في مناطق عدة من الجسد العربي، ومن بين صور حزينة كثيرة تفرزها الأوضاع العربية المشتعلة، في العراق وليبيا واليمن وسوريا والسودان، حيث تشتعل النزاعات الداخلية المقوضة للاستقرار، ناهيك عن مأساة الاحتلال الدائمة في فلسطين؛ تبرز الصورة المؤلمة للمرأة العربية التي يبدو أنها تتحمل معاناة مضاعفة في تلك الأجواء الدموية. فإضافة إلى آلام التشريد والتهجير وفقدان العائل والعائلة، ومخاطر القتل أو الإصابة في ظروف رعاية صحية متردية، هناك أعباء التحول إلى عائل الأسرة الوحيد، وآلام التعرض للخطف والاعتداءات البدنية والجنسية وغيرها.
أدوار متعددة ومعاناة مضاعفة
تزداد معاناة المرأة العربية في مناطق النزاعات خصوصاً في فلسطين والسودان والصومال، وقد أضيفت لذلك دول "الثورات" العربية. فقد كانت خبرة المرأة في السودان خلال أزمة دارفور، والتي كانت مدخلاً لإثارة قضية العنف الجنسي داخل مجلس الأمن الدولي، وكذلك في الأزمة بين السودان وجنوبه، مثالين صارخين على معاناة المرأة. ثم اقترن الربيع العربي في ليبيا واليمن وسوريا بعنف شديد عصف بالمرأة بدرجات مختلفة؛ مما دفع مجلس الأمن إلى أن يدأب على التذكير بقراراته بشأن المرأة والأمن والسلام، في متن قراراته المختلفة التي تخص الوضع في هذه الدول.
وفي فلسطين، ومع تفجر الأحداث في غزة مؤخراً، تتوالى معاناة المرأة الفلسطينية التي تفقدها الصواريخ العمياء في لحظات قصيرة بيتها وأبناءها معاً. وفي العراق ما انفكت المرأة تتعرض لمخاطر القتل والخطف والاستباحة الجسدية منذ بدايات الألفية وحتى اليوم، حيث يجيء تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" ليضيف صورة أشد إيلاماً لصور معاناة المرأة، إذ تتعرض النساء - بدعوى تطبيق الدين للأسف - إلى موجة من الاضطهاد الغشوم الذي ينصب حول جسدها إلى حد بيعها في المزاد وإجبارها على الختان.
والحقيقة فإن المعاناة المضاعفة للمرأة خلال النزاعات المسلحة لم تعد من الأمور المسكوت عنها في الآونة المعاصرة، فقد ساهمت الكتابات النسوية على مدار الفترة منذ السبعينيات وحتى الآن في تغيير وتعميق النظرة لحضور وأدوار المرأة خلال النزاعات المسلحة، ولم يعد ينظر للمرأة كواحدة من ضحايا الحروب والنزعات المسلحة فحسب، بل بات يتم رصد الأدوار المختلفة التي تؤديها المرأة خلال النزاعات، لاسيما دورها في حفظ البناء الاجتماعي وحفظ الهوية ونضالها من أجل توفير موارد الرزق والحفاظ على العائلة في ظل ظروف استثنائية ضاغطة، فضلاً عن أدوارها كمناضلة ومشاركة في القتال.
وحتى مقاربة وضع المرأة كضحية أضحت أكثر عمقاً، إذ يتم ربطها بوضع المرأة في حال السلم، ويتم التأكيد على أن معاناتها خلال النزاعات هي امتداد لمعاناتها خلال السلم، حيث تخضع في الحالتين للبنية الاجتماعية "الأبوية" ذاتها، التي تحرمها من امتلاك الموارد، الرمزية والمادية، وتضعها في قاع سلم القهر الاجتماعي وتجعل نصيبها مضاعفاً وقت النوازل والمحن.
ومن جملة ما يشار إليه في هذا السياق اشتراك المرأة في النزاع كمقاتلة وممرضة وطاهية، وكونها قد تُختطف وتستخدم في تقديم الخدمات للجنود (الطبخ وحمل الأمتعة) وقد تصاب بالإيدز، كما أن الصراعات العنيفة تجبر المرأة على مغادرة بيتها وتعرضها لعنف تمييزي في عمليات البحث عن ملجأ آمن. وفي معسكرات اللاجئين تقوم كثير من النساء بالمهام التقليدية للرجل مثل كسب الرزق وحماية الأسرة، وتتعرض في ذلك لكثير من المخاطر مثل الاغتصاب تحت تهديد السلاح، أو التعرض لخطر الإصابة بالسلاح أو بالألغام. وقد تضطر المرأة لتحمل أوضاع اجتماعية شاذة مثل تزويج الطفلة أو التورط في زيجات غير ملائمة بالمرة، ضماناً للستر ولقمة العيش فقط. وصور مثل هذه شهدتها خبرة المرأة السودانية في أزمة دارفور، وكذا المرأة في سوريا عقب اندلاع الثورة، حيث التهجير القسري والإقامة في مخيمات تفتقر إلى احتياجات العيش الأولية.
