحاب القوات الأمريكية من العراق.
وتُعد مسألة الوجود الأمريكي في العراق من أبرز القضايا المحورية في العلاقات العراقية الأمريكية، فمنذ توليه السلطة، يواجه رئيس الوزراء العراقي ضغوطاً مُتزايدة من قبل الفصائل المسلحة الموالية لإيران وامتداداتها السياسية في الإطار التنسيقي (الظهير السياسي الرئيسي لحكومة السوداني)؛ من أجل طرد القوات الأمريكية، وقد تعاظمت هذه الضغوط في أعقاب مقتل القيادي في حركة النجباء، مشتاق طالب السعدي، في 4 يناير 2024، بغارة أمريكية، وما تبع ذلك من حملة قصف جوي أمريكي طالت أهدافاً في العراق، وأدت إلى مقتل القيادييْن في كتائب حزب الله العراقي، أبو باقر الساعدي وأركان العلياوي، كرد فعل انتقامي على مقتل ثلاثة جنود أمريكيين في قاعدة "البرج 22" في الأردن.
أما بالنسبة للجانب الأمريكي فإن انسحاب القوات الأمريكية من العراق لا يُعد خياراً استراتيجياً في الوقت الراهن؛ إذ من المُرجح أن يكرّس الانسحاب نفوذ الفصائل المسلحة المدعومة من إيران، وبالتالي تعزيز سيطرتها على مراكز صنع القرار في العراق، والتي تهيمن على أجزاء واسعة منها بالفعل من خلال الامتدادات السياسية لها في البرلمان ومجالس المحافظات.
فضلاً عن أن تعاظم نفوذ الفصائل المسلحة الموالية لإيران قد تكون له تداعيات سلبية على الوضع الجيوسياسي في المنطقة، خصوصاً في ظل التنافس الأمريكي مع إيران؛ وهو ما يعني أن الولايات المتحدة قد تخسر منطقة نفوذ مهمة في الشرق الأوسط وواحدة من أهم نقاط التماس مع إيران، كما يعني الانسحاب الأمريكي أيضاً التسليم بأن إيران قد ربحت حرب النفوذ ضد الولايات المتحدة في العراق؛ وهو ما سيترتب عليه تحويل العراق لمحافظة إيرانية.
ولا يؤدي الانسحاب الأمريكي إلى اختلال توازنات القوى على المستوى الجيوسياسي فقط، وإنما يمتد ليطرح تساؤلات حقيقية في الداخل الأمريكي عن جدوى الوجود الأمريكي في العراق منذ 2003، وعمّا إذا كانت الولايات المتحدة قد حققت بالفعل أهدافها من خلاله.
بالنسبة لرئيس الوزراء العراقي، فإن مسألة الوجود الأمريكي في العراق تُعد تحدياً رئيسياً لحكومته، فعلى الرغم من أنه قد صرّح في عدة مرات برغبة بغداد في الانسحاب الأمريكي من العراق، فإنه وعلى عكس الفصائل المسلحة المدعومة من إيران وقوى الإطار التنسيقي، لا يريد انسحاباً كلياً للقوات الأمريكية من العراق؛ ذلك لأنه يدرك أن القوات الأمنية العراقية لم تصل بعد إلى الدرجة التي تمكنها من مواجهة تنظيم داعش كلياً.
فعلى الرغم من أن القوات الأمنية العراقية وقوات الحشد الشعبي، هي التي تنهض بالأساس بمهمة قتال تنظيم داعش على الأرض، فإن رئيس الوزراء يدرك أن القوات الأمريكية توفر مستوى مُتقدماً من الرصد والاستطلاع على مدار 24 ساعة خصوصاً في المناطق النائية، والتي ينشط فيها التنظيم والقدرة أيضاً على توفير معلومات استخباراتية دقيقة واستباقية لدرء الهجمات الإرهابية للتنظيم، ولا يمتلك العراق حالياً هذه القدرات المتطورة، والتي تنهض بها أساساً الولايات المتحدة، كما يتخوف السوداني، من أن أي انسحاب أمريكي من العراق في الوقت الراهن، وفي ظل انشغال معظم فصائل الحشد الشعبي في التصعيد الحالي في المنطقة، قد يؤدي إلى حدوث فراغ أمني قد يستغله تنظيم داعش لمعاودة هجماته بصورة أكبر من السابق وربما السيطرة على بعض القرى في المناطق النائية من البلاد.
