عرض: هند سمير
تصاعدت أهمية قطاع أشباه الموصلات في الصراعات الجيوسياسية بين الدول، خاصة واشنطن وبكين، نظراً لكونه مُدخلاً أساسياً لمراكز البيانات والهواتف الذكية، والسيارات، والبنية التحتية الحيوية، والأنظمة العسكرية، وغيرها. لذا وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال افتتاح مصنع لأشباه الموصلات في سبتمبر 2022، مسألة تصنيع الرقائق الإلكترونية أو أشباه الموصلات بأنّها "أمن قومي"، كما وقّع بايدن قانون Chips and Science، والذي يمنح مساعدات بقيمة 52 مليار دولار من أجل تطوير قطاع إنتاج أشباه الموصلات.
في هذا الإطار، يناقش جريجوري سي ألين وآخرون في تقرير بعنوان "عالم ما بعد 7 أكتوبر.. وجهات نظر دولية حول أشباه الموصلات والجغرافيا السياسية"، والصادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في سبتمبر 2023، تأثير الضوابط التي أعلنتها الولايات المتحدة في السابع من أكتوبر 2022 لتصدير أشباه الموصلات للصين في وجهات نظر حلفاء واشنطن، مع تحديد مدى ارتداد سياسة الاحتواء الأمريكي لبكين عليها.
كانت واشنطن قد فرضت ضوابط التصدير المصممة لخنق قدرة الصين على الوصول إلى مستقبل قدرات الذكاء الاصطناعي العسكري من خلال تقييد الصادرات الأمريكية من تكنولوجيا أشباه الموصلات المتقدمة، وعليه يمثل السابع من أكتوبر نقطة تحول لصناعة أشباه الموصلات العالمية، والبلدان التي تقع في قلب سلاسل القيمة لأشباه الموصلات. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قوة رائدة في صناعة أشباه الموصلات العالمية، فإن حلفاءها الآخرين يؤدون أدواراً شديدة الأهمية، خاصة اليابان وهولندا وتايوان وكوريا الجنوبية وألمانيا، وإذا قامت هذه الدول بسد الفجوات التي خلفتها ضوابط السابع من أكتوبر، إزاء السوق الصينية، فمن المرجح أن تأتي السياسة الأمريكية بنتائج عكسية.
كوريا الجنوبية.. نهج متوازن
تحتل كوريا الجنوبية المرتبة الثانية في إنتاج أشباه الموصلات عالمياً، والأولى في إنتاج رقائق الذاكرة، إذ تقود صناعة أشباه الموصلات الاقتصاد الوطني في مجالات مختلفة مثل الصادرات والاستثمار. وبشكل عام، تتخذ كوريا الجنوبية موقفاً داعماً فيما يتعلق بنهج الولايات المتحدة تجاه صناعة أشباه الموصلات في الصين، والتي يمكن تحويلها إلى استخدام عسكري. لذلك، تنضم سيول إلى مساعي واشنطن لتقييد نقل تكنولوجيا أشباه الموصلات إلى البلدان المثيرة للقلق.
مع ذلك، فإن تصور التهديدات التي يتعرض لها الأمن الاقتصادي يختلف من بلد إلى آخر، خاصة في حالة صناعة أشباه الموصلات. في هذا الصدد، من المحتم أن يكون لدى الولايات المتحدة، بقوتها في التصميم والمعدات، وكوريا الجنوبية، بقوتها في التصنيع، وجهات نظر مختلفة بشأن إدارة مخاطر أشباه الموصلات.
فعلى المدى القصير، يعتقد رجال الصناعة وصناع السياسات في كوريا الجنوبية أن سياسات مراقبة الصادرات الأمريكية ستؤخر صعود قدرات أشباه الموصلات الصينية. مع ذلك، يرون أن الشركات ستعاني جراء ذلك على المديين المتوسط والطويل. ورغم تشارك سيول وواشنطن في الأهداف السياسية ذاتها، فمن المهم بالنسبة لكوريا الجنوبية أن تأخذ في الاعتبار استراتيجية الصين، لأنها معرضة بشكل مباشر للمنافسة الصينية في سوق رقائق الذاكرة.
إذ ستواصل الصين اتباع استراتيجية استبدال الواردات وستستخدم المنتجات المحلية بشكل استراتيجي إذا لم تكن الفجوة التكنولوجية بين المنتجات الأجنبية والمحلية كبيرة. بالتالي تحتاج كوريا الجنوبية إلى توسيع الفجوة التكنولوجية إلى الحد الذي يجعل الصين غير قادرة على استبدال وارداتها بأشباه الموصلات المحلية. وهذا بالضبط هو الهدف نفسه الذي حددته استراتيجية الولايات المتحدة تجاه الصين.
