بدأت في نيويورك، يوم 19 سبتمبر 2023، اجتماعات الدورة السنوية الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة. وفضلاً عن أهمية انعقاد اجتماعات الجمعية العامة في حد ذاتها باعتبارها المكان الذي تتحدث فيه دول العالم من خلال الأعضاء البالغ عددهم 193 دولة، فإن ذلك لا يقترن بالضرورة بالفهم المتبادل والتقدم صوب الأهداف المحددة، بدليل ما وصل إليه العالم والأمم المتحدة ذاتها حالياً بعد هذه العقود من النقاشات والحوارات. وفي هذا الإطار، يتضمن هذا المقال عدداً من الملاحظات الأساسية حول اجتماعات الدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة وما شهدته من فعاليات ولقاءات مختلفة.
1- تعثر أهداف التنمية المستدامة:
يتزامن انعقاد الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة مع وصول المجتمع الدولي إلى حالة غير مسبوقة من النزاعات والحروب والصراعات والأزمات، بعد جائحة "كورونا"، واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وأزمات الغذاء والطاقة والأسعار، وكذلك تفاقم مظاهر التغير المناخي وآثاره المدمرة من حرائق الغابات والزلازل والفيضانات والسيول.
وفي إطار هذه الدورة، عُقدت ثلاث قمم بمشاركة قادة الدول الأعضاء، الأولى حول أهداف التنمية المستدامة، والثانية حول العمل المناخي، والثالثة عن تمويل التنمية. ويأتي انعقاد هذه القمم بعد تجاوز منتصف الطريق لتحقيق أهداف التنمية المستدامة عام 2030، وذلك بعد إقرار الأهداف السبعة عشر للتنمية في قمة خاصة عام 2015.
ولا شك أن حالة العالم، سواءً من الناحية السياسية أو المناخية أو على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي، قد انعكست بكل شكل واضح لا لبس فيه وبالأرقام في الفشل الذى مُنيت به أهداف التنمية المستدامة، التي أُقرت منذ نحو ثماني سنوات، حيث تراجع تحقيق هذه الأهداف تحت وطأة تضافر هذه الظروف السياسية والمناخية والاقتصادية والاجتماعية؛ ونعني بها أزمة التعاون الدولي وأزمة إدارة التعددية والانقسام والصراعات والحروب وعجز الأمم المتحدة عن القيام بدورها في حفظ السلم والأمن الدوليين، وكذلك تفاقم آثار التغير المناخي بدرجة تفوق طاقة البشر على احتوائها؛ في ظل ارتفاع غير مسبوق في درجة الحرارة عام 2023، وحرائق تلتهم الغابات، وفيضانات وسيول تجرف الحياة في مدن بأكملها، ودمار يعصف بالحجر والشجر والبشر، وذلك نتيجة التباطؤ في الوفاء بالوعود التمويلية لاعتماد برامج الطاقة النظيفة وتوفير البنى التحتية اللازمة كذلك، وشح التمويل للبلدان النامية المُتضررة أكثر من التغير المناخي.
أما اقتصادياً واجتماعياً، فإن ديون البلدان النامية تتفاقم، وتلتهم جزءاً مهماً من ناتجها الإجمالي، ويتعثر الكثير من هذه البلدان عن السداد، حيث إن هناك 11 دولة عجزت عن سداد ديونها في الأعوام الأخيرة، بينما تتعرض دول أخرى يتراوح عددها من 48 إلى 54 دولة لمخاطر العجز عن سداد الديون. وعن انتشار الجوع وافتقاد الأمن الغذائي، فإن تقرير منظمة الأغذية والزراعة يشير إلى تزايد عدد الجوعى في العالم إلى 745 مليون إنسان، كما أوضح التقرير أن 2.4 مليار شخص عانوا بدرجة معتدلة أو حادة من فقدان الأمن الغذائي عام 2022، بعد أن كان هذا الرقم 1.75 مليار شخص عام 2015.
وبالتالي كانت النتائج مفزعة والعالم يقترب من 2030؛ أي عام الوصول لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، حيث أظهر تقييم 140 هدفاً من 169 هدفاً فرعياً للتنمية المستدامة أن 88% من هذه الأهداف ما تزال بعيدة عن مسار تحقيق التنمية، وأن ما سوف يتحقق بالكاد يعادل 12% من تلك الأهداف. وهذا يعني عدم إحراز تقدم في الصحة والتعليم وسوء التغذية ومكافحة الفقر والجوع، وأن أوضاع الدول الأقل دخلاً تسوء حالياً مقارنة بما كانت عليه في السابق، وفقاً لمؤشرات التنمية البشرية.
