شهدت الفترة الأخيرة اهتماماً مغربياً ملحوظاً بمنطقة الساحل والصحراء، وذلك في إطار تبني المملكة المغربية سياسة خارجية تهدف إلى تعزيز دورها في القارة الإفريقية بصفة عامة، ومنطقة الساحل والصحراء بصفة خاصة، ومن المُؤشرات الدالة على ذلك دعوة المغرب لوزراء خارجية دول منطقة الساحل والصحراء (مالي– تشاد– النيجر– بوركينا فاسو) في 23 ديسمبر 2023، وتنظيم اجتماع وزاري رفيع المستوى بمشاركة وزراء خارجية هذه الدول الأربع ووزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المُقيمين بالخارج ناصر بوريطة، وذلك من أجل البحث في فرص التعاون والتنسيق المُشترك بشأن المُبادرة الدولية التي طرحها العاهل المغربي الملك محمد السادس لتسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي.
جاء انعقاد هذا الاجتماع بمشاركة وزراء خارجية الدول المذكورة لمناقشة المبادرة التي طرحها العاهل المغربي في خطابه الملكي بمناسبة الذكرى الثامنة والأربعين للمسيرة الخضراء في شهر نوفمبر 2023، وتضمن الخطاب الإشارة إلى الصعوبات التي تواجه دول الساحل والصحراء في تحقيق الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية، وأن تحقيق ذلك لن يحدث بالاعتماد فقط على المقاربات الأمنية والعسكرية، وإنما بالاعتماد على مُقاربة تقوم على التعاون والتنمية المُشتركة، وكان في ذلك مؤشر مهم على الاهتمام المغربي بتعزيز العلاقات مع دول الساحل والصحراء، ومن ثم توجيه الحكومة المغربية للبدء في تنفيذ ذلك الأمر.
تعزيز التعاون الإقليمي:
أسفر الاجتماع الوزاري بالمغرب على اتفاق وزراء خارجية الدول المشاركة على "إنشاء فريق عمل وطني في كل بلد من أجل إعداد واقتراح أنماط تنفيذ هذه المُبادرة، على أن يتم عرض هذه المقترحات لاحقاً على قادة الدول الخمس (المغرب– تشاد– مالي– النيجر– بوركينا فاسو)، وفي هذا السياق تمكن الإشارة إلى مجموعة من الأهداف المهمة التي تسعى المبادرة لتحقيقها، ومن أبرزها ما يلي:
1. إقامة شراكات استراتيجية: تهدف المبادرة بشكل رئيسي إلى إقامة علاقات شراكة استراتيجية بين المغرب ودول الساحل والصحراء، وذلك بغرض تعزيز الاندماج والتعاون الإقليمييْن، في ظل وجود قناعة لدى صانعي ومتخذي القرار السياسي داخل المغرب بأهمية التقارب الاستراتيجي مع هذه الدول التي تمثل فرصة واعدة أمام المغرب لتعزيز دورها على الصعيد الإفريقي، وهو ما سينعكس إيجاباً على مستقبل العلاقات المغربية الإفريقية على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية، وهو ما عكسته تصريحات وزير خارجية مالي خلال الاجتماع الوزاري بالمغرب والتي أشار فيها إلى الدور الحيوي الذي تؤديه المبادرة المغربية.
