تحظى منطقة القرن الأفريقي بأهمية استراتيجية للوطن العربي، وفي قلبه دول الخليج، حيث تعد هذه المنطقة بمنزلة "جناح العالم العربي الإسلامي" في أفريقيا، فضلاً عن موقعها الجيواستراتيجي، فهي تشمل من الناحية الجغرافية كلاً من إثيوبيا والصومال وجيبوتي وإريتريا، ويوسع بعض الجغرافيين رقعة القرن الأفريقي لتضم أيضاً كينيا والسودان وأوغندا.
ويؤكد العمق الاستراتيجي الذي تشكله هذه المنطقة للأمن القومي للدول العربية عموماً ودول الخليج خصوصاً، أن ثمة جهوداً إضافية مطلوبة لوضع هذه المنطقة بشكل أكبر ضمن دائرة التفاعل والتأثير والاهتمام العربي، لاسيما أنها ساحة لمطامع العديد من القوى الإقليمية والدولية.
ولعل التحديات الأمنية في القرن الأفريقي ومحيطه، تعيد طرح مسألة الوضع الأمني في هذه المنطقة كجزء لا يتجزأ من الأمن الخليجي، وذلك في ظل الصراعات الناشبة بين بعض دول القرن الأفريقي مع بعضها البعض، وما يترتب عليها من مشكلات اللاجئين والنازحين، ناهيك عن المخاطر الناتجة عن ظاهرة القرصنة في البحر الأحمر.
أولاً: بواعث الاهتمام بمنطقة القرن الأفريقي
ثمة دوافع عديدة تدفع دول مجلس التعاون الخليجي وغيرها من البلدان العربية إلى إعطاء مزيد من الاهتمام لمنطقة القرن الأفريقي، وتدور في مجملها حول بعدين أساسيين:
1 ـ البعد الجيوسياسي، إذ يكتسب القرن الأفريقي أهمية حيوية جغرافياً، لأن دوله تطل على المحيط الهندي من ناحية، وتتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر حيث مضيق باب المندب من ناحية ثانية؛ ومن ثم فإن منطقة القرن الأفريقي تتحكم في طريق التجارة العالمي، خاصةً تجارة النفط القادمة من دول الخليج والمتوجهة إلى أوروبا والولايات المتحدة، كما أنها تعد كذلك ممراً مهماً لأي تحركات عسكرية قادمة من الغرب في اتجاه منطقة الشرق الأوسط. وتُعزى أهمية هذه المنطقة جغرافياً أيضاً إلى كونها تقع داخل الإقليم الذي أضحى يعرف باسم "قوس الأزمة"، والذي يضم القرن الأفريقي وشبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج.
2 ـ البعد الاقتصادي، يعد ملمحاً آخر لأهمية القرن الأفريقي بالنسبة لدول الخليج وبعض القوى الإقليمية والدولية، ومرد ذلك أن دول القرن الأفريقي غنية بالثروات الطبيعية والمعدنية، سواءً النفط أو الذهب أو اليورانيوم أو الغاز الطبيعي. وتمتلك المنطقة ثروة مائية هائلة تجعلها أحد أكبر مخازن المياه في العالم، وبما قد يكفي لسد حاجات الدول الخليجية من المياه. ويضم القرن الأفريقي كذلك ثروة حيوانية هائلة، إذ يكفي القول إن أعداد الثروة الحيوانية في كل من السودان وإثيوبيا والصومال تفوق ربع مليار رأس، وهو ما يمكن الاستفادة منه في تحقيق الأمن الغذائي الخليجي.
ثانياً: أسباب ارتباط القرن الأفريقي بأمن الخليج؟
ومن منظور الأمن القومي يتضح أن منطقة الصراع في القرن الأفريقي تعد على جانب كبير من الأهمية نظراً إلى ارتباطها المباشر بأمن دول مجلس التعاون الخليجي، ومن ثم فإن التغيرات التي تشهدها تلك المنطقة ينبغي التعامل معها بقدر كبير من الجدية والحذر في ضوء مجموعة من الاعتبارات التي تعد بمنزلة محددات تؤثر في منظومة الأمن القومي الخليجي، من أبرزها:
1 ـ قرب القرن الأفريقي من مصادر النفط في الخليج العربي، وهو ما دفع الولايات المتحدة والقوى الغربية إلى محاولة الدفاع عن هذه المصادر وتأمين الوصول إليها. ولعل من أبرز الأدوات التي استخدمت في ذلك إقامة القواعد العسكرية (مثل أفريكوم) وتبادل المعلومات الاستخباراتيه مع دول المنطقة.
