رفضت محكمة عليا في باكستان، في 9 أغسطس 2023، استئناف رئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان، على الحكم الصادر بحقه بالسجن لمدة ثلاث سنوات، على خلفية اتهامه بالفساد المالي وإساءة استخدام المنصب العام. وكان خان قد جرى اعتقاله في مايو الماضي، لفترة وجيزة بتهم الفساد، قبل أن يتم إطلاق سراحه بعد ثلاثة أيام. وقد سحب البرلمان الباكستاني الثقة من عمران خان بصفته رئيساً للوزراء في إبريل 2022.
سياقات الأزمة:
تأتي التطورات المُتعلقة بالحكم على عمران خان بالحبس في خضم مجموعة من الأزمات الأخرى التي تؤثر في مُجمل المشهد السياسي في إسلام أباد، وهي كالتالي:
1. تفاقم الأزمات الاقتصادية: تواجه باكستان أزمة اقتصادية كبيرة منذ سنوات، ازدادت حدتها خلال الشهور الأخيرة مع شبح التخلف عن سداد ديونها المستحقة، وهو ما ألزم الحكومة بالدخول في مفاوضات شاقة مع صندوق النقد الدولي على حزمة تمويلية جديدة تبلغ قيمتها 3 مليارات دولار لسداد الديون المُستحقة. وهي الحزمة التي وافق عليها الصندوق في 12 يوليو 2023، وتُعد تكراراً مألوفاً للسياسة الاقتصادية في إسلام أباد خلال السنوات الماضية، والتي تُعد انعكاساً للتوترات السياسية القائمة سواءً الكامنة مثل الصراعات بين الأجهزة والحكومة أم التي تخرج إلى العلن مثل تلك التي تنتهي بسحب الثقة من رؤساء الوزراء وآخرهم عمران خان، وتؤدي في مجملها إلى عدم تنفيذ برامج الإصلاح الهيكلي المطلوبة للاقتصاد الباكستاني.
ونتيجة لهذه السياسات، كانت المؤشرات الاقتصادية لباكستان خلال الفترة الأخيرة في أدنى مستوياتها؛ إذ ارتفع معدل التضخم إلى 28.3% في يوليو 2023، بزيادة شهرية قدرها 3.4% تقريباً، بما يتجاوز التوقعات الحكومية بأن يكون في حدود 25%. فضلاً عن ذلك بلغ معدل البطالة 8% كأعلى مستوى في 50 عاماً. وبلغ الاحتياطي النقدي للبلاد نحو 9.1 مليار دولار في يونيو 2023، انخفاضاً من نحو 15.4 مليار دولار في يونيو 2022 و24.3 مليار دولار في يونيو 2021.
2. توتر في العلاقات الخارجية: اتسمت الفترة الأخيرة لتولي عمران خان رئاسة وزراء باكستان بتوتر علاقات إسلام أباد الخارجية، وخاصة مع الولايات المتحدة بعد أن زار روسيا في 24 فبراير 2022 وهو اليوم الذي انطلقت فيه الحرب الروسية في أوكرانيا، ما قُرئ غربياً بوصفه دعماً باكستانياً لروسيا في هذه الحرب. وهو ما يمكن أن يفسر ما قالت مصادر أمريكية إنه وثيقة مُسربة أشارت إلى أن واشنطن عملت مع بعض المؤسسات الباكستانية للإطاحة بعمران خان، بالشكل الذي أفضى في النهاية إلى سحب الثقة منه في إبريل 2023. وإلى جانب توتر العلاقات مع الغرب، دفعت رغبة باكستان في إعادة التفاوض حول دورها في مبادرة الحزام والطريق، حسبما أشارت مصادر، كجزء من محادثاتها مع صندوق النقد الدولي، إلى توترات في علاقة إسلام أباد ببكين.
وتؤدي التغييرات السياسية في البلاد على خلفية التوترات المتلاحقة إلى مزيد من عدم الاستقرار في علاقاتها الخارجية، مع ترقب لنتائج الانتخابات المُقبلة، على النحو الذي بدا فيما كتبه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بعد اختيار النائب السابق أنور الحق كاكار رئيساً لحكومة تصريف الأعمال: "تهانينا لرئيس الوزراء الباكستاني المؤقت الجديد أنور كاكار، بينما تستعد باكستان لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وفقاً لدستورها والحق في حرية التعبير والتجمع، سنواصل تعزيز التزامنا المشترك بالازدهار الاقتصادي".