"داعش" وعودة النزعات الجاهلية
يشار كذلك إلى الرمزية السياسية للمرأة وجسدها الذي يجعلها هدفاً لأنماط مختلفة من العنف، إذ قد يستخدم الاغتصاب كأداة في التطهير العرقي أو في إخلاء منطقة من ساكنيها أو لتغيير الموازين الديمغرافية أو لإذلال العدو وتركيعه نفسياً.
وفي الحالة العربية، فإن ما تفعله "داعش" بجسد المرأة الذي تفرض عليه قسراً صورة محددة من الحجاب والملبس، والإجبار على ممارسة الختان، بل وتعرضها للبيع في الأسواق، لهو استدعاء لأسوأ ما تحمله الذاكرة التراثية والاجتماعية من صور مشوهة للمرأة كمصدر للغواية أو كأَمةٍ تُبَاع وتُشتَرى.
ونافلة القول إن هذا الاستدعاء والإحياء لمثل هذه الأفكار الشائنة، لا يمت بصلة للدين الإسلامي الذي جاء محرراً للعقل العربي من تلك النزعات الجاهلية.
من ناحية أخرى، وهروباً من الصورة النمطية للمرأة كضحية على الدوام، يتم إبراز أدوار المرأة كمشاركة في النزاع، وكمقاتلة تحمل السلاح. وفي الخبرة العربية، لقيت مناضلات عربيات مصرعهن في ليبيا وغيرها ثمناً لموقفهن السياسي. وقد رفعت سيدات عراقيات السلاح ضد "داعش" وارتقين شهيدات، وسجلت أحداث الثورات العربية بطولات نسائية متنوعة، حيث شاركت النساء في الفعل الثوري بالكامل، وتراوح حضورهن بين عمليات بث الوعي وإشعال الحراك السياسي أو التظاهر أو دعم الثوار بالأدوية والغذاء والإغاثة إلى حد المشاركة الفعلية في القتال.
أوضاع المرأة بعد النزاعات
وتثير الكتابات "النسوية" كذلك قضية حقوق المُسرحَات من الجيش باعتبارها من القضايا التي يتم إغفالها عند بناء السلام بعد انتهاء النزاع، ويتم الدفع بأن احتياجات النساء والفتيات تهمل في عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، ولا تستفيد المحاربات ومقدمات الدعم والمعيلات بالقدر نفسه - مثل زملائهن الرجال - من الخدمات أو الحوافز النقدية أو الرعاية الصحية أو التدريب أو تحويلات السفر أو المنح المقدمة للأنشطة التجارية الصغيرة أو دعم الإسكان، التي تُقدَّم في إطار عمليات نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج. هذا فضلاً عن الحديث عن النساء كموارد لبناء السلام، والتأكيد على أن مشاركتهن في مفاوضات السلام ستضمن التأكيد على أولويات مختلفة تركز على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والأمن الإنساني.
وقد شهدت كثير من الدول العربية خبرة نشطة في ميدان دمج المرأة في مفاوضات السلام وفي كل مراحل حل النزاع، وكذا تعزيز مشاركتها الاجتماعية ككل. وبدت أكثر الدول نشاطاً على هذا الصعيد السودان التي طورت مراكز بحث وتدريب معنية بهذا الأمر على وجه الخصوص، وكذا اليمن حيث شاركت المرأة بنشاط وحماس شديدين في مؤتمر الحوار الوطني الذي استمر نحو 10 شهور كاملة، من دون أن يحقق بعد ختامه ما رجاه من توافق واستقرار اجتماعي وسياسي، بل تظل المواجهات المستمرة بين الحوثيين والجيش تفرض نفسها على البلاد، مما دعا مجلس الأمن مؤخراً لإصدار القرار رقم 2140 لسنة 2014 للتحقيق حول ماهية الجهات المعرقلة لمسار العملية السياسية في اليمن.
تجدر الإشارة كذلك إلى قضية ذات صلة مباشرة بالخبرة العربية لا تنفك الكتابات النسوية تثيرها، ألا وهي وضع المرأة ما بعد النزاع، وكيف يتجاهلها صانعو السياسة، ويعمدون إلى إقصائها إلى حيز "الخاص" من جديد وإبعادها عن نطاق صنع القرارات المجتمعية بعد النقلة النوعية التي حققتها على مستوى الوعي والإدراك والدور خلال النزاع نفسه وملابساته المريرة. وتشير العديد من الباحثات هنا إلى خلاصة مفادها أن تغير أدوار النوع الاجتماعي خلال المرحلة الاستثنائية للنزاعات - حيث تحوز المرأة مساحات مختلفة للحركة والفعل - لا تقترن بالضرورة بتغير علاقات النوع الاجتماعي وأبنيته في المجتمع، وهو ما ينشئ هذه الأزمة التي تتعرض لها النساء اللائي تفرض عليهن العودة لحدود ضيقة من الحركة بعد أن خبرن حرية أكبر خلال النزاع.
