عرض: عبدالله عيسى الشريف
قبل 300 عام، جادل العالم الألماني جوتفريد فيلهلم ليبنيز، بأن عالمنا هو الأفضل، واعتبر بأنه حتى لو كان الله قد خلق العديد من العوالم، فإن هذا الكمال والأفعال القائمة على العقل تعني أننا نعيش في أفضل العوالم الممكنة. إلا أنه إذا كانت الأرض تُعد مهد البشرية، فلا يمكن للأخيرة البقاء فيها إلى الأبد، إذ يمكن تصور أن هنالك مستقبلاً ممكناً للبشرية، من خلال استكشاف الفضاء، وتوسيع أثر الحضارة البشرية وإنشاء مواقع جديدة صالحة للسكن في النظام الشمسي.
في هذا الإطار، يستكشف عالم الفلك الإنجليزي كريس إمبي، في كتابه الصادر في العام 2023، تحت عنوان: "عوالم بلا نهاية: قابلية الكواكب الخارجية للسكن ومستقبل البشرية" التطورات المذهلة التي تجعلنا أقرب إلى اكتشاف الحياة خارج الأرض، واحتمال أن يعيش البشر على كوكب آخر، وما قد يعنيه ذلك لمستقبل البشرية.
عوالم بعيدة:
ينطلق الكاتب من أن الأرض هي العالم الوحيد المعروف حتى الآن بأنه يؤوي الحياة، إلا أنه منذ 30 عاماً، تم البدء في اكتشاف كواكب خارج النظام الشمسي، باعتبار ذلك مجالاً علمياً جديداً للتفكير في قابلية السكن ومكانة الأرض في مجموعة الكواكب، بالتعرف إلى العديد من العوالم التي قد تؤوي الحياة، والنظر في إمكانية أن يوفر أحدها موطناً جديداً حينما تصبح الأرض غير صالحة للسكن!
ويعود إمبي للفلاسفة اليونانيين الذين أكدوا أن الأرض كروية، إذ اقترح الفيلسوف اليوناني أريستارخوس، أن كوكبنا يدور حول الشمس، لكن هذا الاقتراح تم سحقه بسبب ثقل الحجج التي قدمها الفيلسوف أرسطو، الذي اعتبر الأرض ثابتة لأننا لا نشعر بأي حركة، حيث يبدو أن الشمس والقمر والكواكب تتحرك حولنا، لذلك يجب أن تكون الأرض في مركز الكون، ومن ثم، فلا يمكن أن يكون هناك عدة عوالم. إلا أن جاليليو، أثبت أن القمر عالم جيولوجي مثل الأرض، به جبال وسهول ووديان، من خلال تتبع أربع نقاط ظهرت بالقرب من المشتري، وكانت هذه الملاحظات بمثابة ناقوس الموت لفكرة أن الأرض كانت فريدة وأنها مركز الكون.
يجادل الكاتب بأن تطور الخيال العلمي خلال القرنين السابع عشر والتاسع عشر مع الثورة الصناعية والاكتشافات الكبرى في علوم الفلك والفيزياء والرياضيات أدى إلى استكشاف العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع والفرد، حيث يسجل الخيال العلمي تاريخ فهمنا المتزايد للكون وموقع الجنس البشري فيه. وبدءاً من خمسينيات القرن الماضي، وجد الخيال العلمي جمهوراً أوسع بفضل الأفلام والمسلسلات التلفزيونية الشهيرة.
الحركة الانعكاسية:
نظراً للتحديات الهائلة التي تقف في طريق المراقبة المباشرة للكواكب الخارجية، فربما ليس مفاجئاً أن يكون أول اكتشاف ناجح لكوكب حول نجم غير الشمس قد تم باستخدام طريقة غير مباشرة، وهي تعتمد على حقيقة أن النجم يتذبذب عندما يدور كوكب حوله. ووفقاً لقانون الجاذبية لـنيوتن، فإن أي جسمين في الفضاء يتم سحبهما تجاه بعضهما بعضاً بقوة تعتمد على كتل هذين الجسمين والمسافة بينهما، فأي كوكب يسحب نجماً بنفس القوة التي يسحب بها النجم الكوكب، ونتيجة لذلك؛ لا يبقى النجم ثابتاً، وإنما يتأرجح ذهاباً وإياباً بينما يدور الكوكب حوله، فالنجم والكوكب يدوران حول مركز جاذبية مشترك.
