أثار البيان الصادر عن حزب العدالة والتنمية في المغرب (الذراع السياسية للإخوان)، يوم 24 سبتمبر الماضي، بشأن كارثة الزلزال الأخيرة، جدلاً لم يتوقف، حيث أرجع الحزب ما حدث إلى "العقاب الإلهي"، بالقول: "الصواب هو أن نراجع كأمة ونتبيّن هل الذي وقع قد يكون كذلك بسبب ذنوبنا ومعاصينا ومخالفاتنا ليس فقط بمعناها الفردي ولكن بمعناها العام والسياسي، لأن السؤال المطروح ليس فقط عن المخالفات الفردية وإنما عن الذنوب والمعاصي والمخالفات بالمعنى السياسي وتلك الموجودة في الحياة السياسية عامة والانتخابات والمسؤوليات والتدبير العمومي وغيرها". ويبدو هذا التفسير غريباً في مجال التداول العقلي السببي، لكنه ليس بالغريب عن أدبيات التفكير الإسلاموية والإخوانية المنفصلة عن واقعها الزمني.
خطاب اللامنطق:
إن شيوع الروابط اللامنطقية في الخطاب الإسلاموي يُعد أحد أساسيات هذا الخطاب، وربما تمكننا العودة إلى سجالات الخطاب مكتوباً ومذاعاً من اكتشاف أن اللامنطق هو الأداة السحرية في جاذبية خطاب الإسلاموية ونجاحه في استقطاب الجمهور، ذلك أن الخطاب العقلاني المنطقي، الخاضع لقوانين السببية لا يجد قوة التأثير نفسها في عواطف الناس، ولاسيما إن تعلق الأمر بالدين. وقبل عامين، أرجع رئيس حركة النهضة التونسية، راشد الغنوشي، عودة انتشار وباء "كوفيد19" إلى إقالة وزير الصحة المنتمي إلى حركته الإخوانية، عبداللطيف المكي، مع أن الموجة الجديدة كانت عالمية وليست متوقفة على وجود المكي على رأس الوزارة من عدمه، كما أن نجاح البلاد في تخطي الموجة الأولى لم يكن بسبب "بركة" الوزير ولكن لأسباب موضوعية أخرى.
بدايةً من أزمة الشرعية التي دخلت فيها شعوب منطقتنا، بعد دخول الاستعمار الغربي وسقوط الخلافة، شرع قطاع من النخب في الانكماش نحو الانفصال عن الواقع الزمني، وتفسير التراجع الحضاري وتفكك أواصر الشرعية، من خلال منظور "العقاب الإلهي". وفي هذا السياق، ظهرت جماعة الإخوان المسلمين ممثلة لهذا التيار، الذي تطور وشهد ذروة انفصاله عن الواقع فيما كتبه سيد قطب، جامعاً بين سحر الأسلوب وهلوسات المضمون. وظهرت هذه النزعة الانفصالية في توظيف اللامنطق والعداء للسببية في هزيمة 1967، عندما أعادت الجماعة، ومن ورائها طيف واسع من الجمهور، ما حدث إلى قانون "العقاب الإلهي"، وليس إلى أسباب موضوعية وذاتية يستطيع العقل تحليلها وتالياً معالجتها.
وشكلت سردية "العقاب الإلهي" في أعقاب حرب 1967، الأساس الأيديولوجي الذي قامت عليه موجة الصحوة الإسلاموية، ليس فقط في مصر، بل في عموم الأقطار العربية، ولاسيما في المغرب العربي. إذ شهدنا تنامي صعود الحركات الإسلاموية، وشعارات "الإسلام هو الحلّ"، القائمة على التبسيط والتسطيح المفرط لمشكلات عميقة ومُعقدة مثل الهوية والتنمية والتقدم. ويبدو أن السبعينيات كانت البوابة التي دخلت عبرها أقطار المنطقة عصر الشعبوية الإسلاموية، إن جاز التعبير. مع أن مستوى أعمق من التحليل ربما يكشف عن أن هذا الخطاب الشعبوي مقصود في ذاته ضمن أساليب التعبئة والدعاية والتأثير.
