أرجع تقرير للمركز الفرنسي للعلاقات الدولية أسباب الهزة العنيفة في ألمانيا إلى عوامل داخلية متمثلة في فشل السياسة الاجتماعية الاشتراكية في حصد الثمار المرجوة، وارتفاع شعبية الأحزاب الشعبوية في الآونة الأخيرة، وعوامل خارجية مرتبطة بالتحديات الإقليمية والعالمية، كأزمة اليورو (2010 وما بعدها)، وأزمة الهجرة (2015 وما بعدها)، وجائحة “كورونا” (2020-2021)، وحرب أوكرانيا (2022)، والازدياد التدريجي لأزمة المناخ.
وأرجع المركز ذاته ضمن مقال منشور من قبل مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، تحت عنوان “كيف يُغير الاستقطاب السياسي مستقبل القوة الألمانية؟”، تفسيرات الشعبوية إلى التغير في السلوك الانتخابي لأسباب اقتصادية، مشيرا إلى أن نسب انتخاب حزب البديل تزداد طردياً كلما كان الناخب ذكراً وحاصلاً على مؤهل عالٍ ويتمتع بمستوى عالٍ من الدخل، وعوامل اجتماعية وسمات شخصية متداخلة.
كما أشار المصدر ذاته إلى أن صعود الأحزاب الشعبوية يُعبر عن اتجاه سائد ويتمدد في أوروبا، مبرزا أن هنالك تكهنات عديدة بأن المعارضين الشعبويين اليمينيين واليساريين قد يحصلون على عدد كبير من المقاعد في البرلمان الأوروبي عام 2024، بينما ستتراجع حظوظ أحزاب الوسط التي حظيت بمكانة كبيرة في الماضي.
نص المقال:
تواجه ألمانيا حالياً عملية تحول سياسي واقتصادي واجتماعي عميق ستؤثر على الأرجح في مستقبل وقوة هذا البلد الديمقراطي، ولاسيما في ظل التشظي الحزبي، إذ تتراجع شعبية الحزبين الرئيسيين (الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الحزب الديمقراطي المسيحي)، فيما لا يحصل الحزب الديمقراطي الحر (لبيرالي)، وحزب الخضر، الممثل للطبقة الوسطى الجديدة، سوى على نسب محدودة.
في المقابل، تتصاعد شعبية حزب البديل لألمانيا، ذي التوجهات اليمينية الشعبوية في المناطق الفقيرة شرقاً، والغنية جنوباً على حدٍ سواء، ما يكسر الصورة النمطية بأن مؤيدي اليمين المتطرف هم دائماً فقراء. يعكس ذلك الأمر الاتجاه الفكري الآخذ في الازدياد نحو فكرة الحفاظ على الهوية الوطنية، وتقليل مظاهر العولمة، وهو ما يتجلى في العديد من استطلاعات الرأي، إذ أعرب 58% عن عدم رضاهم عن الديمقراطية ودورها في نهضة البلاد.
ومع مثل هذه الأجواء السياسية والحزبية نشر المركز الفرنسي للعلاقات الدولية تقريراً تحليلياً موسعاً في أكتوبر 2023، حول “الاستقطاب السياسي المتصاعد في ألمانيا”، لمناقشة أثر تلك الظاهرة السياسية على مستقبل البلاد، وارتباطها بأوروبا بشكل عام.
تضاؤل الثقة
يفسر التقرير الهزة العنيفة للديمقراطية في ألمانيا بتضافر عوامل داخلية وخارجية، فمن جهة لم تؤت السياسة الاجتماعية الاشتراكية، التي بدأت منذ السبعينيات ثمارها المرجوة، إذ أولت اهتماماً كبيراً لإدماج روسيا في نظام سلام أوروبي حتى بعد احتلالها شبه جزيرة القرم عام 2014؛ إلا أنه تم التخلي عن تلك السياسة في أعقاب حرب أوكرانيا في العام 2022، ولاسيما أنها سمحت لموسكو ببسط نفوذها على مناطق أوروبية مهمة.
من جهة أخرى، عبَّر بزوغ حزب البديل لألمانيا اليميني المتطرف عن اتجاه سياسي في البلاد يسعى إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وإلغاء عملة اليورو، ومناهضة المهاجرين، ورفض سياسات مواجهة تغير المناخ. ولم تنجح الإجراءات الدستورية في تقويض بزوغ ذلك الاتجاه الشعبوي، بل على العكس فقد حل حزب البديل ثانياً بعد الحزب الديمقراطي المسيحي في العديد من استطلاعات الرأي العام بنسب تتراوح بين 19% و23% على المستوى الوطني؛ كما أنه تفوق أيضاً على الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي ينتمي إليه المستشار الاتحادي الألماني الحالي.
