** نشر هذا المقال في دورية (اتجاهات الأحداث) الصادرة عن مركز المستقبل، العدد الأول، أغسطس 2014.
تشير التطورات المتسارعة في العراق إلى نجاح تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المعروف باسم داعش، في السيطرة على مناطق واسعة من شمال العراق وشرقه، بل ووصوله إلى ديالى غرباً، مما يؤدي إلى تداعيات لا تقتصر تأثيراتها على سوريا والعراق وحدهما، ولكن يتوقع أن تمتد تأثيراتها إلى الأردن ولبنان كذلك، وأن تنذر هذه التطورات بزيادة الاحتقان المذهبي والطائفي، وإمكانية إعادة رسم خرائط المشرق العربي مرة أخرى، إذا ما تمكن داعش والقوى المتحالفة معه من إطالة أمد السيطرة على المناطق التي يحكمها في شمال وغرب العراق، بالإضافة إلى شرق سوريا.
ولذلك فإن التطورات الجارية في منطقة المشرق العربي تؤشر إلى احتمال تشكل السيناريوهات التالية:
أولاً: عراق مقسم
تعاني الحكومة العراقية أزمات عديدة سبقت الانتخابات البرلمانية التي أجريت في أوائل 2014، وكذلك الأزمة الحالية، والتي تمثلت أبرز ملامحها في صراع نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي، مع إقليم كردستان العراق من جانب، فضلاً عن تصاعد التوتر الطائفي السنّي– الشيعي، من جانب آخر، وذلك في الوقت الذي كثّف فيه تنظيم داعش من عملياته الإرهابية في العراق خلال العام 2013، حيث استطاع القيام بسلسلة تفجيرات انتحارية متزامنة في عدة محافظات عراقية، لتؤشر إلى تصاعد قدرات التنظيم ارتباطاً بالحرب السورية، وكذلك لوجود قدر كبير من السخط الشعبي من جانب العرب السنّة على الممارسات الطائفية لحكومة المالكي، الأمر الذي أوجد حاضنة اجتماعية للتنظيم في المناطق السنّية.
وقد كشفت سيطرة داعش على الموصل عن ضعف الدولة العراقية وهشاشتها المؤسسية، لاسيما المؤسسات الأمنية، وتشير العديد من المؤشرات إلى أن استيلاء داعش على مساحات واسعة من الدولة العراقية قد ينذر باندلاع حرب طائفية سنّية – شيعية، فالعمليات الانتحارية التي كان ينفذها داعش قبل سيطرته على مناطق واسعة من العراق، كانت تستهدف في جانب كبير منها الطائفة الشيعية، وتعمد إلى إسقاط أكبر قدر من القتلى الشيعة من المدنيين، فضلاً عن نداء المرجع الشيعي العراقي آية الله على السيستاني لمواجهة الإرهابيين وأعداء آل البيت، لتعكس تطوراً طائفياً صريحاً، وهي الدعوة التي وفرت غطاءً للميليشيات الشيعية، كتنظيم عصائب أهل الحق، وكذلك عناصر حزب الله العراقي وعناصر منظمة بدر المدربة من الحرس الثوري، اللتين بدأتا في العودة من الجبهة السورية للقتال في العراق.
كما أنشأ المالكي مديرية التعبئة والحشد، وبلغ عدد المتطوعين نحو مليون فرد بعد دعوة السيستاني، كما فتحت إيران هي الأخرى باب التطوع، وتطوع حتى الآن نحو 5 آلاف مقاتل، وبالتالي فإن الدولة اعتمدت على عسكرة المجتمع الشيعي في مواجهة الطائفة السنّية.
ومن جهة أخرى، فإن الحكومة العراقية شرعت في التفتيش على السلاح في الأحياء السنية، خاصة حي الأعظمية، كما حدثت عمليات اعتقال للسنّة والشباب ممن يُشك في قدرتهم على حمل السلاح، وذلك خوفاً من اختراق داعش والمجموعات المتحالفة معه لبغداد، في حين تم توزيع الأسلحة على الشباب في المناطق الشيعية.