2. التعاون الاقتصادي: احتلت الملفات الاقتصادية أهمية على جدول أعمال رئيس الوزراء العراقي؛ إذ يظهر ذلك من خلال تشكيلة الوفد الوزاري المرافق له في الزيارة، والتي ضمت كلاً من وزراء المالية والطاقة والنفط ورئيس البنك المركزي العراقي، كما سبقت الإشارة؛ إذ ناقش رئيس الوزراء العراقي عدداً من الملفات الاقتصادية مع الرئيس الأمريكي على رأسها زيادة الاستثمارات الأمريكية في الاقتصاد العراقي، ولاسيما في قطاع النفط، وقد أسفرت الزيارة عن توقيع 18 مُذكرة تفاهم مع عدد من الشركات الأمريكية في مجالات النفط والطاقة والتكنولوجيا والإلكترونيات.
وعلى الرغم من جهود السوداني، في تعزيز الاستثمارات الأمريكية في العراق، ولاسيما في مجال النفط، فإن العلاقات الأمريكية العراقية في المجال الاقتصادي تواجه تحديات، لعل من أهمها الامتعاض الأمريكي من الدور المتزايد للصين في العراق؛ إذ عززت الصين أنشطتها بشكل كبير في قطاع الطاقة العراقي، وفازت بنسبة 87% من جميع عقود مشروعات النفط والغاز والطاقة التي تم منحها في البلاد خلال عام 2022، وأصبحت تمتلك حصصاً في حقول "الأحدب" و"الحلفايا" و"الرميلة" و"غرب القرنة 1" من خلال شركة "تشاينا بتروليوم آند كيميكال كورب"؛ وهو الأمر الذي يجعل قطاع النفط –أحد أكبر قطاعات الاقتصاد العراقي– غير مُغرٍ بالنسبة لعدد من الشركات الأمريكية، كما يجعل الحكومة الأمريكية غير مُرتاحة للتوسع الصيني في قطاع النفط العراقي؛ وبالتالي ضعف شهية المستثمرين الأمريكيين.
كما تُعد العقوبات الأمريكية المفروضة على القطاع المالي والمصرفي العراقي، إحدى أبرز التحديات التي تواجه العلاقات الاقتصادية بين البلدين؛ إذ فرضت الولايات المتحدة منتصف العام الماضي قيوداً على وصول العراق لاحتياطاته النقدية، والتي تبلغ حوالي 100 مليار دولار يقع معظمها في الولايات المتحدة؛ مما أدى إلى تحكم ضمني للفدرالي الأمريكي في الدولار في العراق، وأصبح بإمكانه أن يرفض طلبات العراق للحصول على الدولار، وذلك مثلما فعل الفدرالي الأمريكي عندما أصر على ربط البنك المركزي العراقي بالمنصة الإلكترونية من خلال نظام سويفت لتتبع الحوالات؛ لملاحقة حركة الدولار والتأكد من عدم ذهابه إلى دول مُعادية للولايات المتحدة أو خاضعة للعقوبات، في إشارة إلى إيران تحديداً.
وعلى الرغم من امتثال العراق للطلبات الأمريكية واتخاذه إجراءات ضد عدد من البنوك العراقية التي تتهمها الولايات المتحدة بتسهيل إيصال الدولار لإيران والجماعات المسلحة الموالية لها، فإنه لا تزال هناك بعض القيود الأمريكية على المجال المصرفي للعراق؛ وهو ما أدى إلى تقييد الوصول إلى الدولار، والذي أدى بدوره إلى ارتفاعات ملحوظة في أسعار بعض السلع الرئيسية في أسواق المواد الغذائية والخضروات ما بين 5% إلى 20%، وارتفاع أسعار الدواء بنحو 13%، فيما وصل التضخم إلى مستوى تجاوز 6% مع انقضاء الربع الثالث من عام 2023.