3. اشتداد الصراع بين مؤسسات الحكم: يمثل سحب الثقة من عمران خان ثم الحكم عليه بالسجن في قضايا فساد ووجود عشرات القضايا الأخرى التي لا يزال متهماً فيها جزءاً من صراع داخلي في إسلام أباد بين مؤسسات الحكم، أو بالأحرى بين المؤسسات ذات الثقل والنفوذ داخل المشهد السياسي في البلاد طيلة السنوات الماضية وهي المؤسسات العسكرية والأمنية من جهة والسياسيين الذين يعارضون توجهات هذه المؤسسات أو يخرجون عما ترسمه من مسار سياسي من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أن عمران خان قد صعد إلى سدة رئاسة الحكومة مدعوماً بشكل أساسي من قبل هذه المؤسسات، فإن الخلافات التي نشبت بين الجانبين في سنوات حكمه - ومنها الخلاف بين خان ورئيس الجيش وقتها الجنرال قمر جاويد باجوا حول تعيين رئيس وكالة المخابرات الداخلية - قد أدت إلى هذا المصير الذي وصل إليه، وخاصة بعد الأحداث التي شهدتها البلاد في 9 مايو من احتجاجات واسعة لأنصار خان بعد احتجازه وقيامهم بمهاجمة منشآت عسكرية. ولذلك لم يكن غريباً أن تخرج تصريحات من الجيش وعمران خان بعد حجب الثقة عنه تتضمن تهماً متبادلة لكل طرف، منها التهم المتعلقة بالفساد، فترجمت تهم الجيش والحكومة برئاسة شهباز شريف إلى أكثر من 100 تهمة جنائية لخان، فيما وجه عمران خان تهماً للجيش وشريف بالدفع نحو توريطه في عدد من قضايا الفساد لمنعه من المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية المُقبلة.
نتائج مُتوقعة:
قد تسفر الأزمة الحالية في باكستان، عن عدد من التداعيات المُحتملة، يتمثل أبرزها في الآتي:
1. تأجيل الانتخابات: أصدر الرئيس الباكستاني عارف علوي قراراً، في 9 أغسطس 2023، بحل البرلمان بناءً على توصية رئيس الوزراء شهباز شريف، وذلك قبل ثلاثة أيام من انتهاء ولاية البرلمان، وهو ما أعقبه تعيين النائب السابق أنور الحق كاكار رئيساً لحكومة تصريف الأعمال التي ستشرف على إجراء الانتخابات المقررة دستورياً في غضون 90 يوماً من حل البرلمان. إلا أن واقع الأمر والأحداث في باكستان يرجح أن يجري تأجيل هذه الانتخابات وعدم إجرائها في نوفمبر 2023 كما هو مقرر، لمجموعة من الأسباب السياسية والأمنية والاقتصادية والإدارية؛ إذ أعلنت هيئة الرقابة على الانتخابات، في 17 أغسطس، أنه يجب تأجيل الانتخابات لأنها تحتاج إلى أربعة أشهر لإعادة ترسيم الدوائر الانتخابية لتعكس الإحصاء السكاني الذي أُجري أخيراً، وهو ما لن ينتهي قبل 14 ديسمبر 2023. ولا يُعد قرار هيئة الانتخابات بعيداً عن قرار سياسي، في المقام الأول، بضرورة أن تجرى الانتخابات في ضوء الإحصاء السكاني الجديد الذي تم في مطلع عام 2023، وصدرت نتائجه في مايو 2023، وهو ما قد يعني رغبة مؤسسات الدولة بإفساح الوقت لاستبيان مصير عمران خان والأحكام الصادرة ضده والتهم الأخرى الموجهة إليه.