ويكشف نجاح داعش في الاستيلاء على أراض واسعة تمتد ما بين بغداد إلى الموصل، وكذلك الحزام الغربي المحيط ببغداد، وصولاً للحدود السورية، عن نجاح التنظيم في إيجاد عمق استراتيجي له، وهو ما يفرض كثيراً من الصعوبات على الأجهزة الحكومية لاستعادتها.
كما أن ما حققه داعش من انتصارات في غرب العراق على طول الحدود العراقية – السورية، خاصة في مناطق تماس الأنبار العراقية مع محافظتي الرقة ودير الزور السوريتين، ونجاحه في السيطرة على معبر البوكمال، فضلاً عن نجاح عناصره في تحقيق مكاسب على الأرض في بعض القرى في ريف حلب، التي تقترب من إعزاز قرب الحدود التركية، تشير إلى أن ما حققه في العراق لن يأتي على حساب ما يجري في سوريا، خاصة مع وجود جنسيات مختلفة تابعة للتنظيم على استعداد للقتال في المناطق التي يحددها.
ومن جهة ثالثة، فإن هناك مؤشرات عدة لمحاولة داعش والمجموعات المتحالفة معه للتمدد في المناطق الشيعية، خاصة في كربلاء انطلاقاً من فضاء النخيب جنوب الرمادي، التي كانت تسعى الحكومة العراقية لضمها إلى كربلاء باعتبارها منطقة شيعية.
ومن جانب آخر، سعى الأكراد للاستفادة مما يحدث، حيث قامت قوات البيشمركة باستكمال السيطرة على كركوك ومنطقة الشلالات في الموصل، ثم سعت للسيطرة على المناطق المتنازع عليها في محافظة ديالى، خاصة مدينة المقدادية والسعيدية، لتحكم سيطرتها عليها في ضوء انسحاب القوات الحكومية العراقية من هذه المناطق.
وتطرح مثل هذه التطورات تقسيماً فعلياً للدولة العراقية بحكم الأمر الواقع، خاصة إذا ما ظل التوازن العسكري قائماً ما بين المجموعات السنية المسلحة والقوات الحكومية الشيعية والميليشيات المدعومة إيرانياً بطريقة تمنع أحد الطرفين من الانتصار على الآخر.
ثانياً: فيدرالية سورية
كشفت الحرب الدائرة على مدار ما يزيد على ثلاثة أعوام ما بين الحكومة السورية والمعارضة المسلحة، والتي تهيمن عليها التنظيمات الجهادية والسلفية، عن استمرار التوازن القائم على المستوى العسكري ما بين النظام والمعارضة على اختلافها، فلايزال النظام يستعصي على السقوط، بل وتشير بعض التقديرات إلى إمكانية نجاح النظام في البقاء لمدة خمس سنوات قادمة رضي العالم أم رفض، فقد نجح النظام في استعادة زمام المبادرة، وبدأ في السيطرة على مناطق رئيسية، كالزبداني والقلمون، كما أحكم سيطرته على الساحل السوري بعدما نجح في طرد جبهة النصرة من مدينة علوية، كما نجح في السيطرة على حمص وأدلب ودرعا، وترك الريف لفصائل المعارضة المسلحة.
وعلى الجانب الآخر، سيطر تنظيم داعش على محافظتي دير الزور والرقة، ويقوم بتهريب نفطهما، في مسعى منه لإيجاد الأسس الاقتصادية الكفيلة بإنجاح دولته التي تمتد من العراق إلى سوريا.
أما الأكراد، فقد اغتنموا الفرصة لكي يكون لهم وضع شبه مستقل، خاصة مع انسحاب القوات السورية من مناطقهم، وبدأ الأكراد يتحدثون عن إقامة فيدرالية في شمال غرب سوريا، وبالتالي فإن الدولة السورية معرضة هي الأخرى، إما إلى التحوّل إلى الفيدرالية الهشة أو إلى التقسيم هي الأخرى.