إلا أن الكوريين الجنوبيين أكثر قلقاً بشأن خسارة سوق ضخمة مثل الصين، والتي تجلب تدفقاً نقدياً ثابتاً يُعد ضرورياً للبحث والتطوير في صناعة أشباه الموصلات، إذ يرون أن هناك حاجة إلى نهج متوازن لكي تنجح الولايات المتحدة في سياستها تجاه الصين، إذ يكمن جوهره في توسيع الفجوة التكنولوجية في اتجاهين هما: تقييد القدرات الصينية، وتطوير التكنولوجيات المتقدمة.
ألمانيا.. أثر محدود
تشهد السياسة الخارجية الألمانية تغيراً هائلاً نتيجة لحرب روسيا ضد أوكرانيا وصعود الصين، إذ تعمل على إعادة تشكيل سياساتها الأمنية والاقتصادية نحو إزالة المخاطر عن علاقاتها مع الدول الاستبدادية والترابط مع حلفائها الديمقراطيين. وبما أن صناعة أشباه الموصلات في البلاد لم تتأثر إلا بالكاد بضوابط التصدير التي فرضتها الولايات المتحدة في السابع من أكتوبر، فإن هذه التدابير لم تُثر سوى القليل من النقاش في ألمانيا. مع ذلك، أصبحت ضوابط التصدير الألمانية في مواجهة الصين أكثر تقييداً بالفعل في السنوات الأخيرة.
لقد كان تأثير ضوابط السابع من أكتوبر على صناعة أشباه الموصلات في ألمانيا محدوداً إلى حدٍ ما، ويرجع ذلك في الأساس إلى عدم إنتاج موردي أشباه الموصلات الألمان معالجات عالية الأداء، ولا مسرعات الذكاء الاصطناعي التي تأثرت بالضوابط الأمريكية؛ كما أن احتمال التأثير في موردي المعدات والمكونات الألمانية كان محدوداً للغاية. ولأن معظم موردي تكنولوجيا أشباه الموصلات في ألمانيا لم يتأثروا بشكلٍ مباشر أو جوهري بالضوابط الأمريكية والتدابير اللاحقة والتكميلية التي اتخذتها هولندا واليابان، فإن ردود الفعل العامة من صناع السياسات والشركات والجمعيات الصناعية وكذلك مؤسسات الفكر والرأي كانت معدومة تقريباً.
اليابان.. خسائر التصدير
تراجعت صناعة أشباه الموصلات في اليابان في العقود الأخيرة، إذ لا تمتلك حالياً سوى 10% من حصة السوق العالمية. لذلك، اتخذت الحكومة خطوات كبيرة في عام 2021 لتنشيط تلك الصناعة، إلا أن هذه المسألة لم تتم مناقشتها بالتزامن مع المخاوف الأمنية، وعلى وجه التحديد صعود المؤسسة العسكرية الصينية.
وكان تشديد القيود الأمريكية على صادرات أشباه الموصلات إلى الصين في أكتوبر 2022 بمثابة مفاجأة كبيرة لليابان، خاصة أن الولايات المتحدة قد أجرت تغييراً كاملاً في نهجها تجاه ضوابط التصدير باستخدام نظام مراقبة الصادرات للضغط على دول معينة بدلاً من التركيز على الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل. وكان هناك قلق من أن اليابان ستحتاج إلى تغيير التزامها الطويل الأمد بعدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، وعلاوة على ذلك، فإن ذلك قد يخلق وضعاً يُحتم على اليابان أن تبدأ تنظر في استخدام ضوابط التصدير لأغراض استراتيجية في المستقبل.
ولم يُنظر بالضرورة في اليابان إلى تعزيز ضوابط التصدير الأمريكية ضد الصين على أنه نتيجة مرغوبة، إذ يعتقد اليابانيون أن هذا الضغط الاقتصادي قد لا يكون له تأثير محدود فحسب، بل قد يحسن قدرات البلدان الأخرى في قطاع أشباه الموصلات في مواجهة اليابان. إلا أن اليابان قبلت التدابير على افتراض أنه لا توجد مصانع في اليابان لأشباه الموصلات المتقدمة وبالتالي لن تتأثر.
