أجرى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، في الفترة من 8 إلى 14 سبتمبر 2023، زيارة إلى الصين، جاءت بدعوة من نظيره الصيني شي جين بينغ، وقد التقى خلالها مادورو الأخير، وبحثا سُبُل تعزيز التعاون الثنائي، والارتقاء بالعلاقات بين الجانبين. وتُعد هذه الزيارة لمادورو هي زيارة الدولة الثالثة له إلى الصين، والزيارة الخامسة بصفته الرئيس الفنزويلي، وقد كانت آخر زيارة له في عام 2018.
إلى جانب ذلك، فقد جاء على هامش تلك الزيارة، زيارة أخرى خاطفة إلى الجزائر، حيث توقفت طائرة مادورو، قبل أن يستكمل رحلته إلى الصين، التقى خلالها رئيس الوزراء الجزائري، أيمن بن عبدالرحمن، كما شارك في أعمال قمة مجموعة الـ77 والصين، والتي انعقدت في العاصمة الكوبية هافانا، تحت شعار "تحديات التنمية الحالية: دور العلم والتكنولوجيا والابتكار".
أهداف الجولة:
سعت كاراكاس من خلال تلك الجولة إلى تحقيق عدد من الأهداف، يتمثل أبرزها في الآتي:
1. محاولة الخروج من الأزمة الاقتصادية: جاءت تلك الزيارة التي أجراها الرئيس الفنزويلي إلى بكين، في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الفنزويلي من أزمات هيكلية، إذ تشهد كاراكاس أحد أسوأ معدلات التضخم في العالم، والذي يبلغ 436% على أساس سنوي، وفق إحصائيات مايو 2023، كما انكمش الناتج المحلي لفنزويلا بمقدار 80% خلال السنوات العشر الأخيرة، في حين شهد نمو الاقتصاد الفنزويلي تراجعاً بنسبة 7% في النصف الأول من العام 2023، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022، كما تُعد بكين، أحد أكبر الدائنين لفنزويلا، ورغم عدم وجود إحصائيات دقيقة لحجم هذا الدين، فإن بعض المصادر أشارت إلى إنه يبلغ زهاء 60 مليار دولار.
وقد شهدت الزيارة، التوقيع على عدد من الاتفاقيات الثنائية بين الجانبين في مجالات الاقتصاد والتجارة والسياحة، وكذلك قطاعات العلوم والتكنولوجيا والطيران المدني والفضاء. وقد أجرى مادورو، زيارة لأربع مدن صينية، خلال الزيارة، وكانت محطته الأولى في مدينة شنتشن، بجنوب الصين، والتي تُعد نافذة للانفتاح والتطوير، وقد تعهد الرئيس الفنزويلي بإرسال وفود عدّة إلى الصين، خلال الأسابيع المقبلة، للاطلاع على الخبرات الصينية في بناء المناطق الاقتصادية الخاصة. كما صرح مادورو، أثناء زيارته لتلك المدينة الصينية، مخاطباً شعبه: "ترقبوا الأخبار الجيدة ستمطر على الشعب الفنزويلي". الأمر الذي يكشف عن تعاون مستقبلي بين الصين وفنزويلا في مجالات التكنولوجيا والابتكار. ثمّ توجه مادورو إلى شنغهاي، والتي تُعد العاصمة المالية والاقتصادية للصين، كما زار مقاطعة شاندونغ بشرق الصين وهي مقاطعة صناعية واستثمارية.
هذا إلى جانب توقيع اتفاقيات بين الجانبين، في إطار مبادرة الحزام والطريق، حيث أكدّ رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ، خلال لقائه الرئيس الفنزويلي، استعداد بكين للعمل مع كاراكاس، لتنفيذ مبادرة الحزام والطريق، وتعزيز تبادل خبرات التنمية، والاستفادة من آلية اللجنة الفنزويلية الصينية المشتركة رفيعة المستوى على نحو جيد، وتعميق التعاون العملي في مختلف المجالات.
2. تعزيز العلاقات الاستراتيجية: أعلن الرئيس الصيني، خلال استقباله نظيره الفنزويلي، رفع مستوى العلاقات مع فنزويلا، إلى "الشراكة الاستراتيجية"، ويُعد هذا المستوى الأعلى في الدبلوماسية الصينية، ولا تحظى بهذا المستوى في العلاقات مع بكين، إلّا ثلاث دول، وهي؛ روسيا وبيلاروسيا وباكستان. وهو ما يعكس مستوى الثقة السياسية المتبادلة بين البلدين. وقد زارت نائبة الرئيس الفنزويلي ديلسي رودريغيز، شنغهاي وبكين، قبيل زيارة مادورو، بأيام، والتقت وزير الخارجية الصيني وانغ يي. وقد صرّح الأخير بشأن تلك الزيارة، بأن "الصين وفنزويلا أقامتا صداقة لا تتزعزع. والصين تدعم فنزويلا بقوة في مجال حماية استقلالها الوطني وكرامتها الوطنية". كما شهدت تلك الزيارة مُناقشة استثمارات بكين في قطاع النفط الحيوي للاقتصاد الفنزويلي، بالإضافة إلى مشروع مُشترك مُحتمل بين مجموعات نفطية من البلدين.