ثالثاً: أردن قلق
تشكل داعش تهديداً على الأمن القومي الأردني كذلك، فقد أشارت بعض التقارير الصحفية الأردنية إلى أن تنظيم القاعدة في الشام والعراق (داعش) قام بإنشاء فرع له داخل المملكة، وذلك لإقامة إمارة إسلامية بها، فضلاً عن إعلان داعش عن استراتيجية للتحرك في الأردن، وفي الحقيقة فإن داعش لا يحتاج لتجاوز الحدود الأردنية فهناك مجموعات موجودة في الداخل الأردني داعمة للتنظيم تنتظر إشارة التحرك، كما خرجت تلك المجموعات في تظاهرة تؤيد داعش وتحركاته في العراق، وهو ما دفع القوات الأردنية إلى الانتشار على الحدود الأردنية – العراقية.
ويزداد خطر داعش في ضوء قدرته – على المستوى النظري – على شن هجوم على الأردن من الجبهتين العراقية والسورية، غير أن التقييم الدقيق لخطر داعش على الأردن يؤكد عجز التنظيم عن تكرار الانتصارات التي حققها في العراق وسوريا، وذلك لعدة أسباب أولها: أن النظام الأردني يتمتع بقدر كبير من الاستقرار، فضلاً عن كفاءة الأجهزة الأمنية الأردنية، ويضاف إلى ما سبق، تمتع المملكة بدعم قوي من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية اللتين تمدان الأردن بالدعم المالي والاستخباراتي والعسكري اللازم.
وبالرغم من أن الأردن لديه تيار سلفي جهادي قوي، فقد كان أبو مصعب الزرقاوي – مؤسس تنظيم القاعدة في العراق – أردني الجنسية، فضلاً عن انتقال عناصر سلفية أردنية للمشاركة في القتال في سوريا، فإن المشهد الجهادي تهيمن عليه القوى المتحالفة مع القاعدة ووكيلها الإقليمي جبهة النصرة، فأبرز شيوخ الجهاد في الأردن، كأبي محمد المقدسي وأبي قتادة، انتقدوا داعش بسبب انشقاقه عن أيمن الظواهري، ولكن دون أن ينفي هذا كلية وجود تيار داعم لداعش بالأردن.
ومما سبق، يمكن القول إنه من الصعب أن ينجح التنظيم في التوسع في الأردن، ومن المتوقع بدرجة كبيرة أن تقتصر تأثيراته السلبية على تنفيذ عمليات إرهابية، خاصة مع وجود سوابق تاريخية لاستهداف التنظيم للأردن، فقد قام تنظيم القاعدة في العراق (قبل أن يغير تسميته إلى داعش) في عام 2005 باستهداف 3 فنادق غربية في عمان بهجمات انتحارية، فضلاً عن القصف بالكاتيوشا الذي استهدف مرفأي العقبة الأردني وإيلات الإسرائيلي.
رابعاً: لبنان مضطرب
يشهد لبنان منذ اغتيال الحريري في عام 2005 أزمات طائفية حادة، وصلت ذروتها في عام 2008، مع اكتساح حزب الله لبيروت، ليبلغ الاحتقان الطائفي ذروته بين السنّة والشيعة، ثم جاءت تطورات الأزمة السورية في عام 2011، ثم الأزمة العراقية في عام 2014، لتضيف للاحتقان الطائفي القائم بالفعل بين السنّة والشيعة، خاصة مع انخراط حزب الله وحلفائه (قوى 8 آذار) في دعم النظام السوري، فضلاً عن دعم تيار المستقبل وحلفائه (قوى 14 آذار) للمعارضة السورية الهادفة لإسقاط نظام الأسد، وهو ما أدى لاستقطاب طائفي حاد، خاصة أن سقوط نظام الأسد سوف يترتب عليه إضعاف كبير لحزب الله في النظام السياسي اللبناني، وهو ما جعل مستقبل النظام السياسي اللبناني وتوازنات القوى فيه مرتبطين بدرجة كبيرة بمستقبل النظام السوري.