هذا الحديث يجد صداه داخل بلدان الثورات العربية، حيث شاركت المرأة بشكل كامل في الفعل الثوري بكل مراحله ونالها ما نالها من مضاره، ومع ذلك، وبعد استقرار الأوضاع في بعض الدول، أُقصيت عن الهياكل السياسية بشكل جلي، وبقيت خاضعة للمنظومة الاجتماعية ذاتها المحددة لحضورها ودورها.
المرأة والنزاعات المسلحة في البنية القانونية المعاصرة
في ظل هذا الإدراك الواسع لدور المرأة في النزاعات المسلحة، وتحت ضغط خبراء "الجندر" والفاعلية النسوية المكثفة، التي بات لها حضور فعلي داخل الأمم المتحدة، لم تعد البنية التشريعية القائمة والتي تعالج قضية المرأة في النزاعات المسلحة والمتمثلة في القانون الدولي الإنساني (هو القواعد القانونية التي تحمي الذين لا يشاركون في الأعمال الحربية، أو الذين كفوا عن المشاركة فيها، وتنظم وسائل القتال وأساليبه الواجبة التطبيق أثناء النزاعات المسلحة الدولية، وتلزم الدول وغيرها من جماعات المعارضة المسلحة أو القوات المشاركة في عمليات حفظ السلام أو إنفاذه إذا ما شاركت في أعمال قتالية) كافية. ويتشكل القانون الدولي الإنساني بالأساس من اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 والبرتوكولين الإضافيين لعام 1979 الملحقين بها. وتتجه مبادئ هذا القانون للجنسين دون تمييز كمبدأ عام، إلا أنها أشارت في غير موضع إلى المعاملة الخاصة للنساء.
وقد اعتبرت القراءات النسوية أن هذا القانون غير قادر على التعامل مع أشكال متنوعة من النزاعات، لاسيما النزاعات الداخلية والأهلية، التي أفرزتها التطورات العالمية المعاصرة، والتي تختلف عن واقع وظروف ومعطيات الحروب التي وُضع في ظلها هذا القانون. كما اعتبرت أن هذا القانون غير كاف في تقرير حقوق المرأة بمختلف حالاتها وأدوارها خلال النزاع المسلح، ورأت كذلك أن القانون، ومن منظور نوعي، يتضمن نوعاً من التراتبية الهرمية، بمعنى أن القواعد الخاصة بالمرأة تعامل على أنها أقل أهمية من غيرها وتصاغ بلغة مختلفة، ولا يؤخذ عدم الالتزام بها على محمل الجد.
واستجابة لهذا فقد اتخذت الأمم المتحدة منذ عام 2000 مساراً جديداً في نظرتها لقضايا المرأة والنزاع المسلح، إذ شهد شهر أكتوبر من هذا العام قيام مجلس الأمن، بالإجماع، وفي سابقة هي الأولى من نوعها، باعتماد القرار رقم 1325 بشأن المرأة والأمن والسلام، والذي حث الدول الأعضاء على زيادة تمثيل دور المرأة في جميع مستويات صنع القرار لمنع الصراعات وإدارتها وتسويتها، كما حث الأمين العام على تعيين المزيد من النساء كممثلات له ومبعوثات خاصات، وتوسيع الدور الذي تضطلع به المرأة ومساهمتها في عمليات الأمم المتحدة الميدانية. وتم تعزيز هذه التوصيات في قرارات تالية لمجلس الأمن هي: القرار رقم 1820 لعام 2008، والذي ركز على العنف الجنسي بوجه خاص، والقرار رقم 1888 لعام 2009 الذي ركز على العنف الجنسي أيضاً، والقرار رقم 1889 للعام نفسه (2009) والذي صدر بعد القرار 1888 بخمسة أيام مستعيداً الأجندة الواسعة للقرار 1325، ثم القرار رقم 1960 لعام 2010 الذي عاود الاهتمام بقضية العنف الجنسي مع التركيز على إجراءات المساءلة والعقاب.
والمتابع للقرارات الأممية التي تخص الدول العربية التي تشهد نزاعات مسلحة سيجد تذكيراً دائماً بتلك القرارات المعنية بقضية المرأة والأمن والسلام، التي أصبحت في البنية التشريعية الدولية الجديدة، من المسائل الأمنية ذات الأولوية التي يمكن أن تشكل سبباً للتدخل الدولي المسلح.
وقد تبنى مجلس الأمن في 15 أغسطس 2014 بالإجماع قراراً أعدته بريطانيا يتعلق بالتصدي لتنظيم داعش وتنظيم جبهة النصرة في سوريا، ونص ضمن نصوصه العديدة على دعوة جميع الأطراف لحماية السكان المدنيين من أي شكل من أشكال العنف الجنسي، ليضاف هذا القرار إلى ترسانة القرارات التي يصدرها مجلس الأمن بخصوص المنطقة العربية، والتي قد يشكل أي منها ذريعة تدخل عسكري، فقط حين تظهر مصلحة غربية قوية ومباشرة لا علاقة لها بمصالح قاطني هذا الإقليم الساخن العاجزين عن استشعار الوزن الحقيقي لمشكلاتهم ناهيك عن إيجاد حلول لها.