عرض: دينا محمود
مع التحذيرات من ارتفاع درجات حرارة الكوكب وفشل المجتمع الدولي في وضع سياسات وقائية لمكافحة تغير المناخ، تصاعدت أهمية تطوير حلول تكنولوجية مثل الهندسة الجيولوجية الشمسية، والتي تحاول خفض درجات الحرارة العالمية من خلال تعديل الإشعاع الشمسي (SRM)، أو تقليل ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي عن طريق الالتقاط والتخزين في المحيط أو على اليابسة (CDR). وفي ظل غياب إرادة حقيقية لخفض الانبعاثات، يطرح العلماء، الهندسة الجيولوجية الشمسية كفرصة أخيرة لمواجهة الاحتباس الحراري.
في هذا السياق؛ سلط تقرير صدر مؤخراً عن مرصد الدفاع والمناخ الفرنسي؛ الضوء على تطورات نشر تقنيات الهندسة الجيولوجية الشمسية على نطاق واسع في العقود المقبلة، والمخاطر الطبيعية والبشرية المرتبطة بها؛ ثم عرض أهم الجهات الفاعلة وموقع القوى الكبرى في هذا المجال، وأخيراً؛ طرح سيناريوهات محتملة وتوصيات لنشر تلك التقنيات بحلول عام 2050.
طبيعة التقنيات والمخاطر:
تعرف الهندسة الجيولوجية الشمسية أو إدارة الإشعاع الشمسي، بأنها تقنيات مُصممة لعكس ضوء الشمس لتبريد الأرض، من خلال التدخل المتعمد واسع النطاق في نظام المناخ على الأرض، بهدف تخفيف الآثار الضارة الناجمة عن الاحتباس الحراري، إلا أن استخدام هذه التقنيات ينطوي على مخاطر بشرية وطبيعية، وهناك جملة من أنماط التقنيات المصممة لإدارة الإشعاع الشمسي، من أبرزها:
- الهندسة الجيولوجية الشمسية المحلية: تم تطوير تقنيتين محليتين للهندسة الجيولوجية الشمسية عن طريق تعديل السحب من خلال تفتيح السحب البحرية (MCB) وترقيق الغيوم السحابية (CCT). ويتمثل الغرض من تفتيح السحب البحرية في زيادة الانعكاس من خلال حقن تلك السحب فوق المحيطات بقطرات صغيرة تجعلها أكثر سطوعاً وانعكاساً، بمعنى رش الملح البحري في السحب البحرية المنخفضة لزيادة انعكاسها وسطوعها. ومن شأن السحب الأكثر سطوعاً أن تساعد على تقليل كمية الإشعاع الشمسي الذي يصل إلى سطح الأرض؛ وبالتالي انخفاض درجات حرارة الغلاف الجوي والمحيطات.
- الهندسة الجيولوجية الشمسية الكوكبية: أي حقن الهباء الجوي في طبقة الستراتوسفير (SAI)، وهي تقنية يكون نطاق تدخلها كوكبياً. تتكون هذه الطريقة من نشر الجسيمات العاكسة بالطائرة أو البالون في طبقة الستراتوسفير من خلال الإطلاق المستهدف لجزيئات الكبريتات المحمولة جواً لتقليل كمية ضوء الشمس التي تصل إلى الأرض والحرارة المحتجزة في الغلاف الجوي؛ من أجل خلق ظروف تبريد مماثلة لتلك التي تعقب الأحداث البركانية الكبرى، وتُعد هذه التقنية الأكثر دراسة لتعديل التوازن الإشعاعي، لكنها أيضاً الأكثر إثارة للجدل، ولاسيما فيما يتعلق بهدفها الكوكبي والغموض العلمي الذي يصاحبها.
- الهندسة الجيولوجية الشمسية الفضائية: تخطط بعض مشروعات الهندسة الجيولوجية الشمسية لنشر أجهزة عاكسة (مرايا) في الفضاء الخارجي، يمكن أن تعكس حوالي 2% من الأشعة الشمسية. مع ذلك، تُعد تلك التقنية الأقل تقدماً والأقل دراسة، ويرجع ذلك إلى تعقيدها وتكاليفها الباهظة؛ إذ تبلغ تكلفة تنفيذها عدة مليارات من الدولارات الأمريكية، وينبغي نقل المرايا بواسطة صاروخ، ووضعها على بعد حوالي 1.500.000 كيلومتر من الأرض عند نقطة "لاغرانج L1"، وفي هذا الموقع، تعوض قوة جاذبية الأرض قوة جاذبية الشمس، بحيث يمكن تثبيت الأجسام في مدار حول الأرض.