مع ذلك، فإن الافتراض بأن اليابان لن تتأثر كان ساذجاً، إذ بدأت الصناعة الأمريكية بسرعة في انتقاد الشركات المصنعة لمعدات أشباه الموصلات اليابانية والهولندية، والتي لا تخضع لقيود إعادة التصدير. إذ تقوم الشركات اليابانية مثل: "طوكيو إلكترون" وغيرها من الشركات المصنعة لمعدات أشباه الموصلات بتصنيع المعدات باستخدام التكنولوجيا الخاصة بها بدلاً من الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية، وإذا تم تصدير هذه الأجهزة إلى الصين وطوّرت قدرات تصميمية أفضل، فستكون قادرة على صنع أشباه موصلات متقدمة حتى لو توقفت الولايات المتحدة عن تصدير التصميمات والبرمجيات.
ودفع هذا الولايات المتحدة إلى حث اليابان وهولندا على عدم تصدير معدات تصنيع أشباه الموصلات إلى الصين. وبالرغم من أن هاتين الدولتان حليفتان للولايات المتحدة، ولا ترغبان في أن تعمل الصين على زيادة قدراتها العسكرية من خلال الحصول على أشباه الموصلات المتقدمة. فإن سوق أشباه الموصلات في الصين هي الأسرع نمواً في العالم، وستكون خسارتها بمثابة ضربة كبيرة للشركات اليابانية والهولندية.
نتيجة لذلك، اتفقت اليابان والولايات المتحدة وهولندا على تعزيز ضوابط التصدير، وقررت اليابان إضافة 23 بنداً جديداً، بما في ذلك معدات تصنيع أشباه الموصلات، إلى قائمة العناصر الخاضعة لضوابط التصدير. لكن على النقيض من الولايات المتحدة، كانت هناك صعوبات قانونية في إنشاء نظام مراقبة الصادرات مع القدرة على استهداف بلدان معينة لأغراض الأمن القومي، إذ إن نظام مراقبة الصادرات مصمم لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل. لذلك، من المرجح أن تتطلب العناصر المضافة حديثاً ترخيص تصدير لجميع الوجهات، مع اتخاذ تدابير معينة، مثل عدم إصدار تراخيص للصين، على أساس تشغيلي.
هولندا.. قيود غير شاملة
كان رد الفعل الهولندي على ضوابط السابع من أكتوبر، جزءاً لا يتجزأ من التدهور المتزايد للعلاقات الهولندية مع الصين، وعدة سنوات من الدبلوماسية الأمريكية الهولندية المكثفة حول سياسات تصدير أشباه الموصلات، فضلاً عن طموح هولندا للحفاظ على مكانتها الفريدة في سلسلة القيمة العالمية لأشباه الموصلات.
لقد تم تطوير ضوابط تصدير أشباه الموصلات الهولندية رداً على الإجراءات الأمريكية، جنباً إلى جنب مع الجهود الدبلوماسية التي بذلتها واشنطن لإقناع هولندا بتشديد نهجها تجاه صادرات أشباه الموصلات عالية التقنية. وطورت هولندا نظاماً للرقابة على الصادرات يعالج مخاوف الولايات المتحدة بشأن صادرات التكنولوجيا الفائقة إلى الصين، ولكن يتناسب مع السياق السياسي والتنظيمي الهولندي والأوروبي. والذي كانت إحدى خصائصه أن أمستردام لن توافق على فرض قيود شاملة، ولكنها ستتبع نهجاً محايداً لكل حالة على حدة، مع تجنب استهداف الصين.
ورغم أن المزاج السائد في هولندا يتحول نحو اتخاذ موقف أكثر صرامة ضد طموحات الصين الصناعية والتكنولوجية الحازمة، فإنه لا ينظر إلى "التحدي الصيني" بنفس الطريقة التي تنظر بها الولايات المتحدة. كما تهدف هولندا إلى السير على خط رفيع بين الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية مع الصين قدر الإمكان مع الحفاظ على علاقتها الاقتصادية والأمنية العميقة مع واشنطن.
تايوان.. توافقات وتحديات
مع تصاعد الحرب التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين بشكل مكثف، أصبحت شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات (TSMC)، التي تنتج أكثر من 90% من الرقائق المتقدمة في العالم، نقطة محورية استراتيجية في الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين. فمن ناحية تُعد الصين أكبر سوق لأشباه الموصلات على مستوى العالم، ومن ناحية أخرى تهيمن الولايات المتحدة على تكنولوجيا ومعدات ومواد أشباه الموصلات المهمة، كما أن تأثيرها السياسي الدولي يتجاوز بكثير تأثير الصين. ومن ثمَّ فإن إيجاد توازن في الحرب التكنولوجية بين البلدين سيكون قضية حاسمة يتعين على الشركات التايوانية معالجتها.