وكان التذبذب الصغير الذي يسببه كوكب في النجم الذي يدور حوله، والذي يُطلق عليه "الحركة الانعكاسية"، هو المفتاح لاكتشاف الكواكب الخارجية. حيث يتم استخدام هذه الميزات الطفيفة لمعرفة مكونات النجوم، وكيف تولد الطاقة عن طريق الاندماج النووي. وقد جاء تتويج قصة اكتشاف أول كوكب خارجي في ديسمبر 2019 حينما سافر مايور وكيلوز إلى ستوكهولم للحصول على جائزة نوبل في الفيزياء، وبذلك فقد انتهت قرون من التكهنات حول الكواكب الخارجية، وولد مجال علمي جديد مثير.
ويُعد القمر الاصطناعي "CoRoT" أول مهمة فضائية مصممة لاكتشاف الكواكب الخارجية العابرة، ولم يعثر سوى على 34 كوكباً خارج المجموعة الشمسية خلال ست سنوات من التشغيل. وفي ديسمبر 2001، تم اختيار كيبلر كمهمة فضائية تابعة لوكالة ناسا من فئة ديسكفري، وخلال ما يقرب من عشر سنوات من وجوده في المدار؛ فقد وجدت هذه المهمة أكثر من 2600 من الكواكب الخارجية، بما في ذلك عدة مئات من ذلك قريبة من حجم الأرض، ومنها مناطق صالحة للسكن، وعلى مسافة حيث يمكن أن توجد المياه السائلة على سطح الكوكب. ولأول مرة في التاريخ، علمت البشرية أن هناك عوالم أخرى مع إمكانية استضافة الحياة. وكجزء من متابعة ما توصلت إليه كيبلر، أطلقت وكالة ناسا القمر الاصطناعي العابر لاستطلاع الكواكب الخارجية "TESS" في عام 2018.
ويؤكد الكاتب أن نتائج "TESS" قيد التحليل، لكنها نجحت في الإعلان عن مجموعة من 2200 كوكب خارجي في عام 2021، وهو الرقم الذي ارتفع إلى أكثر من 4 آلاف بحلول منتصف عام 2022، كما ينتقد مقولة الناس إن العلم مُكلف، حيث يرى أن فيلم "Avatar" تكلف حوالي 250 مليون دولار للحصول على فيلم لمخرج مشهور عن الحياة في عالم بعيد، ولكن مقابل ضعف ذلك، يمكنك الحصول على مهمة تكتشف في الواقع المئات من الكواكب الشبيهة بالأرض، فالعلم صفقة جيدة.
العثور على كواكب خارجية:
يرى الكاتب أن هناك أداة للعثور على الكواكب الخارجية، وهي أيضاً ذات صلة بالبحث عن الأقمار الخارجية، حيث تعتمد هذه الطريقة على التنبؤ المركزي لنظرية النسبية العامة لأينشتاين بأن الكتلة تُثني الضوء، فقد استبدل أينشتاين مفهوم نيوتن للمكان والزمان ككيانات خطية ومستقلة بنظرية دمجتهم في كيان واحد، تسمى الزمكان، فكانت نظريته في الجاذبية بأن الكتلة يمكن أن تُثني الزمكان.