ووفقاً للتقرير الذي نشرته الأمم المتحدة عن الهندسة الجيولوجية الشمسية في عام 2023، سيكون عمر هذه المرايا حوالي 20 عاماً. وحتى الآن؛ لا يوجد سوى مشروع واحد للهندسة الجيولوجية الفضائية، بعنوان (Space Bubbles)، يعمل على تشتيت جزء من أشعة الشمس الموجهة ناحية الأرض، وينفذه فريق من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، لكنه لا يزال في مرحلة نظرية.
لكن هناك مجموعة من المخاطر الطبيعية المرتبطة بالتقنيات الثلاث المستخدمة في الهندسة الجيولوجية الشمسية، من أبرزها: استمرار التأثيرات المرتبطة بزيادة مستويات ثاني أكسيد الكربون، وانخفاض عملية التمثيل الضوئي؛ مما يؤثر في مستويات الرطوبة وهطول الأمطار وتركيزات الأوكسجين المحلي (الجفاف في أمريكا الجنوبية، وزيادة الأمطار الاستوائية)، وتدهور طبقة الأوزون وزيادة في الأعاصير، والتغيرات المناخية الشديدة مع تأثر درجات الحرارة والنظام البيئي بشدة بالإشعاع الشمسي.
أما بالنسبة للمخاطر البشرية، فمن أبرزها: انخفاض الغلة الزراعية، وانخفاض الإنتاجية الأولية في منطقة الأمازون، وزيادة طفيفة في اضطراب هطول الأمطار في إفريقيا، والمخاطر الصحية المرتبطة بالتغيرات في درجات الحرارة، وانخفاض جودة الهواء، وفقدان خدمات النظام البيئي (انخفاض عملية التمثيل الضوئي).
أضف لذلك، هناك خطر شائع يتمثل في "الانغلاق الاجتماعي والتقني"، أي عدم إمكانية الرجوع عن التقنيات التي تم تطويرها، والتي تتشابك في الواقع مع عدد معين من المصالح الاقتصادية والسياسية. وبحكم هذه المصالح؛ من الممكن الحفاظ على التطورات التقنية واستمرارها؛ حتى مع وجود ما يدل على عدم فعاليتها أو ضررها وصولاً لما يُعرف بصدمة النهاية "terminal shock". ويتجلى ذلك من خلال المرايا الفضائية، التي من المحتمل أن تكون هدفاً للاشتباكات العسكرية، وتؤدي إلى زيادة فورية في درجة الحرارة العالمية. وهذا الخطر مهم أيضاً بالنسبة لعمليات الهندسة الجيولوجية التي تتطلب تدخلات كيميائية مستمرة.
شبكة الجهات الفاعلة:
تتنوع الجهات الفاعلة في مجال الهندسة الجيولوجية الشمسية بين الدول الكبرى والمجتمع العلمي، فضلاً عن القطاع الخاص والهيئات الدولية والمنظمات غير الحكومية. لكن تظل القوى العظمى هي الفاعل الأهم في شبكة الفاعلين بالهندسة الجيولوجية الشمسية، ومن أبرزها:
- الولايات المتحدة: تُعد الدولة الأكثر تقدماً في مجال الهندسة الجيولوجية الشمسية؛ إذ تهيمن على هذا القطاع من خلال عدد من المشروعات الكبرى (كهارفارد، جامعة كاليفورنيا، كورنيل). كما تشارك وزارة الدفاع بشكل كبير في هذا المجال، فضلاً عن الدور المتنامي للقطاع الخاص في تمويل الأبحاث؛ إذ منح حوالي 20 مليون دولار أمريكي خلال الفترة (2008-2018) للمبادرات والمشروعات المتعلقة بالهندسة الجيولوجية الشمسية.
- الصين: تنشط في أبحاث الهندسة الجيولوجية الشمسية، كما يتضح من وجود مشروع أبحاث صيني في هذا المجال ممول من القطاع العام (2015-2019)، والذي يهدف إلى دراسة التأثيرات المناخية للهندسة الجيولوجية الشمسية واستكشاف قضايا الحوكمة المرتبطة بها. وفي أغسطس 2020، أجرت الصين تجربة محلية للهندسة الجيولوجية الشمسية على نهر داغو الجليدي في سيتشوان، بهدف الحد من ذوبان النهر الجليدي خلال فصل الصيف.