وتطورت صناعة أشباه الموصلات في تايوان على مدار 40 عاماً، وأنشأت أكثر من 1000 شركة ذات صلة في سلاسل التوريد الخاصة بها، مما يجعلها واحدة من مجموعات الإنتاج العالمية الأكثر كفاءة. واستجابة لمتطلبات الولايات المتحدة، تخطط (TSMC) لاستثمار 40 مليار دولار لبناء مصنعين للرقائق في ولاية أريزونا. وبالرغم من التزام الحكومة الفدرالية الأمريكية بتقاسم جزء من التكاليف لتعزيز العائد على الاستثمار، تواجه (TSMC) حالياً تحديات، مثل: ارتفاع تكاليف البناء والتشغيل، مما سيقلل من الربحية. بالإضافة إلى ذلك، فإن متطلبات الحصول على الإعانات بموجب قانون (Chips) الأمريكي، والصعوبات في جذب المواهب العالمية للعمل في الولايات المتحدة، تشكل عقبات إضافية أمام (TSMC).
وتقع التطبيقات الأساسية لعمليات (TSMC) المتقدمة، بما في ذلك رقائق الحوسبة عالية الأداء (HPC) للذكاء الاصطناعي وأجهزة الكمبيوتر العملاقة، ضمن نطاق قيود التصدير الحالية. وعلى المدى القصير إلى المتوسط، ليس من المتوقع أن يؤثر ذلك بشكل كبير في إيرادات (TSMC). بينما إذا تم توسيع نطاق القيود من أجل منع أي ثغرات وشمل شرائح العمليات المتقدمة الأخرى، فسيؤثر ذلك في إيرادات (TSMC) ويضعف قدرتها على الاستثمار في العمليات المتقدمة على المدى الطويل. ولتفادي ذلك أعلنت (TSMC) أنها تقوم ببناء قدرات إضافية خارج تايوان، إذ تقوم ببناء مصنع في اليابان، وتدرس بناء مصنع ثانٍ، إضافة إلى الاستثمار بشكل مشترك في الشركة الأوروبية لتصنيع أشباه الموصلات (ESMC).
احتواء غير فعال
في النهاية، يرى التقرير أن العوامل الجيوسياسية والإشراف التنظيمي الناجم عن الحرب التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين سيعيد تشكيل المشهد العالمي لصناعة أشباه الموصلات. فقد تحولت عملية صنع القرار فيما يتعلق بالتخطيط الاستثماري للشركات المتعددة الجنسيات من الاعتبارات التقليدية مثل، تكاليف الإنتاج، وجاذبية السوق... إلخ، إلى القرارات المتخذة في ظل تدخل وقيود العلاقات الدولية والجغرافيا السياسية. ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى إضعاف القدرة التنافسية للصناعات ذات الصلة بشكل كبير.
ومن غير المرجح أن تسفر الجهود الأمريكية لاحتواء صعود الصين من خلال ضوابط التصدير وإعادة هيكلة صناعة أشباه الموصلات العالمية عن نتائج كبيرة في الأمد البعيد. إذ إن فرض القيود على صناعة أشباه الموصلات لن يؤدي إلا إلى دفع الصين نحو الاعتماد على الذات وتسريع تطوير صناعة أشباه الموصلات المحلية. وقد يؤدي ذلك إلى نجاح بكين في تطوير عمليات تصنيع متقدمة لأشباه الموصلات وحتى بناء سلسلة توريد مستقلة لصناعة أشباه الموصلات خالية من التكنولوجيا الأمريكية.
بالتالي، لن يكون احتواء الولايات المتحدة للصين فعالاً إلا على المديين القصير والمتوسط. كما يعتقد الخبراء أن عزل التكنولوجيا الأمريكية عن سوق أشباه الموصلات الصينية قد يتسبب في خسارة الولايات المتحدة لسلاحها الاستراتيجي المتمثل في استخدام التكنولوجيا لتقييد الصين. وقد يؤدي ذلك إلى فقدان الشركات المشاركة في الحصار الأمريكي إمكانية الوصول إلى السوق الصينية. لذلك، يقترح بعض الخبراء أن احتواء الصين سيكون أكثر فعالية إذ تم السماح لها بالاعتماد على الرقائق والتكنولوجيا الغربية.
المصدر:
Gregory C. Allen, “The Post-October 7 World :International Perspectives on Semiconductors and Geopolitics”, the CSIS Wadhwani Center, September 2023.