وعكست انتخابات البرلمان الإقليمي في ولايتي بافاريا وهيسن في 8 أكتوبر 2023 تغلغل الفكر الشعبوي اليميني في المجتمع الألماني، فقد حقق الشعبويون اليمينيون نتائج جيدة وزيادة كبيرة في الأصوات. وجاء حزب البديل في المركز الثاني في ولاية هيسن (بنسبة أصوات 18.4%، أي زيادة 5.3% عن انتخابات 2018) بعد حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (34.6%)، فيما حل الحزب الاشتراكي الديمقراطي ثالثاً (15.1%)، وانخفضت حصة حزب الخُضر إلى 14.8%، وتقلص نصيب الحزب الديمقراطي الحر إلى 5%.
وفي بافاريا حل حزب البديل ثالثاً (14.6%، أي بزيادة 4.4% عن انتخابات 2018) بعد كل من حزب الاتحاد المسيحي (37%، وهي نتيجة سيئة نظراً لتاريخ ومكانة هذا الحزب)، والناخبون الأحرار (15.8%)؛ بينما انخفض نصيب حزب الخُضر إلى أقل من 14.4%، وفاز الحزب الاشتراكي الديمقراطي بنسبة 8.4%.
وتزداد شعبية الأحزاب الشعبوية في الآونة الأخيرة في ولايات شرق ألمانيا (ساكسونيا وتورينغن وبراندنبورغ)، وهو ما قد ينعكس على الانتخابات التي ستجرى في ساكسونيا وتورينغن وبراندنبورغ، في سبتمبر 2024. وبصفة عامة يحتل حزب “البديل لألمانيا” المرتبة الأولى، بفارق واضح في بعض الأحيان، عن جميع الأحزاب الأخرى في تلك المناطق. ويمكن تشكيل حكومات إقليمية من دون مشاركة هذا الحزب إذا تشكل تحالف كبير من جميع الأحزاب الأخرى.
وفي السياق ذاته ألقت التحديات الإقليمية والعالمية بظلالها على ألمانيا، ومن أبرزها أزمة اليورو (2010 وما بعدها)، وأزمة الهجرة (2015 وما بعدها)، وجائحة “كورونا” (2020-2021)، وحرب أوكرانيا (2022)، والازدياد التدريجي لأزمة المناخ. وزادت هذه التحديات الوضع السياسي والاقتصادي حرجاً في البلاد، وشككت في مستقبل السياسات الديمقراطية للحكومة.
تشظٍ تدريجي
اعتبر التقرير أن التشظي الحزبي في ألمانيا تأخر نسبياً مقارنة بباقي أوروبا، بيد أنه قسَّم الحراك الحزبي في هذا البلد إلى ثلاث مراحل أساسية، أولاها بدأت في الثمانينيات مع ظهور حزب الخُضر إثر حركات الاحتجاج المطالبة بالحفاظ على البيئة من تلوث الصناعة ومناهضة استخدام الطاقة النووية؛ وثانيها بزوغ نجم الحزب الاشتراكي الديمقراطي بعد الوحدة الألمانية، الذي يُعد خلَفاً للحزب الشيوعي الألماني الشرقي. وشهد هذا الحزب عملية دمج مع حزب العمل والعدالة الاجتماعية عام 2005، لينبثق عنهما حزب اليسار؛ وثالثها ظهور حزب البديل لألمانيا عام 2014 في أعقاب أزمتي اليورو والهجرة. واحتل ذلك الحزب مكانة مهمة في البرلمان، حيث شكل ثالث أكبر كتلة حزبية برلمانية بعد الليبراليين وحزبي اليسار والخضر عام 2017، بينما كان خامس أكبر كتلة حزبية عام 2021.
ويتسم النظام الحزبي الألماني حالياً بالتمثيل النسبي، أي ما يعرف بمبدأ التناسب بين الأصوات والمقاعد لتحقيق أكبر قدر من الاستقرار السياسي، إذ يشترط ذلك المبدأ حصول الحزب على 5% كحد أدني من أصوات الناخبين، لتتسنى له المشاركة في البرلمان. وبالتالي بات هذا النظام يتألف من 5 إلى 6 أحزاب رئيسية، بينما كان يعتمد سابقاً على كل من الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي والليبراليين، الأمر الذي كان يسهل نسبياً الحشد الشعبي للانتخابات البرلمانية.