2. تعزيز العلاقات الاقتصادية: تهدف المبادرة بشكل واضح إلى تعظيم المكاسب الاقتصادية لكل من المغرب ودول الساحل والصحراء وفقاً لمبدأ "الكل رابح"، فمن جهة أولى تسعى المغرب لضخ بعض استثماراتها في عدد من المجالات الاقتصادية المهمة في تلك الدول، وفي المقابل من شأن هذه المبادرة أن تسهم في تطوير الشراكة الاقتصادية بين الطرفين، وهو ما يُسهم في مساعدة دول الساحل والصحراء (مالي– النيجر– تشاد– بوركينا فاسو) على إعادة هيكلة اقتصاداتها، وبما في ذلك إقامة مشروعات تنموية تُسهم في تحسين أوضاعها الاقتصادية المُتردية، والتي كانت سبباً رئيسياً وراء انقلاب السلطات الانتقالية الحالية في تلك الدول على السلطات السابقة، إذ تعاني السلطات الحالية في دول الساحل والصحراء من أزمات اقتصادية مُتفاقمة، ومن ثم تمثل مُبادرة المغرب فرصة لهذه الدول من أجل تعزيز مُبادلاتها التجارية مع الشركاء الإقليميين والدوليين، وذلك من خلال استخدام البنيات التحتية (الطرق– السكك الحديدية- الموانئ البحرية) المغربية بما يوفر لهذه الدول الحبيسة منافذ بحرية تمكنها من الانخراط في التجارة الدولية، وهو ما سوف يساعدها على تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لشعوبها، إذ سيوفر الحصول على ميناء بحري على المحيط الأطلسي تكلفة التجارة الخارجية لهذه الدول بنسبة تتراوح من 10% إلى 15% وفقاً للتوقعات، بما يعزز التنافسية الاقتصادية لهذه الدول في حال نجاح المبادرة.
3. حماية الأمن القومي للمغرب: ترى المغرب أن التقارب السياسي والاقتصادي مع دول الساحل والصحراء من شأنه أن يحافظ على أمنها القومي ضد أي تهديدات أمنية مُحتملة ناتجة عن سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وغياب الاستقرار السياسي في تلك الدول في مرحلة ما بعد الانقلابات العسكرية، وهي البيئة التي قد تستغلها بعض التنظيمات الإرهابية كالقاعدة وداعش لاستهداف الأمن القومي المغربي في مرحلة لاحقة، وخاصة أن هذه التنظيمات الإرهابية المتمركزة في دول الساحل والصحراء تسعى لتنويع مصادر تمويلها عبر إقامة شبكات لتهريب البشر والمخدرات والسلاح، وكذلك الهجرة غير الشرعية التي تؤرق السلطات المغربية وتؤثر سلباً في علاقاتها بالدول الأوروبية، وبالتالي فإن المبادرة المغربية تهدف إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية داخل دول الساحل والصحراء بغرض تحقيق نوع من الاستقرار النسبي في منطقة الساحل والصحراء، عبر إقامة مشروعات تنموية في المناطق الصحراوية لقطع الطريق على التنظيمات الإرهابية التي تستغل هذه المساحات الشاسعة لتصعيد عملياتها الإرهابية وتهديد الأمن القومي لدول المغرب العربي وشمال إفريقيا.
4. تأييد المقترح المغربي في قضية الصحراء: مما لاشك فيه أن التحركات المغربية الراهنة في منطقة الساحل والصحراء، تهدف في أحد جوانبها أيضاً إلى استمالة مواقف هذه الدول لتأييد المقترح المغربي الخاص بتسوية النزاع القائم حول الصحراء المغربية، فمن شأن توظيف المقاربة الاقتصادية المغربية أن يغير من الموقف المحايد الذي تتبناه دولة مثل مالي تجاه قضية الصحراء، كما لم تقم دولة النيجر بافتتاح قنصلية لها في إقليم الصحراء المغربي حتى الآن رغم تأييدها للموقف المغربي في هذا الشأن، وذلك على عكس كل من بوركينا فاسو وتشاد اللتيْن افتتحتا قنصليتيْن لهما في مدينة الداخلة بإقليم الصحراء المغربية، وما يؤكد ذلك أن المبادرة المغربية لتسهيل وصول هذه الدول للمحيط الأطلسي تتضمن إقامة طرق تربط هذه الدول بميناء "الداخلة" الجديد في إقليم الصحراء المغربية، وهو ما يشير إلى أن تأييد هذه الدول لموقف المغرب الرسمي في قضية الصحراء أحد أهداف هذه المبادرة والتحركات المغربية في منطقة الساحل والصحراء.