ويُعد التصوير المباشر هو أكثر طرق البحث وضوحاً لأنه دليل مباشر، وإن كان الأكثر صعوبة في الممارسة بسبب نسبة السطوع الهائلة بين النجم والكوكب القريب منه، ويمكن قياس المدار بسلسلة من الصور، على أن يكون خط البصر عمودياً على مستوى مدارات الكوكب ولا يتقاطع الكوكب مع النجم. إلا أن التصوير ليس فعالاً بالنسبة للكواكب التي تدور حول النجوم المضيئة، كما أنه يمثل تحدياً للأهداف البعيدة، حيث يصبح الفاصل بين الكوكب والنجم صغيراً بشكل لا يمكن قياسه، ولذا فقد تم تصوير أقل من 3% من الكواكب الخارجية فقط، على الرغم من جهود علماء الفلك في تحسين الأداء باستخدام البصريات الذكية.
وبناءً على ذلك، فقد اكتشف الباحثون كواكب موجودة في منطقة صالحة للسكن، على مسافة يمكن أن توجد بها المياه السائلة، وهذه المنطقة هي منطقة "Goldilocks" حيث الظروف مناسبة تماماً للبيولوجيا، وهذا يعني أن هناك ما يقرب من 4 كواكب صالحة للسكن في مكان قريب، في غضون 30 سنة ضوئية من الأرض.
ولما كان الماء ضرورياً للحياة، يصبح التساؤل: ما مدى أهمية الماء في تحديد إمكانية الحياة في بيئات الكواكب الخارجية؟ يعتمد التعريف الفلكي التقليدي لصلاحية السكن على درجة حرارة سطح الكوكب في النطاق الذي يمكن أن يكون فيه الماء سائلاً، ويقال إن الكواكب التي تحقق ذلك موجودة في منطقة "Goldilocks" في نظام كوكبي معين. خاصةً وأن الأرض في خطر، فتغير المناخ، والتدهور البيئي، والصراع القبلي، وتجاوز عدد السكان 8 مليارات نسمة، كل ذلك يهدد مستقبلنا على المدى الطويل.
ومع وجود عدد من العوالم الصالحة للسكن في مجرة درب التبانة، لا يمكن إلا للمتشائم أن يفترض أن جميعها قد ماتت. فالشكل الأكثر انتشاراً للحياة على الكوكب، وربما على الكواكب الخارجية، هو الميكروبات. وسيكون العثور على ميكروبات خارج الأرض بمثابة كشف علمي دراماتيكي.
صناعة الفضاء حلاً:
يرى الكاتب أن الصندوق هو كوكبنا، ويجب أن نفكر خارجه، فالأرض قد فقدت الكثير من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم بسبب التعرية أو التلوث أو الإفراط في الاستخدام، وإمدادات الوقود الأحفوري محدودة، كما يتم استنفاد الموارد المعدنية بسرعة أكبر من أي وقت مضى، وتلطيخ الأرض بالنفايات، فالعالم على مسار غير مستدام. وقد يكون التقدم الكبير في صناعة الفضاء حلاً.
وتعمل الشركات الخاصة مثل "SpaceX"، و"Blue Origin" على تهيئة المناخ لتكون السياحة الفضائية قابلة للحياة، مع وضع خطط لحصاد الطاقة والمعادن من أماكن خارج الأرض، وبما يمكن أن يسمح بتجاوز تقلص الموارد على كوكب الأرض. مع الأخذ في الاعتبار أن الاتصال بذكاء خارج كوكب الأرض سيكون له عواقب وخيمة على العالم، حتى لو كان من غير المُحتمل أن يحدث. لذا، يجب أن يشارك صانعو السياسات في تقرير ما إذا كان ينبغي لفت الانتباه إلى أنفسنا، ومن يتحدث باسم الأرض، وما هي الرسالة التي يجب أن نرسلها ومن يقرر، وكيف سيتم إدارة الاتصال، خاصةً وأننا لا نملك طريقة لمعرفة ما إذا كانت الكائنات الفضائية حميدة أم خبيثة.