- روسيا: ليس لديها برنامج بحثي في الهندسة الجيولوجية الشمسية، وفقاً للمعلومات المتاحة. مع ذلك، فإن الاتحاد السوفيتي السابق كان قد مهد لحقن الهباء الجوي في طبقة الستراتوسفير، التي اقترحها الباحث بوديكو في نهاية السبعينيات. ويبدو الموقف الرسمي لموسكو مؤيداً للهندسة الجيولوجية الشمسية؛ إذ طالبت الحكومة بإدراج فقرة حولها كحل محتمل لتغير المناخ عند إعداد تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ لعام 2013، ولفتت إلى أنها تعمل على تطوير تقنيات الهندسة الجيولوجية.
سيناريوهات متوقعة:
هناك سيناريوهات مطروحة بشأن مستقبل الهندسة الجيولوجية الشمسية بحلول عام 2050، من أبرزها:
- السيناريو الأول: الانتشار الأحادي الجانب من قبل الولايات المتحدة: يفترض هذا السيناريو أنه بحلول عام 2047 سيصل متوسط درجة الحرارة العالمية إلى +2.5 درجة مئوية مقارنة بعصر ما قبل الصناعة، مع عدم انخفاض انبعاثات الغازات الدفيئة بالقدر الكافي، وفشل المجتمع الدولي في تحقيق أهداف اتفاق باريس للمناخ. وتتعرص كافة دول العالم بشكل سنوي لكوارث طبيعية واسعة النطاق، ينجم عنها سقوط الآلاف من الضحايا والنازحين؛ ومن ثم يضعف الوضع الاقتصادي لجميع البلدان. وفي الولايات المتحدة، يتوتر الوضع السياسي، وتصبح، بعد أن تتجاوزها الصين، قوة عالمية ثانية منذ عام 2039. بالإضافة إلى ذلك، فإن الجفاف وندرة الموارد المائية يؤثران بشدة في قطاع الزراعة، وتصبح زراعة القطن والذرة مستحيلة، كما تنخفض عائدات فول الصويا والقمح بنحو 40% بدايةً من عام 2025.
في هذا السياق، يتزايد انتقاد الشعب الأمريكي للحكومة؛ إذ يتهمها بعدم توقع التأثيرات المترتبة على تغير المناخ بالقدر الكافي وتأخير جهود التكيف. بناءً عليه، تعلن الحكومة الأمريكية رسمياً، في العام 2047، عن نشر حقن الهباء الجوي الستراتوسفيري، في الوقت الذي تكون فيه الولايات المتحدة غير مصدقة على اتفاقية الهندسة الجيولوجية الشمسية المعتمدة في عام 2035، والتي تحظر النشر الأحادي للتكنولوجيا. يفضي هذا القرار الأحادي الجانب إلى تكريس حالة الاستقطاب الدولي، ومع فشل الأمم المتحدة ومجلس الأمن في تسوية الأزمة، تدفع روسيا والصين، مع عدد قليل من الشركاء، إلى إطلاق حملة دبلوماسية تندد بالعمل "الأناني" للولايات المتحدة، وتهدد باللجوء إلى التدخل العسكري، وتبدأ المناقشات داخل التحالف لمناقشة إطلاق عمليات مضادة للهندسة الجيولوجية.
- السيناريو الثاني: الصين ومشروع "ArcticX": يفترض هذا السيناريو أنه بحلول عام 2050، سيصل ارتفاع درجة حرارة الكوكب إلى +2.6 درجة مئوية مقارنة بعصر ما قبل الصناعة. وسيؤول هذا الأمر إلى انهيار الغطاء الجليدي في غرينلاند، والاختفاء التام للجليد الشتوي في بحر بارنتس، وكذلك ذوبان الجليد الصيفي في القطب الشمالي؛ مما يتسبب في ارتفاع متوسط مستوى سطح البحر بمقدار مترين، وابتلاع آلاف المنازل وترك مجتمعات بأكملها دون مناطق صالحة للسكن. ويشهد التنوع البيولوجي أيضاً حالات انقراض متتالية؛ إذ اختفت عدة آلاف من الأنواع النباتية والحيوانية منذ عام 2020. علاوة على ذلك، تتزايد الصراعات على موارد المياه والغذاء، وكذلك الصراعات الاجتماعية والبيئية.