ومن جهة ثانية، برزت الأزمة العراقية، كعامل إضافي يولد مزيداً من الاستقطاب، في ضوء إعلان حزب الله عن استعداده لإرسال النخبة من قواته لدعم الحكومة العراقية، فضلاً عن نجاح داعش في استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت في أكثر من مرة، وهي أحد معاقل "حزب الله" الأساسية، وهو مؤشر على أن لبنان مرشحة هي الأخرى لتزايد العمليات الإرهابية ذات الصبغة الطائفية، والتي تهدف لإثارة الحرب الأهلية على نحو يوفر بيئة خصبة لنشاط التنظيمات المتطرفة، خاصة أن العديد من الجماعات الإرهابية المتطرفة في لبنان قد انتقل بعضهم إلى سوريا، وتعاون مع الجماعات الجهادية كداعش والنصرة، واكتسب خبرة قتالية كبيرة، ككتائب عبدالله عزام، والتي تحولت لتصبح "جبهة النصرة" في لبنان.
ولذلك، فإنه من المرجح أن تنتقل الحرب الطائفية في العراق إلى لبنان، في ظل وجود صراعات داخلية، تغذيها العوامل الإقليمية، خاصة إيران والسعودية، كما أن تدفق اللاجئين السوريين إلى لبنان، وبلوغ حجمهم لقرابة حجم سكان لبنان، يهدد التوازن الطائفي القائم بين السنة والشيعة في لبنان لصالح السنّة، كون معظمهم ينتمون للطائفة السنّية.
خاتمة
وأخيراً يمكن القول إن مجمل التطورات في المشرق العربي تؤشر إلى أنه مقبل على توتر كبير، وأن المكاسب التي حققها داعش سوف تنعكس على الأوضاع في سوريا ولبنان والأردن، بما يفتح الباب أمام إمكانية إعادة رسم خرائط المنطقة، ليس فقط بسبب التدخلات الإقليمية والدولية، ولكن بسبب تنامي دور الطائفية، وتنامي قدرات الجماعات الإرهابية.
ولذلك فإنه من المتوقع أن تبقى الدولة الإسلامية في العراق والشام حقيقة واقعة، وسيصعب إخراجها من العراق وسوريا بما يضاعف من هيبتها ومكانتها، ويجعلها منطقة جاذبة للجهاديين من مختلف أنحاء العالم، بما يرشح استمرار الصراع المسلح في العراق لبعض الوقت، ولن يكون في مقدور الحكومة العراقية حصار نشاط الجماعة سريعاً، كما أنه من الواضح كذلك أن التنظيم لن يضحي بمكاسبه في سوريا، وهو ما يعني أن يستمر نزيف الدماء في سوريا لسنوات قادمة، فضلاً عن بقاء احتمالية انتقال العمليات الإرهابية إلى الأردن ولبنان.
ومن جهة أخرى، فإن داعش يسعى لأن يكون التنظيم الأم الذي تبايعه كافة التنظيمات الجهادية، على نحو ما وضح من إعلان داعش قيام الخلافة الإسلامية وتعيين أبو بكر البغدادي إماماً وخليفة للمسلمين، وتزداد خطورته في ضوء سعيه للتوسع في المنطقة العربية، وتكوّن جيوش صغيرة تابعة لداعش والنصرة، تتحرك على طول الحدود السورية– العراقية والسورية– اللبنانية، فضلاً عن سعيه لتنفيذ هجمات إرهابية تتعدى مناطق عمله المباشر في المشرق العربي، كالخلية الإرهابية التي شارك داعش في تكوينها بالتعاون مع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، والتي هدفت لاستهداف السعودية بالدرجة الأولى، أي أن منطقة المشرق مقبلة على موجة جهادية تكون واحدة من أهم عوامل عدم الاستقرار، وإحدى أدوات تقسيم منطقة المشرق.