3. السعي للانضمام لـ"البريكس": تهدف كاراكاس من جراء تلك الزيارة إلى الحصول على دعم الصين للانضمام إلى مجموعة "بريكس"، والتي تضم الصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا، خاصة في الوقت الذي وافقت فيه المجموعة، خلال قمتها التي انعقدت في جوهانسبرغ بجنوب إفريقيا، خلال أغسطس 2023، على انضمام خمسة أعضاء جُدُد، وهم: دولة الإمارات والمملكة العربية السعودية ومصر وإثيوبيا والأرجنتين، وهو الأمر الذي قد يُعزز فرص انضمام فنزويلا إلى المنظمة، إذا ما حظيت بدعم من بكين. وقد التقت نائبة الرئيس الفنزويلي، خلال زيارتها بكين، برئيسة بنك التنمية الجديد، التابع لمجموعة "البريكس"، ديلما روسيف، وهي التي كانت تشغل منصب رئيسة البرزيل. الأمر الذي يؤشر على حرص كاراكاس على نيل عضوية التجمع.
4. إنشاء خط جوي مُباشر بين فنزويلا والجزائر: أجرى الرئيس الفنزويلي مُحادثات ودية مع رئيس الوزراء الجزائري، خلال توقف طائرته في الجزائر، وقد تمت مناقشة سبل التعاون المشترك بين البلدين، في مجالات البترول والغاز والتعليم والتكنولوجيا والزراعة والسياحة والتجارة المشتركة. كما تم الاتفاق على الافتتاح القريب لخط طيران مباشر يربط بين الجزائر وفنزويلا والعكس، وهو ما يؤشر على رغبة فنزويلية في إيجاد موطئ قدم في شمال وغرب القارة الإفريقية، من خلال بوابة الجزائر، خاصة مع تصاعد موجة العداء للغرب في هذه المنطقة، والتي يؤكدها تكرار الانقلابات التي شهدتها تلك المنطقة في الفترة الأخيرة.
دلالات مُتعددة:
ثمّة دلالات تُشير إليها جولة الرئيس الفنزويلي الخارجية الأخيرة، ويمكن تسليط الضوء على أبرزها على النحو التالي:
1. مواجهة الضغوط الأمريكية: تأتي زيارة مادورو إلى الصين، في ضوء تصاعد حدة التوتر بين الصين من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، على خلفية العديد من الملفات الخلافية بينهما، والتي يأتي على رأسها؛ قضية تايوان والتوترات في بحر الصين الجنوبي والشرقي والتنافس التجاري والتقني وقضايا حقوق الإنسان وغيرها. كما تأتي الزيارة في الوقت الذي تستمر فيه واشنطن بعدم الاعتراف بمادورو، رئيساً شرعياً لفنزويلا، مبقية على أغلب العقوبات، التي كانت مفروضة عليها، منذ عام 2019، بعد إعلان زعيم المعارضة الفنزويلية خوان غوايدو، نفسه رئيساً مؤقتاً لفنزويلا، بعد انتخابات 2018، التي قاطعتها المعارضة، ولم تعترف بها عدة دول، من بينها الولايات المتحدة وفرنسا.
وقد جاءت تلك الزيارة، بالتزامن مع انعقاد قمة قادة الاقتصادات الكبرى في العالم (مجموعة العشرين)، في الهند، والتي غاب عنها الرئيس الصيني شي جين بينغ، وهو ما يعني محاولة إرسال كل من بكين وكاراكاس رسالة إلى الأطراف الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بأن الشراكة قائمة بين الجانبين، وأنهما يعارضان مبدأ الهيمنة والأحادية القطبية، ويؤكدان أن هناك عالماً جديداً متعدد الأقطاب. وقد كان لافتاً، منع الرئيس الفنزويلي لصحفي صيني من هونغ كونغ، عندما سأله باللغة الإنجليزية، موجهاً إياه بالتحدث بلغة الماندرين (اللغة الصينية)، قائلاً: "بما إنه لا توجد ترجمة إنجليزية، إذن فهو عالم جديد".