3. العلاقة بين بغداد وأربيل: ناقش السوداني مع بايدن قضية العلاقة بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان العراق؛ إذ تأمل حكومة الإقليم أن تمارس واشنطن ضغطاً على بغداد من أجل حلحلة الملفات العالقة بينهما، والتي يأتي على رأسها قضية حصة الإقليم من موازنة العراق، وقضية تصدير النفط عبر خط كركوك- جيهان، والمتوقف بسبب دعوى قضائية أقامتها الحكومة العراقية ضد السلطات التركية لمشاركتها في تصدير نفط الإقليم دون موافقة بغداد.
وقد ناقشت السفيرة الأمريكية في العراق ألينا رومانوسكي، مسألة استئناف تصدير نفط الإقليم مع وزير النفط العراقي حيان عبدالغني، قبيل زيارة السوداني لواشنطن. كما يأمل الإقليم في أن يشمل الدعم الأمريكي لتطوير القدرات الأمنية والعسكرية للعراق، قوات البشمركة، بجانب تزويد الإقليم بمنظومات دفاعية تمكنه من صد الهجمات الإيرانية ضد مواقع تابعة له.
4. التوتر في المنطقة: تناولت الزيارة ملف الحرب في غزة، وضرورة التوصل إلى وقف لإطلاق النار في القطاع، وقد أكّد الرئيس الأمريكي أن الولايات المتحدة مُلتزمة "بوقف إطلاق النار الذي سيعيد الرهائن إلى وطنهم ويمنع الصراع من الانتشار إلى ما هو أبعد مما هو عليه بالفعل".
وفيما يتعلق بالهجوم الإيراني ضد إسرائيل، والذي جرى تنفيذه في 14 إبريل 2024، فقد أشار رئيس الوزراء العراقي إلى "أهمية ضبط النفس في الشرق الأوسط"، وقال في مقابلة تلفزيونية إن العراق يرفض استخدام مجاله الجوي من أي دولة، مضيفاً: "لا نريد أن ينخرط العراق في الصراع. وأكرر وأؤكد أن هذا التصعيد سيدخل المنطقة في حسابات خطرة ولن يستطيع أحد أن يتحكم في ارتداداتها".
وجدير بالذكر أن رئيس الوزراء العراقي يجد نفسه في معضلة حقيقية، فيما يتعلق بالتصعيد بين إيران وإسرائيل، فمن ناحية فإنه لا يرغب في أن يكون العراق ساحة لصراع إقليمي بين إيران من جهة أو إسرائيل أو الولايات المتحدة من جهة أخرى، فمنذ توليه السلطة كان السوداني يصبو لأن يكون الاستقرار في العراق هو السمة الغالبة على فترة حكمه ليتمكن من معالجة المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها العراق، إلا أن التصعيد الحالي بين إيران (حليف العراق) وإسرائيل يسهم في جر العراق إلى حرب مفتوحة في المنطقة حال توسعه.
وقد أثر الاستهداف الإيراني لإسرائيل في زيارة رئيس الوزراء العراقي في شقين: الأول هو ما يتعلق بتوقيت الضربة؛ إذ استهدفت إيران إسرائيل في الوقت الذي كان رئيس الوزراء العراقي متجهاً إلى واشنطن، والعامل الثاني هو وجود تقديرات تشير إلى مشاركة الفصائل المسلحة العراقية المنضوية تحت لواء الحشد الشعبي في الهجوم الإيراني على إسرائيل؛ وهو ما سبب إحراجاً لرئيس الوزراء العراقي، ولعل هذا الأمر هو ما دفع السوداني لعدم انتقاد التدخل الأمريكي لإسقاط الصواريخ والمسيرات الإيرانية فوق العراق؛ إذ أشار إلى "أن القدرات الأمنية العراقية لا تزال قيد التطور؛ الأمر الذي لا يمكنها من حماية المجال الجوي العراقي" في إشارة إلى السكوت والقبول الضمني بإسقاط الولايات المتحدة للمسيرات والصواريخ الإيرانية في الأجواء العراقية.