وقبل أن نتمكن من التفكير في الفوائد التي قد نحققها من خلال توسيع نطاق استكشافنا للفضاء، يجدر التفكير في كيفية جعل الوصول إلى الفضاء أسهل، فحتى وقت قريب كان السفر إلى الفضاء صعباً وخطراً ومجالاً حصرياً للحكومات الغنية. لكن شركات الفضاء الخاصة تصوغ نموذجاً اقتصادياً جديداً للسفر إلى الفضاء يعتمد على السياحة والترفيه. فالنشاط التجاري الجديد هو لأصحاب المليارات، فلن يكون السفر إلى الفضاء إلا للأثرياء، وبما سيفاقم عدم المساواة القائمة.
لذلك، فإن توسيع بصمة البشر خارج الأرض سيعيد فقط عرض التاريخ الاستعماري والاستحواذي للعالم الغربي في ساحة جديدة. خاصةً مع وجود نقص التنظيم الذي يحدث صداعاً لمستكشفي الفضاء في المستقبل، وهو خردة الفضاء. إذ توجد حوالي 23 ألف قطعة من الحطام تتبعها شبكة المراقبة الفضائية التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية. وتسوء المشكلة أكثر مع إطلاق العديد من الأقمار الاصطناعية والمركبات الفضائية. ولا توجد معاهدة دولية تحكم الحطام الفضائي، في حين نشرت لجنة تابعة للأمم المتحدة مبادئ توجيهية طوعية في عام 2007. وفي عام 2019 منحت وكالة الفضاء الأوروبية أول عقد لتنظيف الفضاء، ومع ذلك لن يتم إطلاق المهمة المسماة "ClearSpace-1" حتى عام 2025.
على ذلك، يخلص الكاتب إلى أن المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية تشمل ارتفاع عدد سكان العالم، وتحديداً سكان الحضر، والناتج المحلى الإجمالي الحقيقي، والاستثمار الأجنبي المباشر، واستخدام الطاقة، والمياه، والنقل، ويؤدي كل ذلك إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض، والتدهور العام للغلاف الحيوي الأرضي، للحد الذي يمكن وصفه بالتسارع العظيم، وتجاوز حدود التشغيل الآمن للكوكب، وبما يدفع نظام الأرض إلى حالة أقل كرماً مع البشر، ويضر بالجهود المبذولة للحد من الفقر ويؤدي إلى تدهور الرفاهية في أجزاء كثيرة من العالم بما في ذلك البلدان الغنية.
ويختتم الكاتب؛ بالتأكيد أن الفضاء هو لوحة بيضاء، يمكن كتابة المستقبل فيها، ومحاولة تجنب الأخطاء التي تلطخ إرث العديد من الحضارات على الأرض. من خلال ما يُعرف بأخلاقيات الفضاء، والإشراف على بيئة الفضاء، وكيف يمكن لفوائد الفضاء أن تُفيد البشرية على نطاق واسع. وهذا هو أساس قانون الفضاء الذي يتكون من 5 معاهدات و5 مجموعات من المبادئ التي طورتها الأمم المتحدة من خلال لجنة استخدام الفضاء الخارجي في الأغراض السلمية، والتي تتمحور جميعها حول أن الفضاء هو "مجال الإنسان" وجميع الدول لها حرية "استخدام/ استكشاف" الفضاء الخارجي شريطة أن يتم ذلك بطريقة "تفيد البشرية جمعاء".
ويجادل الكاتب بأنه في غضون عشر سنوات، فلن يكون الفضاء حكراً على الدول، كما هو الحال مع الإنترنت، حيث تم احتضان التكنولوجيا من قِبل الحكومات، ثم تولى القطاع الخاص زمام الأمور. وبعد 40 عاماً من الآن، فإن المعلومات الجينية ستكون مجانية، وستكون قوة الهندسة الوراثية في أيدي الأفراد، بما يؤدي لإحراز تقدم في محاربة مجموعة من الأمراض الوراثية، حيث ينتقل "الأطفال المصممون" من الخيال إلى الواقع، وبما يستتبعه من اختيار المستوطنين على القمر والمريخ ليكونوا أذكياء في التكنولوجيا.
المصدر:
Chris Impey, Worlds Without End: Exoplanets, Habitability, and the Future of Humanity, The MIT Press Cambridge, Massachusetts, London, England, 2023.