2. التمدد الصيني في القارة اللاتينية: نجحت الصين خلال السنوات الأخيرة، في توسيع نفوذها خارج حدودها الآسيوية المحيطة بها، وتجاوزت تلك الحدود، نحو مساحات جديدة، لم تتطرق إليها من قبل، ومنها القارة اللاتينية. إذ لا يمكن فصل رفع مستوى العلاقات بين الصين وفنزويلا عن التطور النوعي الذي شهدته العلاقات الصينية اللاتينية بشكل عام خلال السنوات الأخيرة، إذ أجرت رئيسة هندوراس شيومارا كاسترو، زيارة إلى بكين، في 7 يونيو 2023، فضلاً عن تسارع وتيرة مفاوضات اتفاقيات التجارة الحرة بين الصين والعديد من دول أمريكا اللاتينية، ومنها الإكوادور ونيكاراغوا، وغيرهما. وهو ما يُدلل على وجود اتجاه داخل الصين، لتعزيز الشراكة والتعاون مع دول أمريكا اللاتينية، خاصة وأن تلك المنطقة، متاخمة للولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي يحمل رسائل تتعلق بدخول التنين الصيني إلى الباحة الخلفية للولايات المتحدة، الأمر الذي قد يُقرأ من جانب الأخيرة بأنه يمثل تهديداً لها على سواحلها الجنوبية.
3. تعزيز موقف كاراكاس التفاوضي مع واشنطن: توظف فنزويلا، الزيارة الرئاسية لمادورو إلى الصين، وما أسفرت عنه من نتائج، كورقة ضغط على واشنطن، في إطار المفاوضات السرية، بين فنزويلا والولايات المتحدة، والتي بدأت منذ نهاية العام الماضي، وقد سمحت بموجبها واشنطن لشركة النفط الأمريكية "شيفرون" باستئناف عملها في فنزويلا، بعد توقفها على إثر العقوبات الأمريكية على الأخيرة، ويأتي هذا الانفراج في ضوء حاجة واشنطن لضخ مزيد من الإمدادات النفطية في الأسواق، على وقع قرارات تحالف "أوبك بلس" بتخفيض هذه الإمدادات، الأمر الذي ترى واشنطن أنه أدى إلى ارتفاع الأسعار، هذا بجانب رغبة واشنطن في دفع جهود المباحثات بين السلطة والمعارضة الفنزويلية، والتي تجرى في العاصمة المكسيكية مكسيكو.
4. الترويج لنموذج التنمية الصيني: تهدف الصين من خلال تلك الزيارة إلى الترويج لنموذجها الخاص في التنمية، إذ بدأ الرئيس الفنزويلي زيارته من مدينة شنتشن في جنوب الصين، والتي تُعد نموذجاً مبهراً للتقدم العلمي والتكنولوجي في الصين. وقد صرّح مادورو، عقب زيارته المدينة: "بالنسبة لأولئك الذين يبحثون عن التطوير والتكنولوجيا والاختراعات الجديدة، تُعد شنتشن مكاناً مهماً، لذا فهي نقطة انطلاق جيدة". كما أن هذه الزيارة، إلى جانب زيارة الرئيس الزامبي هاكايندي هيشيليما إلى الصين والتي جاءت مُتزامنة أيضاً مع زيارة مادورو، تمثل فرصة ليس فقط للترويج لنموذج التنمية الصيني فحسب، بل للمبادرات التي اقترحتها الصين لمواجهة التحديات التي يواجهها المجتمع الدولي، مثل مبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارة العالمية.
وفي التقدير، يمكن القول إن زيارة الرئيس الفنزويلي إلى الصين وما تبعها، هي إعلان عن عودة الروح لحكومة مادورو والنظام الشافيزي في فنزويلا، وإبطاء للرغبة الأمريكية، والتي تصاعدت خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، للتخلص من الحكومات اليسارية الثلاث في: فنزويلا وبوليفيا وكوبا. فبعد خمس سنوات من العقوبات الاقتصادية الأمريكية، والتي لا تزال مستمرة، تدخل فنزويلا مرحلة جديدة من فرص الانتعاش الاقتصادي وتقليل بعض من الأضرار الجسيمة التي أصابت البلاد.
كما أن العالم الآن يشهد نمواً سريعاً في العمل الدبلوماسي والتخطيط للسياسة الخارجية وترتيب المصالح لكثير من دول العالم، وتحديداً دول الجنوب، للاستفادة من حالة الاستقطاب وتكوين الجبهات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. وهو ما يحتاج قراءة أكثر عمقاً للسياسة الخارجية لدول الجنوب تجاه الدول الكبرى وقدراً من المناورة من قبل الدول الصغرى بين كلا الطرفين والتنسيق بين التحالفات المتعددة، وهو الأمر الذي سيكون له أثر كبير في مستقبل توازنات القوى في المستقبل.