مُستقبل العلاقات:
من المُرجح أن تؤدي الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء العراقي إلى الولايات المتحدة إلى حدوث تطورات إيجابية في بعض القضايا بينما ستظل بعض القضايا الأخرى عالقة كما هي، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1. استمرار وجود القوات الأمريكية: من غير المُرجح أن تسفر الزيارة عن حدوث اختراق في هذا الملف نظراً لتمسك الطرف الأمريكي بوجوده العسكري في العراق خاصةً بعد ما أثبتت الأحداث الأخيرة، وما شهدته من اعتراض للقوات الأمريكية للصواريخ الإيرانية أهمية الوجود الأمريكي كعامل موازن للحضور الإيراني في المنطقة، إلا إنه من المرجح أن يتم التوصل إلى مخرجات توافقية من اللجنة العسكرية العليا الأمريكية العراقية تتضمن خفضاً لعدد القوات الأمريكية في العراق على أن يكون ذلك على المدى المتوسط وليس الآني، كما من المرجح أن يتم هذا التوافق بعد انتهاء التوتر في المنطقة الناجم عن الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.
2. تسهيلات لتحويل الدولار للعراق: من المُرجح أن تُسفر الزيارة لاحقاً عن تفاهمات بشأن آلية مشتركة بين البنك المركزي العراقي ووزارة الخزانة الأمريكية يتم بموجبها اعتماد آلية لفحص البنوك العراقية وتحديد معايير إجرائية لعمليات تحويل الدولار لهذه البنوك ومراقبة أوجه صرفه؛ وهو ما يعززه الإعلان خلال الزيارة عن تشكيل فريق مشترك بين العراق والولايات المتحدة لمراجعة الانتهاكات التي ارتكبتها البنوك العراقية الخاضعة لعقوبات وزارة الخزانة الأمريكية واتخاذ الإجراءات التصحيحية.
من المرجح أيضاً أن يضغط الجانب العراقي من أجل الحصول من الجانب الأمريكي على وعد بتجديد الإعفاءات الأمريكية للعراق من العقوبات على إيران في مجال استيراد الطاقة من إيران؛ إذ يستورد العراق بين الثلث و40% من إمداداته من الطاقة من إيران؛ وعليه فإن أي عقوبات أمريكية على استيراد الطاقة قد تصيب شبكة الكهرباء العراقية بالشلل خصوصاً في فترة الصيف، والتي يتزايد فيها الطلب على الكهرباء في العراق؛ إذ يمكن فهم المخاوف العراقية في ضوء الخبرات السابقة لتعامل الولايات المتحدة مع قضية الطاقة على وجه التحديد؛ إذ عرقلت الولايات المتحدة في 2023 جهود بغداد لاستيراد الطاقة عبر تأخير الموافقات الأمريكية اللازمة لتحويل المبالغ المالية العراقية المخصصة لدفع قيمة الغاز الإيراني؛ الأمر الذي دفع طهران إلى خفض حجم الصادرات بمقدار النصف في مايو 2023، وهو ما أسهم في تفاقم أزمة الكهرباء في العراق؛ لأن خفض تدفقات الغاز الإيراني قد أتى في شهر مايو؛ أي على أعتاب الصيف، وهو الوقت الذي تشهد فيه شبكة الكهرباء العراقية ضغطاً كبيراً.
وفي التقدير، يمكن الإشارة إلى أن تطور العلاقات الأمريكية العراقية، سيظل مرهوناً في المقام الأول بارتدادات الحرب في قطاع غزة؛ لأنها نقطة محورية في كافة الملفات العالقة، ذلك أن التوصل إلى تفاهمات بشأن هذه الملفات سيتطلب مناخاً جيوسياسياً مستقراً وهادئاً، وهو ما ليس متوفراً في الوقت الحالي في ظل تصاعد الحرب في القطاع وامتدادها إلى دوائر أخرى، هذا إلى جانب اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية؛ وهو ما يجعل من التوصل إلى إطار جديد وشامل للعلاقات بين واشنطن وبغداد أمراً مستبعداً في الوقت الحالي على الأقل.