عرض: هند سمير
ثمة مجموعة من المتغيرات التي جعلت قضية مكافحة الإرهاب تتراجع أولويتها في السياسة الأمريكية، ومن أبرزها، انسحاب واشنطن من أفغانستان والعراق وتراجع قدرات تنظيمي "القاعدة" و"داعش" في العراق وسوريا على شن الهجمات، أضف إلى ذلك، تحول أولويات السياسة الخارجية الأمريكية نحو الاهتمام بالمحيطين الهندي والهادئ وأوروبا. مع ذلك، لا تزال بقايا وفروع التنظيمات الإرهابية موجودة في الشرق الأوسط وإفريقيا، وبالتالي لا يزال جزء كبير من المنطقة غير مستقر ولا يمكن التنبؤ به. كما أن العواطف المعادية للغرب مستمرة في أفغانستان وسوريا والساحل والصحراء وأماكن أخرى، لذلك لا يمكن أن تكون الهجمات الإرهابية المستقبلية مستبعدة.
من هنا، تأتي أهمية تقرير "تقييم شبكة الإرهاب" لمؤسسة "راند" الأمريكية خلال العام 2023، والذي يلفت الانتباه إلى أن الإرهاب ما يزال قائماً، وإن تراجع في ظل المتغيرات الجديدة، وهو ما يحتاج من واشنطن إلى البقاء في وضع الاستعداد والردع المستمر، خاصة مع تطور قدرات وإمكانات الجماعات الإرهابية. ويحدد التقرير إطاراً أو نهجاً تقييمياً للتهديدات الإرهابية يمكن أن يُكمل الجهود الفعالة التي يبذلها مجتمع مكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة الآن بعد أن صارت تلك القضية لا تُمثل التركيز الأساسي لتخطيط الأمن القومي للولايات المتحدة.
ووفقاً للتقرير، تنقسم مصادر التهديدات الإرهابية المتوقعة إلى فئتين، الأولى، الجماعات الإرهابية الكبيرة والمعادية للولايات المتحدة (بشكلٍ رئيسي في الشرق الأوسط الكبير وما حوله) من ناحية، والثانية، الشبكات الإرهابية الموزعة على نطاق واسع من الخلايا الصغيرة أو الأفراد المتطرفين. وتُعد الفئة الإرهابية الأولى حالياً هي الأكثر قدرة على تنفيذ هجمات مدمرة للغاية، إذ قد تتمكن الجماعات الإرهابية، سواءً أكانت مركزية أم لامركزية، من الوصول إلى وسائل متقدمة لتسهيل الهجمات، مثل أنظمة الطائرات من دون طيار بأسعار معقولة ومتاحة بشكلٍ متزايد؛ وشبكات البيانات والذكاء الاصطناعي والمعرفة الإلكترونية؛ وربما العوامل البيولوجية.
أما الوظائف التي يتعين على مؤسسات مكافحة الإرهاب الأمريكية القيام بها لمنع الهجمات، فيمكن حصرها في: جمع المعلومات الاستخبارية وتحليلها، ومهاجمة الإرهابيين مباشرة، وتعطيل قيادة وسيطرة واتصالات الإرهابيين، وخلق بيئة معادية لسفر الإرهابيين دولياً، وحرمان الإرهابيين من الملاذات الآمنة، وإعاقة تجنيد الإرهابيين، وتعطيل تمويل الإرهاب، وحشد التعاون الدولي والحفاظ عليه، وتجنيد الشركاء والوكلاء المحليين ودعمهم وإدارتهم، وحماية الأهداف الحيوية.
إطار التقييم:
يأخذ إطار تقييم التهديدات الإرهابية المطروح من مؤسسة "راند" في الاعتبار قدرات ونيات المنظمات الإرهابية المعروفة ويقارنها بالطرق والوسائل التي قد تستخدمها الولايات المتحدة وشركاؤها لمكافحتها، مع وجود استراتيجية مناسبة وأدوات ملائمة وكافية. ويجب أن يتطابق هذا التقييم مع ما يراه صانعو السياسة في الولايات المتحدة حدوداً مُرضية لاحتمالية وحجم التهديدات، ولاسيما أشدها خطورة. ويستند إطار التقييم إلى عناصر رئيسية، هي: العواقب، والتهديدات، والغاية، والقدرات، ويمكن تفصيلها فيما يلي:
- العواقب: فعلى الرغم من صعوبة تحديد العواقب المتوقعة قبل الهجوم الإرهابي فإن العواقب لا تزال هي الدافع وراء القرارات المتعلقة بالسياسات والموارد. على سبيل المثال، تم إنشاء إدارة أمن النقل لمنع هجوم على غرار أحداث 11 سبتمبر، كما تنشر وزارة الأمن الداخلي أجهزة الكشف عن الإشعاع وتشغلها في بعض مراكز النقل الرئيسية لمنع الهجمات النووية أو الإشعاعية. مثل هذه القدرات موجودة لأن هذه الأنواع من الهجمات قد تؤدي إلى عواقب وخيمة، ويمكن وصف العواقب بشكلٍ موضوعي (على سبيل المثال، الخسائر والأضرار الاقتصادية) أو بشكلٍ فردي (على سبيل المثال، مطالبة المواطنين الأمريكيين لحكومتهم بحمايتهم والتي تؤدي إلى استثمارات تزيد عن الحاجة).