2 ـ تهديدات تنظيم القاعدة، ففي ظل ما يعانيه التنظيم من حصار في آسيا الوسطى، قرر أن يهدد الولايات المتحدة وأوروبا في منطقة "قوس الأزمة" بما تمثله من أهمية استراتيجية، إذ أصبحت هذه المنطقة واحدة من أبرز مناطق النشاط المكثف لتنظيم القاعدة، خاصةً بعد بروز القوى الإسلامية في العديد من دول القرن الأفريقي. ويمكن التدليل على ذلك بأنه في فبراير 2012 أعلنت حركة الشباب الصومالية التي تسيطر على أجزاء كبيرة من البلاد انضمامها إلى تنظيم القاعدة، وليس بخافٍ على أحد أن وجود دولتين مثل الصومال واليمن جنباً الى جنب، ونشاط "القاعدة" فيهما، يقعان في قلب المخاوف الأمنية المتصاعدة حول المخاطر الإقليمية المحتشدة.
3 ـ التنافس الإقليمي (الإيراني – الإسرائيلي) على منطقة القرن الأفريقي، وهو ما يمثل مدعاة لقلق الحكومات العربية والخليجية؛ فالتكالب بين تل أبيب وطهران من أجل تأمين الملاحة في البحر الأحمر، وتأمين صادرات السلاح، وضمان مورد دائم للمواد الخام التي تحتاجها الصناعات الإسرائيلية والإيرانية.. كل ذلك جعل هذه المنطقة مسرحاً استراتيجياً حيوياً لهاتين الدولتين في إدارة صراعهما وعلاقاتهما مع الدول العربية، وهو ما ينعكس سلباً على الوضع الأمني في كل المناطق المحيطة بالقرن الأفريقي ومنها الخليج العربي، وينال من أسس ودعائم أمنها القومي.
4 ـ انتشار ظاهرة القرصنة البحرية في القرن الأفريقي، وعدم وجود استراتيجية عربية للتعامل مع هذه الظاهرة، مما يفتح المجال أمام القوى الدولية للوجود العسكري في هذه المنطقة؛ إذ يمكن القول بعبارة أخرى إن ظاهرة القرصنة تقدم فرصة هائلة لهذه القوى الكبرى للتوغل في القرن الأفريقي، بل ربما تنتظر هذه القوى مرحلة أعلى من مظاهر نمو القرصنة بما يتيح لها مزيداً من التدخل لإجراء الترتيب الاستراتيجي الذي تريده في هذه المنطقة، مما يهدد الأمن القومي العربي، خاصةً الدول المطلة على البحر الأحمر.
5 ـ مخاطر استمرار تدفق اللاجئين والهجرة غير الشرعية من القرن الأفريقي خلال السنوات الأخيرة إلى اليمن، بما يجعلها نقطة عبور إلى دول الخليج العربية، وبحسب الإحصائيات والتقارير الرسمية، فإن اليمن تحتضن ما بين 700 ألف إلى مليون لاجئ، وشهد عام 2014 منذ بدايته وحتى نهاية شهر مارس فقط دخول نحو 8 آلاف لاجئ من دول القرن الأفريقي إلى اليمن. وجدير بالذكر أن بقاء المشاكل والنزاعات السياسية وما يرافقها من أعمال العنف في القرن الأفريقي، فضلاً عن حالة العوز الاقتصادي، بالإضافة إلى وجود الصمت السياسي الإقليمي والدولي، وعدم وضع الحلول لتلك الأزمات، يعتبر العامل الأساسي لاستمرار ظاهرة الهجرة غير القانونية إلى السواحل اليمنية، كونها الأقرب إلى نظيرتها الصومالية.
ثالثاً: نحو دور خليجي أكثر فاعلية في القرن الأفريقي
إن مفتاح الحديث عن دور أكثر فاعلية للدول العربية عموماً ودول مجلس التعاون الخليجي خصوصاً في منطقة القرن الأفريقي، يبدأ من إرساء سياسة ركيزتها الأساسية ضرورة عدم التعامل مع قضايا الاستقرار والأمن والتنمية الاقتصادية في القرن الأفريقي بشكل هامشي، وأن تكون هناك قناعة تامة تُترجم على أرض الواقع بأن حل هذه القضايا يرتبط بشكل مصيري بالأمن القومي العربي بسبب تدخل القوى الكبرى، سواء الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو الصين، في هذه المنطقة، علاوة على التغلغل الإسرائيلي والإيراني فيها، حيث تنظر هذه القوى إلى أفريقيا على أنها قارة تمثل فرصاً اقتصادية واستثمارية كبيرة.