2- إصلاح الأمم المتحدة:
إزاء هذا الوضع العالمي المُتفاقم على الأصعدة كافة، والأزمات التي تُلاحق المجتمع الدولي وكوكب الأرض، وقصور الأمم المتحدة عن علاج هذه الأزمات وتشخيصها وتنفيذ الحلول لها، كان الطابع الغالب والأهم في الخطاب الدولي في أروقة الجمعية العامة منذ افتتاح هذه الدورة يتركز حول إنقاذ الأمم المتحدة أو إصلاح هياكلها وكذلك إنقاذ الأرض.
وتتلخص حجج الذين ينادون بإصلاح الأمم المتحدة في أن هذه المنظمة الدولية التي نشأت عقب الحرب العالمية الثانية عام 1945 لم تعد ملائمة لعالم اليوم بهياكلها الحالية؛ حيث إنها كانت تُعبر عن عالم ما بعد الحرب والتوازنات الدولية التي أعقبتها، أما اليوم فإن العالم قد تغير ولم يعد عالماً ثنائي القطبية، بل يتجه نحو التعددية، ومن ثم فهو بحاجة إلى منظمة مختلفة تستطيع أن تُعبر عنه وتعالج مشكلاته. فضلاً عن ذلك، فإن الأمم المتحدة كما هي الآن عجزت عن تحقيق الغايات المنشودة منها؛ أي تحقيق الاستقرار والمساواة وحل النزاعات بالطرق السلمية وضمان تحقيق الأمن والسلم الدوليين.
ومع ذلك، فإن إصلاح الأمم المتحدة لا يتوقف بالضرورة على التوائم مع التعددية القطبية الناشئة فقط، لأن هذه التعددية لا تضمن بالضرورة كفاءة هذه المنظمة وقدرتها على علاج التحديات؛ حيث انهارت عصبة الأمم في ظل تعددية قطبية مختلفة، بل لا بد من توفر الإرادة السياسية والأخلاقية لإدارة العلاقات الدولية بروح مختلفة ترتكز على المساواة واحترام الثقافات والشعوب وإنهاء المعايير الملتبسة والانتقائية في العلاقات بين الدول.
إن إصلاح الأمم المتحدة ليس بخطاب جديد، أو يرتبط بالظروف الراهنة المتفاقمة، بل هو موجود منذ عدة عقود، غير أن الظروف الحالية ينبغي أن تُعجل به قبل فوات الأوان. ومن الأفكار المتداولة في إطار إصلاح الأمم المتحدة، ما يُطرح من ضرورة توسيع العضوية الدائمة في مجلس الأمن، وعدم اقتصارها على الأعضاء الخمسة الدائمين الحاليين، بل يجب أن تضم هذه العضوية الدائمة دولاً أخرى مثل اليابان وألمانيا وهما مرشحتان لهذه العضوية منذ وقت طويل، كما أن البرازيل أكبر دولة في أمريكا اللاتينية كانت مرشحة هي الأخرى، بالإضافة إلى ذلك ينبغي أن تكون قارة إفريقيا مُمثلة أيضاً في مجلس الأمن بعضوية دائمة لأنها تمثل 1.3 مليار نسمة. ويُضاف إلى ذلك، ضرورة تمثيل الأقاليم الثقافية المختلفة أو الأقاليم الحضارية، أي التمثيل الحضاري لبلدان الحضارات القديمة في آسيا وإفريقيا والعالم العربي والإسلامي، وتدخل هنا دولة كالهند كممثل عن الثقافة الآسيوية.
ومع ذلك، فإن الاقتصار على هذه الأفكار الخاصة بتوسيع العضوية الدائمة في مجلس الأمن، لا يكفل بطبيعة الحال ضمان إصلاح المنظمة الدولية، حيث ستظل سلطة اتخاذ القرار فيما يتعلق بحفظ الأمن والسلم الدوليين ومعالجة النزاعات بالقوة، بيد السلطة التنفيذية للأمم المتحدة أي مجلس الأمن، وهو بمثابة الحكومة في التنظيم الداخلي لكل دولة، في حين تبقى الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبارها تمثل كل الدول بمعزل عن الفاعلية في مجال حفظ الأمن والسلم الدوليين، وتكون بمثابة مجرد شاهد لا حول له ولا قوة إزاء سلطة مجلس الأمن.