الشعبوية الإسلاموية:
الشعبوية مفهوم ملتبس، ويرجع ذلك أساساً إلى أن الحركات التي تُوصف بالشعبوية لها خصائص مختلفة اعتماداً على الظروف التي ظهرت فيها، حيث تظهر الشعبوية في أوروبا اليوم في شكل حركات يمينية متطرفة عقيدتها الأساسية العداء للأجانب، فيما تظهر حركات أخرى في شكل جماعات احتجاجية تعارض هيمنة الأوليغارشيات الحزبية والمالية، مُقدمة نموذجاً للسياسة يقوم على الزعامة الكاريزمية للقائد الشعبوي. وفي الحالة الإسلاموية السائدة في منطقتنا العربية والإسلامية، لا تستجيب الحركات الإسلاموية لنموذج الحركات الشعبوية، ولكنها مع ذلك تمتلك أبعاداً شعبوية في مستوى خطابها السياسي، أي أنها تعتمد خطاباً شعبوياً، لا يخاطب عقول الجمهور ولكنه يخاطب عواطفهم.
وانطلاقاً من الشعار المركزي للإسلاموية في نسختها الإخوانية "الإسلام هو الحل"، يُلاحظ الخطاب الشعبوي المُكثف في هذا الشعار، حيث يتم حل كل مشكلات المجتمع الحديث في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق والحياة اليومية بعصا سحرية لدى هذه التيارات. ويبدو ذلك للوهلة الأولى مُقنعاً وبسيطاً وعملياً، لكن عندما يضع المرء مشكلاته على طاولة الحل، لا يجد الكثير من تلك الأماني. أولاً، يواجه هذا الشعار الشعبوي سؤال ماهية الإسلام، أي إسلام وبأي تفسير ووفقاً لأي مذهب أو منهج؟ ثانياً، تخبرنا دروس التجربة التاريخية عن أن الشعار لا يتجاوز مجال الخطاب، حيث فشل مرات في اختبار الواقع، من خلال تجارب الحكم الكارثية للحركات الإسلامية وتحديداً جماعة الإخوان خلال العقد الماضي بعد عام 2011. وحتى الحركة الوحيدة التي سجلت نجاحات نسبية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا، كانت تؤكد دائماً أنها وفية لمبدأ "العلمانية الكمالية". ولا يعني ذلك أن برامج الحكم العلمانية تقدم حلولاً ناجعةً، إلا أنها قد لا تلوح بحلول سحرية كما في الحالة الإسلاموية.
وهذا البعد الشعبوي الخطابي الذي يميز الحركات الإسلاموية، يحقق لها مكاسب قوية وواضحة عندما تكون خارج السلطة، حيث يؤدي دوراً كبيراً في خطابها الاحتجاجي ضد السلطة، ودوراً أكبر في تقديم نفسها كبديل للسلطة القائمة. وهذا ما يمكن أن نلمسه بوضوح في بيان حزب العدالة والتنمية المغربي، الذي لو كان حاكماً لما أعاد كارثة الزلزال إلى مبدأ "العقاب الإلهي"، مشيراً بوضوح إلى أن خروجه من السلطة كان أحد أسباب هذا الغضب، حيث لفت البيان إلى "الذنوب والمعاصي السياسية" المُتعلقة "بالانتخابات والمسؤوليات والتدبير العمومي". في المقابل، يؤدي البعد الشعبوي الخطابي درواً سلبياً عندما تكون هذه الحركات في السلطة، ذلك أن الممارسة ستكون اختباراً لحقيقة هذا الخطاب، وبالتالي سيكتشف الجمهور أنه مجرد خطاب خيالي تخاطب فيه العاطفة ولا يُلبي شيئاً من احتياجاته ولا يحل مشكلاته الأكثر تعقيداً من مجرد أن تُحل بالشعارات. وهنا تبدو المفارقة واضحة، في اعتبار التسطيح ومخاطبة بساطة العقل عنصر قوة بالنسبة للإسلاموية ولكنه في الوقت نفسه مصدر ضعف لها، وهو ما يمكن أن يُفسر جزئياً أسباب فشل هذه الحركات في السلطة على الرغم من كونها قد تتميز ببراعة في المعارضة.