2. تصاعد أعمال العنف: تطرح هذه الأوضاع المُختلفة في باكستان فرضية قوية لتصاعد أعمال العنف في البلاد، وذلك على أكثر من صعيد؛ أولاً: أن الحكم على عمران خان بالسجن وعدم قبول المحكمة العليا ينذر بتجدد احتجاجات أنصاره في الشوارع على غرار المشهد الذي حدث في مايو 2023، الذي أظهر قدرة أنصار خان على تعطيل الحياة العامة في البلاد، خاصة بعد اتخاذ خطوات مماثلة للتي تم اتخاذها ضد خان مع قيادات أخرى داخل حزب حركة الإنصاف، منهم شاه محمود قريشي نائب الأمين العام للحزب ووزير الخارجية السابق الذي تعرض للتوقيف في 19 أغسطس بعد أن عقد مؤتمراً صحفياً انتقد فيه رغبة السلطات في تأجيل الانتخابات. وقد تتعزز هذه الحالة إذا لم يتم الإفراج، ولو بكفالة عن خان، وهو أمر غير مُرجح في الوقت الحالي بعد رفض استئناف حكمه، أو تعرض لأذى داخل محبسه مثلما ألمح مقربون منه باحتمالات أن يتعرض للسم، مع تأكيد عمران خان لمحاميه أنه محتجز في ظروف مؤلمة، ودعوته لأنصاره في 5 أغسطس بأن ينزلوا إلى الشوارع وألّا يظلوا صامتين على ما يحدث. ثانياً: تشهد باكستان زيادة مطردة في النشاط الإرهابي خلال الفترة الأخيرة، مع تكرار الحوادث الإرهابية التي توقع عشرات الضحايا، ولا شك أن الاضطرابات السياسية والأمنية في البلاد على النحو السالف ذكره يمكن أن تقوّض على نحو واسع قدرة البلاد على مكافحة الإرهاب، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة هذه الحوادث الإرهابية وزعزعة الاستقرار الأمني خاصة مع التحديات الأمنية الناجمة عن الأوضاع في أفغانستان.
3. مُستقبل غير مُؤكد لعمران خان: لا يزال المستقبل السياسي لرئيس الوزراء السابق عمران خان غير مُؤكد، انتظاراً لما ستسفر عنه الطعون المقدمة أمام المحكمة العليا في الحكم الصادر ضده، فضلاً عن القضايا الأخرى التي صدرت فيها أحكام مثل حكم محكمة مكافحة الإرهاب، في 23 أغسطس 2023، والتي وافقت على القبض على خان في قضية تتعلق باعتداء محتجين على مقر للجيش بمدينة لاهور، أو تلك المُنتظر صدورها في بقية القضايا المتهم فيها. إلا أن الاحتمال الأكثر ترجيحاً هو ألا يتمكن خان من المشاركة في الانتخابات المُقبلة أياً كان موعدها؛ إذ إن الحكم الصادر ضده يمنعه حسب الدستور الباكستاني من ممارسة العمل السياسي وتولي المناصب العليا لمدة خمس سنوات، وحتى إذا ما قبلت المحكمة العليا الطعن المقدم من محاميه على الحكم فإن القضايا الأخرى ينتظر أن تصدر فيها أحكام بالإدانة ضده. ولكنه في المقابل سيبقى بوسعه ممارسة العمل السياسي سواءً من الناحية التنظيمية داخل حزب حركة الإنصاف انتظاراً لاستحقاقات مُقبلة، أم من داخل محبسه عبر توجيه قادة حزبه وأنصاره من خلال نفوذه الواسع، بما يزيد من فرص وحظوظ الحزب في الانتخابات المقبلة، ولاسيّما وأن استطلاعات الرأي لا تزال تؤكد أن عمران خان هو الزعيم الأكثر شعبية في باكستان، في مقابل انخفاض في نسب تأييد رئيس الوزراء السابق شهباز شريف وحزبه "الرابطة الإسلامية".
وفي التقدير، يمكن القول إن المعطيات الحالية تُشير إلى أن المرحلة المُقبلة في باكستان سيسودها عدم اليقين إلى حد كبير، مع توقعات مُرتفعة بأن تستمر حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني، وأن يكون تعويل رئيس الوزراء السابق عمران خان على سلاح الشارع كبيراً، خاصة إذا ما أُعلن بشكل رسمي تأجيل الانتخابات المُقبلة عن موعدها المقرر دستورياً في نوفمبر المقبل.