دلالات سياسية:
تحمل المُبادرة المغربية بشأن تعزيز التعاون مع دول منطقة الساحل والصحراء وتحديداً تلك التي شهدت انقلابات خلال الأعوام الأخيرة، مجموعة من الدلالات السياسية المهمة، ومن أبرزها ما يلي:
1. تحول استراتيجي: تعكس المبادرة المغربية الخاصة بدخول دول الساحل والصحراء إلى المحيط الأطلسي تحولاً استراتيجيا في توجهات السياسة الخارجية المغربية بشأن تعزيز العلاقات مع دول الساحل والصحراء، وتحديداً تلك الدول التي شهدت انقلابات عسكرية خلال السنوات القليلة الماضية، إذ رأت المغرب أهمية استغلال التغيرات السياسية التي شهدتها تلك الدول لإقامة علاقات استراتيجية على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية، والأمنية أيضاً، وذلك بعد أن كانت المغرب تركز في مُبادراتها السابقة على منطقة الغرب الإفريقي بشكل كبير، كما أن المغرب أصبحت تعتمد على مُقاربات سياسية واقتصادية وأمنية وليست فقط مُقاربة دينية في توجهات سياستها الخارجية تجاه الدول الإفريقية، بما يؤكد تغيراً نوعياً في السياسة الخارجية المغربية تجاه تلك الدول في الوقت الراهن.
2. تعزيز النفوذ: مما لا شك فيه أن مبادرة المغرب تعكس في أحد جوانبها السعي المغربي لتعزيز المكانة والنفوذ في القارة الإفريقية، وذلك بالاعتماد على مُقاربة سياسية واقتصادية تهدف لتحقيق التقارب السياسي والاقتصادي بين المغرب ودول الساحل والصحراء، بما يسهم في تعزيز مكانة المغرب الإقليمية، بعد أن أصبحت المغرب نموذجاً يمكن تقديمه لهذه الدول في تحقيق الاستقرار السياسي من جهة، وتحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة في تلك الدول من جهة أخرى.
3. الخروج من العزلة الدولية: يعكس إقبال دول الساحل والصحراء الأربع، مالي وتشاد والنيجر وبوركينا فاسو على المغرب والتوقيع على اتفاق مُشترك لتنفيذ المُبادرة المغربية لتسهيل وصول هذه الدول للمحيط الأطلسي، رغبة السلطات الانتقالية في تلك الدول في الخروج من العزلة الدولية التي تعاني منها في الوقت الراهن بسبب العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على هذه الدول بسبب الانقلابات العسكرية، وفي حالة تنفيذ هذه المبادرة، فإن ذلك سوف يساعد هذه الدول على التخفيف من تأثير العقوبات الدولية في اقتصاداتها، إذ سيوفر لها الحصول على منفذ بحري، تصدير الثروات المعدنية (الذهب– اليورانيوم...) الهائلة التي تمتلكها إلى الخارج ومن ثم تنويع مصادر الاقتصاد وتحقيق مكاسب مالية هائلة.
4. تقارب مغربي روسي: تعكس هذه المبادرة في أحد جوانبها التقارب المغربي الروسي الحاصل على المستوييْن السياسي والاقتصادي وهو ما ظهر بوضوح على هامش منتدى التعاون الروسي العربي الذي عقد في روسيا في 20 ديسمبر 2023، وسعي المغرب لتوظيف هذا التقارب لضمان نجاح مُبادرتها الخاصة بمساعدة دول الساحل والصحراء التي تحظى بعلاقات قوية أيضاً مع الجانب الروسي، وخاصة في مرحلة ما بعد الانقلابات العسكرية، والتي شهدت تصاعداً كبيراً للنفوذ الروسي هناك، وبالتالي فقد تعوّل المغرب على وجود شريك قوي مثل روسيا يمكن الاعتماد عليه في إنجاح مُبادرتها الساعية لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني في دول الساحل والصحراء، بما يعود بالنفع على كافة الأطراف، وفي نفس الوقت مُساومة الدول الغربية في حالة مُمارستها أي ضغوط لعرقلة تنفيذ هذه المُبادرة في ظل توتر العلاقات الغربية مع تلك الدول.