أربع خصائص:
لا يمكن الإمساك بنموذج ثابت للخطاب الشعبوي الإسلاموي، حيث إنه مختلف باختلاف الحركات والجماعات والظروف الموضوعية التي تنشط فيها وداخلها، إلا أننا يمكن أن نحدد بعض الخصائص المشتركة والشائعة لهذا الخطاب، كالتالي:
1- الخلاصية: يقوم البناء العقائدي للإسلاموية على فكرة جوهرية وهي الخلاصية، حيث تطرح الحركات والجماعات الإسلاموية نفسها كمُخلص للناس من بؤس الحاضر، بوصفها تملك الحل النهائي والشامل لجميع مشكلاتهم المادية والمعنوية. وتشترك الإسلاموية مع بقية العقائد الخلاصية، الدينية والمادية، في مسألة حيازتها أداة سحرية للانتقال من الواقع إلى المنشود، وبالتالي يحقق لها هذا الأمل والوعد المؤجل مكاسب شعبية وسياسية كبيرة. وشأنها شأن جميع الحركات الشعبوية، تجد الإسلاموية مناخها الخصب للتمدد والانتشار في ظل الأزمة، لذلك فإنها تستغل الأزمات الاقتصادية والسياسية لبث خطابها الخلاصي، الذي يجد جمهوراً واسعاً قوامه الأساسي ضحايا الأزمة نفسها.
2- الحقائق البديلة: كي تنجح الإسلاموية في إنتاج خطابها الخلاصي، القائم على المقابلة بين الواقع والمستقبل، تحتاج إلى إنتاج حقائق بديلة لكي يكون هذا الخطاب مقدماً على نحو مقنع ومنطقي. لذلك حاول حزب العدالة والتنمية المغربي الربط على نحو غير مباشر بين وجود غريمه في السلطة والعقوبة الإلهية التي طالت الناس من خلال كارثة الزلزال، وكأنه يريد القول إن هؤلاء الناس الذين انتخبوا الغريم وأخرجوا الحزب من السلطة قبل عامين قد لاقوا جزاء فعلهم. هكذا تتحول الحقيقة العلمية للزلزال من طبيعتها الجيولوجية السببية إلى حقيقة أخرى ذات طبيعة مثالية منفصلة عن واقعها الزمني.
3- العدو الغامض: لكي ينجح الخطاب الشعبوي الإسلاموي في بناء فكرته الخلاصية وحقائقه البديلة، يجب أن ينتج عدوه الخاص، دون أن يكشف عن هويته. ذلك الغموض هو الذي يثير عواطف الجمهور المتلقي. وتحت شعارات مثل "الإسلام في خطر" أو "المؤامرة ضد الإسلام"، يجد المتلقي نفسه مُجبراً على الانخراط في معركة لا يعرف أطرافها. وفي نموذج حزب العدالة والتنمية المغربي وموقفه من كارثة الزلزال، لا يصرح الحزب بشكل واضح عن دوافع "العقاب الإلهي" ولا يفسر ما يعنيه بـ"الذنوب السياسية"، تاركاً مجال التأويل مفتوحاً. إذ إن غموض العدو يجعل الخطاب الشعبوي الإسلاموي أكثر تأثيراً في عواطف الجمهور، كون هذه الحركات والجماعات قد أصبحت ضحية مؤامرة غامضة وواسعة.
4- التلاعب: رابع هذه الخصائص هي التلاعب قصد التوظيف، فمن خلال تعامل الإسلاموية مع الكوارث الطبيعية كـ"عقوبة إلهية"، تظهر استراتيجيات التلاعب خاصةً إذا ما طبقنا هذا المبدأ في ساحات متغيرة. أي أن نفس الكارثة يمكن أن تكون عقوبة في مكان وابتلاءً في مكان آخر، والمعيار الوحيد للتفرقة بين العقوبة والابتلاء هو مدى قرب السلطة أو النظام الذي يحكم ذلك المكان من الأيديولوجيا الإسلاموية. فلم تظهر سرديات "العقوبة الإلهية" في الزلزال الذي ضرب تركيا قبل أشهر؛ نظراً للقرب بين النظام السياسي هناك والجماعات الإسلاموية، فيما تحولت الكارثة نفسها إلى عقوبة في المغرب. وضمن هذا التلاعب في المعايير، يمكن أن نجد الكثير من النماذج والأمثلة. لكن المُثير في التلاعب هو كونه جزءاً من استراتيجية تهدف إلى تقليل إمكانية المناقشة أو النقد من جانب الجمهور، فالتلاعب لا يعتمد على الجدال أو النقاش أو التفاعل، بل على العكس تماماً، يسعى إلى فرض فكرة أو وجهة نظر، فيما يمكن اعتباره نوعاً من "العنف اللفظي" الموجه ضد الجمهور، يتفاعل باستخدام المشاعر السلبية، وهي الخوف غالباً، والتي ستمنع أي تفكير منطقي. إذ إن استدعاء صورة "العقوبة الإلهية"، كما في مثال الكوارث الطبيعية، يجعل المتلقي منجذباً بقوة عاطفية إلى تصديق الخطاب.