في هذا السياق؛ يجري تشكيل تحالف من الدول لنشر تقنيات الهندسة الجيولوجية الشمسية، بمشاركة الولايات المتحدة والصين والهند على وجه الخصوص، بهدف إبطاء التأثيرات الناجمة عن تغير المناخ وتهدئة الاضطرابات الاجتماعية المتزايدة. وبعد رفض العديد من مقترحات النشر الموجهة إلى الأمم المتحدة، تقترح الصين عملية إقليمية للهندسة الجيولوجية لحماية القطب الشمالي؛ إذ تعلن في 2050 عن مشروع ""ArcticX، والذي يهدف إلى زيادة سطوع السحب البحرية فوق القطب الشمالي.
ويحظى هذا الانتشار الإقليمي بدعم جميع دول التحالف، ومعظم دول المنطقة (كندا والنرويج والدنمارك وأيسلندا)، الراغبة في حماية القطبين، إلا أنه يواجه اعتراض موسكو؛ إذ يسمح ذوبان القمم الجليدية في غرينلاند وبحر بارنتس، لروسيا باستخدام القطب الشمالي كطريق شحن تجاري، كما تحتوي هذه المنطقة على رواسب هائلة من النفط والغاز الطبيعي والمعادن، فضلاً عن المياه الغنية بالأسماك، والتي تُعد ذات أهمية أساسية لروسيا. وعليه، تهدد هذه الأخيرة بمهاجمة السفن التي تنشرها الصين عسكرياً.
- السيناريو الثالث: الهندسة الجيولوجية الشمسية كسلعة استهلاكية جديدة: خلال النصف الأول من القرن الحادي والعشرين، تحولت غابات الأمازون تدريجياً إلى السافانا، مما أدى إلى إطلاق كميات متزايدة من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي حتى تجاوزت نقطة التحول بشكل لا يمكن إصلاحه؛ مما يتسبب في ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمية، التي ستصل في عام 2037 إلى +3 درجات مئوية مقارنة بفترة ما قبل الصناعة، كما تؤثر الخسائر الزراعية في 40% من الإنتاج العالمي. وبناءً عليه ستفضي التطورات التكنولوجية في مجال استخراج الكربون من الغلاف الجوي إلى فشل تجاري وسياسي، بسبب عدم فعالية التقنيات والصراعات الاجتماعية والبيئية.
في هذا السياق، سيتجه عدد من الدول (من بينها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول الخليج وروسيا وبلدان المغرب العربي)، بدعم من جماعات الضغط النفطية، نحو نشر الهندسة الجيولوجية الشمسية. في المقابل ستكون أوروبا من جانبها منقسمة، إذ ستقف السويد والنرويج وإسبانيا في مواجهة أي عملية هندسة جيولوجية للطاقة الشمسية وتنفيذ خطة تخفيف طارئة، في حين ستؤكد دول مثل: فرنسا وألمانيا وإيطاليا، الحاجة إلى إجراء تبريد طارئ. وفي 2037، ستقوم جماعات الضغط النفطية، بدعم من الولايات المتحدة ودول الخليج، بوضع استراتيجية للترويج الإعلاني للهندسة الجيولوجية الشمسية للمستهلكين الأفراد، وسيتم فتح سوق تجارية جديدة من خلال الترويج لشكل جديد من الالتزام المناخي بين الأفراد. بينما سيكون هناك عدد من دول مجموعة الـ 77، بقيادة الصين، معارضاً بشدة لهذه التحركات.
ختاماً، أوصت وزارة الدفاع الفرنسية بضرورة دمج الهندسة الجيولوجية الشمسية كأداة سياسية وجيوستراتيجية وعسكرية، مع تعزيز تبادل المعلومات المرتبطة بهذا المجال، ولاسيما من خلال إثارة الموضوع خلال الحوارات الثنائية الاستراتيجية وتعزيز الشراكات مع معاهد أبحاث علوم الغلاف الجوي (مثل: MétéoFrance)، ودمج البحوث المتعلقة بعواقب تغير المناخ على النظم الطبيعية، والبحوث المتعلقة بالتأثيرات المحتملة للهندسة الجيولوجية الشمسية. كما أوصت الوزارة بإنشاء جهة مراقبة علمية وتكنولوجية وجيوستراتيجية من أجل مراقبة تطور مشروعات الهندسة الجيولوجية الشمسية، وتوقع قدرة مختلف الجهات الفاعلة على الحفاظ على الريادة التكنولوجية التي تسمح لها بنشر التكنولوجيا من جانب واحد على نطاق واسع.
المصدر:
Marine de Guglielmo Weber, et autres. (2023, Novembre). Géo-ingénierie solaire: enjeux géostratégiques et de défense. l’Observatoire Défense & Climat.