وعليه، فإن تدعيم الأمن القومي الخليجي يتطلب الاعتماد على عدد من الركائز الموضوعية في العلاقات مع منطقة القرن الأفريقي، من بينها:
1 ـ المساهمة في محاربة الفكر المتطرف في القرن الأفريقي، من خلال العمل على تعزيز السلام والاستقرار، وكذلك القيام بدور بارز وفعال في سبيل حل مشكلة الدولة الصومالية، وتسوية خلافات الحدود بين دول القرن، خاصةً بين إثيوبيا وإرتيريا، وجيبوتي وإرتيريا، وإثيوبيا والصومال، وشمال السودان وجنوبه.
2 ـ تدشين آلية حوار استراتيجي خليجي – أفريقي، هدفها تأسيس مرحلة جديدة قائمة على شراكة حقيقية، قوامها المصالح الاستراتيجية المشتركة والقضايا ذات الحساسية لكل من دول الخليج والقرن الأفريقي، ومواجهة واقع التهميش والفقر الذي يعانيه الأفارقة، ووضع أساس التنمية المستدامة، مع التوسع في إقامة الاستثمارات والمشروعات الاقتصادية المشتركة ليحل محل أسلوب المنح والهبات المالية ذات الطابع التقليدي، حيث إن أثر هذه المشروعات أكبر في تعميق الصلة الحقيقية بين العرب والأفارقة.
3 ـ الاهتمام بمنظومة الأمن في البحر الأحمر على اعتبار أنه ممر التفاعل الرئيسي بين دول الخليج والقرن الأفريقي. ويقتضي هذا الأمر تعاون الحكومات الخليجية مع الدول المطلة على البحر الأحمر، وتبادل المعومات معها، وتنسيق القيام بمهمات مشتركة لتحسين بيئة الأمن، ومكافحة القرصنة، وضمان سلامة الملاحة في هذا الممر المائي المهم، وبما يساهم في دعم علاقات الجوار مع القرن الأفريقي.
وفي هذا السياق طرح البعض فكرة مؤداها إقامة "دول مجلس التعاون في البحر الأحمر"، وهو بمنزلة تجمع للدول العربية المطلة على البحر الأحمر في مجلس تعاون على غرار مجلس التعاون الخليجي، وهذا التجمع سيؤدي إلى تقليص النفوذ غير العربي في البحر الأحمر، كما أنه سوف يشكل مدخلاً واسعاً لصادرات الخليج إلى الدول الأفريقية، ناهيك عن مساهمته في قيام قوة عسكرية مشتركة تحمي مصالح دول البحر الأحمر.
4 ـ تقديم دول مجلس التعاون الخليجي الدعم اللازم لليمن في مواجهة ظاهرة اللجوء والهجرة غير الشرعية من دول القرن الأفريقي إليها، وإدراك مخاطر هذه الهجرة غير النظامية على الدول الخليجية، وتعزيز التعاون الإقليمي وجمع وتبادل المعلومات الخاصة بهؤلاء اللاجئين والمهاجرين.
ويتعين في السياق ذاته على الدول الخليجية تعزيز دعمها لليمن في مواجهة التحديات الأمنية والسياسية، وتعزيز الخطوة التي أعلن عنها الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، عبداللطيف الزياني، في ختام اجتماع الدورة الـ 131 للمجلس الوزاري لمجلس التعاون في يونيو الماضي بتعيين المجلس مبعوثاً له في اليمن، وذلك من دافع حرص دول الخليج على تحقيق الأمن والاستقرار للشعب اليمني.
أخيراً، يمكن القول إن الأمن الإقليمي لدول الخليج العربية في القرن الأفريقي وتأمين المجرى التجاري للنفط والبضائع، يتوقف على مدى استمرار الأوضاع الفوضوية على حالها في القرن الأفريقي.. وفي هذا الصدد فإن استشراف مستقبل الخريطة الجيواستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي يعتمد بدوره على جملة من العوامل المؤثرة في بيئة الصراعات التي تموج بها، ومنها التنافس الإقليمي والدولي على الثروة والنفوذ في هذه المنطقة، مما يساهم في إضفاء مزيد من التعقيد والتشابك على مجمل الصراعات هناك، ولا يمكن أيضاً إغفال انعكاسات ظهور النفط في كثير من دول القرن الأفريقي، وما يعنيه ذلك من إضافة بُعد جديد لطبيعة التوترات القائمة.