وعززت سمات التشظي السياسي تلك انخفاض الانتماء الحزبي واتساع القاعدة المتاحة من الأحزاب وصعوبة تشكيل الائتلافات، وازدياد التنوع السياسي للحكومات، ومن ثم أصبح الاستقرار السياسي للحكومات أمراً أكثر صعوبة، فلم يعد تحقيق أغلبية برلمانية نتيجة حتمية لتكوين الائتلافات، حتى وإن حدثت بين قطبي الحياة الحزبية: الاشتراكي الديمقراطي والديمقراطي المسيحي.
تفسيرات الشعبوية
مع صعود الأحزاب الشعبوية في دولة ديمقراطية كألمانيا اتجه صناع القرار ومراكز البحث إلى دراسة العوامل المؤثرة في تغير السلوك الانتخابي للأفراد، مثل العمر، التعليم، الديانة، مكان الإقامة، العمل، الدخل، الوضع الوظيفي، الاعتماد على المساعدات الاجتماعية، نسبة الأجانب أو المهاجرين في المنطقة، المواقف السياسية، كالميول الاستبدادية والعداء للأجانب وغيرها.
وأرجعت بعض الأبحاث الإمبريقية التغير في السلوك الانتخابي إلى أسباب اقتصادية، إذ تعاني الفئة الداعمة للأحزاب الشعبوية، كحزب البديل، من البطالة أو العمل في وظيفة غير ثابتة؛ من ثم تشعر بالتهميش ومناهضة العولمة لتضررها منها على نحو مباشر. على العكس، ذهبت أبحاث أخرى إلى عدم وجود فروق كبيرة بين نسب دعم حزب البديل في المناطق الغنية والفقيرة في ألمانيا، ودللت على ذلك بنسب التصويت التي حصل عليها الحزب في بافاريا وهيسن، واعتبرت أن اقتصاد ألمانيا لم يتأثر بشكل سلبي من العولمة، وإنما منحته الأخيرة فرصاً للازدهار العالمي.
واعتبرت الدراسات أيضاً أن نسب انتخاب حزب البديل تزداد طردياً كلما كان الناخب ذكراً وحاصلاً على مؤهل عالٍ ويتمتع بمستوى عالٍ من الدخل، وذلك من خلال استقراء نتائج انتخابات عامي 2017 و2021. من هنا فثمة عوامل مختلفة ومتضافرة تدفع الفئات المختلفة لاختيار الأحزاب الشعبوية، إذ لا يمكن حصرها في العامل الاقتصادي، بل هنالك عوامل اجتماعية وسمات شخصية متداخلة.
تمدد أوروبي
يشير التقرير إلى أن صعود الأحزاب الشعبوية يُعبر عن اتجاه سائد في أوروبا، بدأ بالأساس قبل نشوء تلك الظاهرة في ألمانيا، وذلك لعوامل متداخلة منها: الحفاظ على الحدود القومية، الاعتزاز بالهوية، تقليل الآثار السلبية المترتبة على العولمة التي تؤدي إلى الاغتراب السياسي والثقافي لمن يرفضها، وتسهم بشكل أسرع في انتقال الأزمات الاقتصادية بين الدول المختلفة، مثل أزمة اليورو عام 2010.
ويعتقد البعض أن العولمة ما هي إلا وسيلة لزيادة ثراء الدول الغنية والعكس صحيح. وبالتالي تبخرت الوعود بزيادة الرفاهية للجميع عن طريق تبادل البضائع ورأس المال في سوق كبير يهدف إلى تحقيق الصالح العام. ففي فرنسا تجلت مناهضة العولمة ودعم الأحزاب اليمينية واليسارية عبر بروز حركة السترات الصفراء، بينما أثرت الشعبوية في ظاهرة “البريكست” في بريطانيا، التي استهدفت استعادة السيطرة القومية، حتى وإن كان الثمن الاقتصادي غالياً.
ويعني ذلك أن الشعبوية ليست مقتصرة على ألمانيا وإنما تتمدد في أوروبا منذ فترة من الزمن. وعليه، يشير تقرير المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية إلى أن هنالك تكهنات عديدة بأن المعارضين الشعبويين اليمينيين واليساريين قد يحصلون على عدد كبير من المقاعد في البرلمان الأوروبي عام 2024، بينما ستتراجع حظوظ أحزاب الوسط التي حظيت بمكانة كبيرة في الماضي.