وثمة أفكار أخرى لمعالجة هذا الأمر وضمان ديمقراطية اتخاذ قرار حفظ الأمن والسلم ومشاركة الدول كافة في صُنع مثل هذه القرارات داخل الأمم المتحدة. وتتمثل هذه الأفكار في توزيع الصلاحيات في مجال حفظ السلم والأمن بين كل من الجمعية العامة ومجلس الأمن بشكل متوازن وفق مجموع القوى البشرية لكل من مجلس الأمن وأعضائه الدائمين وغير الدائمين وأعضاء الجمعية العامة، بحيث يختص مجلس الأمن بصلاحيات بذاتها مثل الاقتصادية والدبلوماسية، وأن تختص الجمعية العامة بصلاحيات استخدام القوة لحفظ الأمن والسلم أو ما شابه ذلك من اختصاصات. وكذلك من الممكن إلغاء حق النقض "الفيتو" واستبداله بنظام آخر يكفل المشاركة الواسعة في اتخاذ قرار حفظ السلم والأمن.
وفي هذا الصدد، يمكن القول إنه من حق الجمعية العامة أن تمارس دور الرقابة الدستورية للبرلمانات في الدول على الحكومات والأداة التنفيذية، وهو في هذه الحالة مجلس الأمن؛ وذلك بهدف التأكد من التزام المجلس بمضمون الميثاق الذي هو بمثابة الدستور، ورقابة أدائه، بل والتدخل عند تجاوزه صلاحياته أو تجاوزه لروح ميثاق الهيئة الدولية وغايته ألا وهي حفظ السلم والأمن الدوليين.
ولا شك أن إصلاح منظمة الأمم المتحدة قد يفتح الطريق أمام إصلاح النظام المالي العالمي واتفاقيات "بريتون وودز" والمؤسسات التي انبثقت عنها، أي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي؛ واللذين عجزا بدورهما عن مساعدة الدول النامية خاصة في مجال مكافحة الفقر والجوع وآثار التغير المناخي، إذ تعاني هذه الدول من ارتفاع فوائد الديون والتهامها جزءاً كبيراً من ناتجها الإجمالي. ويذهب العديد من المحللين إلى أن هذه المؤسسات تقرض الدول الأوروبية التي تتعرض لمخاطر اقتصادية بأكثر مما تقرض البلدان النامية.
ومن ثم، أصبح من الضروري تلازم إصلاح الأمم المتحدة مع إصلاح النظام المالي العالمي لانتشال الدول النامية من الفقر والجوع. ولا بد من الاعتراف أن مسار هذا الإصلاح المزدوج طويل، ويواجه العديد من العقبات؛ ومنها على الصعيد السياسي ومعارضة القوى الكبرى الفاعلة، أو على الصعيد الإجرائي والقانوني في حال توفر النية لإجرائه. ومهما كان مصير الإصلاح للمنظمة الدولية، فإنها "لن تقود العالم إلى الجنة"، وفي أفضل الأحوال قد تجنبه الجحيم، كما قال داغ همرشولد، ثاني أمين عام للأمم المتحدة.
3- غياب قادة الدول الكبرى:
ثمة ملاحظة تتعلق بغياب أربعة من قادة الدول الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن (وهم الرؤساء الفرنسي إيمانويل ماكرون، والروسي فلاديمير بوتين، والصيني شي جين بينغ، ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك) عن حضور فعاليات الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما يكشف عن أزمة التعددية في اللحظة التي يحتاج إليها العالم أكثر من أي وقت مضى. ولم يقتصر هذا الغياب على الأعضاء الدائمين الأربعة، بل غاب رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، أيضاً عن هذه الاجتماعات، بالرغم من أهمية الظروف التي تُعقد فيها في ظل تفاقم الأزمات الدولية من حرب أوكرانيا إلى ليبيا، ومن السودان إلى النيجر، بالإضافة إلى الكوارث المناخية المتفاقمة. وهذا الغياب الملحوظ لقادة الدول الكبرى قد يحمل رسالة بفقدان الثقة في الأمم المتحدة، وأنها أصبحت منبراً لإلقاء الخطب، بينما يتقرر مصير العالم خارجها.