عقبات قائمة:
في ظل الحديث عن التحركات المغربية الراهنة في منطقة الساحل والصحراء، والحديث عن الطموحات المغربية لتنفيذ مقاربتها الاقتصادية والتنموية لتعزيز دورها ونفوذها في تلك المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية، ورغم توافر الفرص لتحقيق ذلك، فإن هذه التحركات تواجهها بعض العقبات، ومن أهمها ما يلي:
1. غياب الاستقرار الأمني: ما تزال دول منطقة الساحل والصحراء التي شهدت انقلابات عسكرية والمشاركة في المبادرة المغربية وهي: النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو، تعاني من مشكلات أمنية داخلية بسبب تصاعد أنشطة بعض التنظيمات الإرهابية، وكذا أنشطة بعض المليشيات المسلحة، وما لذلك من تداعيات على حالة الاستقرار السياسي والأمني في تلك الدول، الأمر الذي من شأنه التأثير سلباً في مشروعات التنمية الاقتصادية المزمع إقامتها ضمن المبادرة المغربية.
2. إشكالية التمويل: يتطلب وصول دول منطقة الساحل والصحراء إلى المحيط الأطلسي عبر الموانئ البحرية المغربية، توفير تمويل واستثمارات ضخمة لتطوير البنية التحتية في هذه الدول وخاصة فيما يتعلق بتعبيد الطرق وإنشاء السكك الحديدية للربط بين دول الساحل والصحراء والمغرب وصولاً إلى المحيط، خاصة في ظل بعد المسافة بين هذه الدول والمحيط، فدولة مثل تشاد تبعد عن ساحل المحيط الأطلسي بمسافة تزيد عن ثلاثة آلاف كيلومتر، كما تبعد النيجر عن الساحل مسافة تتجاوز 2000 كيلومتر، الأمر الذي يمثل عبئاً اقتصادياً تتطلب تسويته تمويلاً ضخماً، وهو ما يُثير التساؤل عمّا إذا كانت المغرب ستقدم هذا التمويل في ظل ما تعانيه تلك الدول من مشكلات اقتصادية مُتفاقمة.
3. الضغوط الدولية المُحتملة: قد تواجه المغرب بعض الضغوط من قبل الولايات المتحدة والدول الأوروبية بشأن التقارب الحاصل في العلاقات المغربية مع السلطات الانتقالية في دول الساحل والصحراء، وخاصة في ظل توتر العلاقات الغربية مع الأنظمة السياسية الجديدة في تلك الدول بسبب عدم استجابتها للمطالب الخاصة بانتقال السلطة بشكل شرعي وليس بالقوة العسكرية، هذا إلى جانب تبني هذه الأنظمة الجديدة لسياسات عدائية تجاه الغرب وهو ما ظهر بشكل واضح تجاه فرنسا، ففي مطلع شهر ديسمبر 2023، أنهت النيجر الشراكات الأمنية والدفاعية مع الاتحاد الأوروبي، كما ألغت النيجر قانون تجريم تهريب المهاجرين الموقع مع الاتحاد الأوروبي عام 2015، الأمر الذي زاد من حدة التوتر في العلاقات السياسية بين النيجر والدول الغربية، ومن ثم قد يمثل ذلك عائقاً أمام تنفيذ المبادرة المغربية المشار إليها.
وفي التقدير، فإن التحركات المغربية الراهنة في منطقة الساحل والصحراء، تكشف عن تحول نوعي في توجهات السياسة الخارجية المغربية تجاه دول هذه المنطقة، مُستندة في ذلك على مُقاربة اقتصادية تنموية تهدف لتنويع الشراكات عبر التوجه جنوباً من خلال تطوير علاقات التعاون والاندماج الإقليمي وفقاً لمبدأ "الكل رابح"، وهو ما تعوّل عليه المغرب من أجل تمديد وتعزيز النفوذ المغربي في دول الساحل والصحراء من جهة، وفي المقابل مُساعدة تلك الدول على تحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة من جهة أخرى، ومن المُرجح أن يتحقق ذلك على الأجليْن المتوسط والبعيد لحين تحقيق الاستقرار السياسي في تلك الدول التي ما تزال تعاني من تداعيات الانقلابات العسكرية حتى الآن.