وسبق أن تغيب الرئيس الصيني، شي جين بينغ، عن حضور قمة مجموعة العشرين التي عُقدت في الهند يومي 9 و10 سبتمبر الجاري، وهو ربما يعتقد أن الأمم المتحدة ليست المنبر الوحيد لعرض القضايا الدولية، حيث إن هناك مؤسسات أخرى مثل مجموعة "بريكس" التي تخدم مصالح بكين. أما فرنسا فقد أُعلن أن رئيسها، ماكرون، غاب عن اجتماعات نيويورك بسبب يتعلق بمواعيد مسبقة له خاصة باستقبال الملك تشارلز الثالث والبابا فرنسيس، إلا أن ذلك لا يمنع وجود مشكلة في التعاون الفرنسي الأمريكي، خاصة بعد الانقلاب العسكري في النيجر، ورفض الولايات المتحدة التدخل العسكري سواءً من قبل فرنسا أو مجموعة دول غرب إفريقيا.
من ناحية أخرى، كان لافتاً حضور الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، اجتماع الجمعية العامة ومجلس الأمن، وهو ما أثار المزيد من توجسات دول الجنوب التي حرمتها الحرب الأوكرانية من المساعدات والتمويل، وأصبحت أوكرانيا هي الأولوية للولايات المتحدة وحلفائها، في الوقت الذي تتفاقم فيه مشكلات إفريقيا في السودان والنيجر وغيرهما من البلدان.
4- عقد لقاءات على الهامش:
على هامش الدورة الثامنة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، كان لافتاً لقاء الرئيس الأمريكي، جو بايدن، برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وذلك بعد أن رفض البيت الأبيض إجراء المقابلة في مقر بايدن، واكتفى بها على هامش الجمعية العامة في نيويورك. ومن الواضح أن أزمة التعديلات القضائية في إسرائيل، وحل الدولتين، كانا محور المباحثات الجانبية بين بايدن ونتنياهو. وبصرف النظر عن ملابسات هذا اللقاء، فإن نتنياهو ربما لا يستطيع استثماره سياسياً في المواجهة مع المعارضة الإسرائيلية، لأنه لم يتم وفق ما كان يأمله نتنياهو ويُعول عليه.
كما شهدت الجمعية العامة لقاءً بين وزير الخارجية المصري، سامح شكري، ونظيره الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، وهو ما قد يفتح أفقاً جديداً للعلاقات بين القاهرة وطهران.
أيضاً كان لافتاً للانتباه، اللقاءات التي عقدها إيلون ماسك، مالك منصة "إكس" (تويتر سابقاً) وشركة "تسلا" للسيارات وشبكة "ستارلينك" للأقمار الاصطناعية، مع بعض رؤساء ورؤساء حكومات الدول، ومنهم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو. وكان أردوغان قد حرص على دعوة ماسك لحضور النسخة القادمة من مهرجان تكنوفيست المحلي لتكنولوجيا الفضاء في إزمير، وللاستثمار في تركيا خاصة في مجال صناعة السيارات الكهربائية. أما نتنياهو فقد دعا ماسك إلى وضع حد لما وصفه بـ"معاداة السامية" عبر منصة "إكس"، على حد قوله، مبدياً استعداد إسرائيل للتعاون مع ماسك في مجال الذكاء الاصطناعي والفضاء وفتح المجال للاستثمارات أمام الملياردير الأمريكي. ويُلاحظ في هذا السياق أن ماسك لم يعد مجرد فاعل تكنولوجي أو اقتصادي فحسب، بل تحول إلى فاعل سياسي مؤثر في العلاقات الدولية الراهنة، فالكثير من السياسيين والقادة ينشدون لقاءه ويرغبون في التعاون ومد الجسور مع ابتكاراته وشركاته المتنوعة.
مُجمل القول، على الرغم من أن الأمم المتحدة أسهمت في صياغة العديد من المفاهيم والقواعد القانونية الدولية، وتمكنت من تشخيص المشكلات والتحديات التي تواجه العالم سواءً ما يتعلق بالنزاعات أو التحديات المناخية وغيرها، بل وأوضحت الحلول لها؛ فإن الغائب الأكبر هو فيما يبدو توفر الإرادة السياسية لدى القوى الدولية الفاعلة والمؤثرة في مجريات الأمور في عالمنا اليوم.