- التهديدات: يأخذ إطار تقييم "راند" في الاعتبار نية الجماعات الإرهابية وقدرتها وإمكانية وصولها، بحيث يمكن مساعدة صانعي السياسات على فهم تطور تلك الجماعات. ويحدد التقرير رؤية التهديد الإرهابي في جانبين أحدهما، الجماعات الإرهابية، والثاني، الإرهاب على أنه شكل من أشكال التعبير السياسي. بالنسبة للأول، ستكون هناك قدرات منفصلة يمكن إعداد القدرات الأمريكية على أساسها لمكافحته، وسيبدو التقييم أشبه بطرق التقييم التقليدية المستخدمة لمقارنة جيوش الدول القومية. أما بالنسبة للتهديد الإرهابي الثاني، ستكون المقارنة أقل كمية، لكنها لا تزال ضرورية لأنها سترصد الاعتبارات غير المرتبطة بجماعات إرهابية محددة وستكون مفيدة في توجيه السياسات والتخطيط وقرارات الميزانية.
- الغاية: وتتكون من مكونين رئيسيين وهما: الهدف من الهجوم الإرهابي على هدف معين، والقرار التنفيذي لمحاولة الهجوم، ويمكن أن يكون الهدف واسعاً جداً (على سبيل المثال، هجوم على معلم بارز في الولايات المتحدة دون تحديد أي منها)، في حين أن القرار التنفيذي محدد، ويتطلب قدرات معينة، ويخضع لعمليات صنع القرار العادية للمنظمات حول المخاطر واحتمالات النجاح. تنطبق الغاية أيضاً على مكافحة الإرهاب، كأسلوب للتعبير السياسي، حيث إن التنبؤ بوجود تهديد بهجمات إرهابية من نوع معين، حتى لو لم تكن مرتبطة بمجموعات محددة، سيعطي تصوراً حول القدرات اللازمة لإحباطه.
إن فهم الحكومة الأمريكية لغاية جماعة إرهابية معينة هو نتاج معلومات استخباراتية، سرية ومفتوحة المصدر، وقد ركزت الولايات المتحدة، عبر إدارات رئاسية متعددة، على تلك الجماعات الإرهابية الأجنبية التي تهدد بمهاجمة الولايات المتحدة، أو المصالح الأمريكية في الخارج، أو الشركاء والحلفاء الرئيسيين للولايات المتحدة. وعلى مدى العقد الماضي، شملت تلك الجماعات الإرهابية، "القاعدة"، والدولة الإسلامية في العراق وسوريا "داعش"، وفروعاً معينة، إلى جانب منظمات مختلفة تتلقى دعماً مباشراً من إيران (على سبيل المثال: حزب الله اللبناني، والمليشيات الشيعية العراقية، والحوثيين).
- القدرات: يأخذ إطار تقييم "راند" في الاعتبار قدرة الجماعة الإرهابية على شن هجوم خطر من أي نوع على الولايات المتحدة أو مصالحها المحلية أو الأجنبية. فقد تعرب جماعة إرهابية عن نيتها استهداف الولايات المتحدة، لكنها تفتقر إلى الأفراد والموارد المادية والمالية والبنية التحتية والتدريب اللازم للتخطيط الناجح للهجوم والاستعداد له وتنفيذه، وهذا الإعراب عن نية الاستهداف بإمكانه تحفيز الآخرين للقيام بذلك.
في هذا الإطار، هناك فئتان من القدرات اللازمة لمنظمة إرهابية: تلك التي تحافظ على وجود المجموعة، وتلك التي توفر القدرة على شن هجوم محدد. الفئة الأولى، تتعلق بالقدرات التنظيمية، وتشمل عناصر مثل: الأيديولوجيا، والقيادة، والتجنيد، والدعاية. أما الثانية، فتتعلق بالقدرات التنفيذية، وتشمل عناصر مثل: القيادة، والسيطرة، والأسلحة، والفضاء التشغيلي، والأمن التشغيلي، والتدريب، والاستخبارات الأساسية، والخبرة الفنية والمتخصصين، ومصادر الأسلحة الخارجية، والمال، ومهارات الخداع.
هنا، ينصرف تقييم القدرة على مكافحة الإرهاب إلى مقارنة الوسائل اللازمة لمواجهة التهديدات الإرهابية المعروفة، والوسائل المطلوبة للحذر والاحتياط، وهو ما يمكن الاستخلاص منه بأن فهم العديد من القدرات التي يمكن استخدامها ضد أكثر من تهديد في وقتٍ واحد، من شأنه أن يشير إلى الأدوات الأمريكية اللازمة للحفاظ على البلاد آمنة. الأهم من ذلك، أن التقييمات لا تتعلق فقط بمقارنة كمية للقدرات، فمن العوامل المهمة في فحص القدرات الإرهابية تحديد ما إذا كان الإرهابيون يرون أنها كافية للتغلب على طرق ووسائل مكافحة الإرهاب الأمريكية، وفي هذا الصدد، يُعد الردع عاملاً حاسماً في التأثير في عملية صنع القرار لمنظمة أو جماعة إرهابية، خاصة ما إذا كان سيتم شن هجوم وكيفية القيام به، وبالتالي يجب أن يكون جزءاً من التخطيط الأمريكي.
وعلى الرغم من أنه لا يتم فحص ردع جماعات الإرهاب في تقرير "راند"، فإنه إذا رأى الإرهابيون أن استعدادات الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب قوية بما يكفي لجعل الهجوم محفوفاً بالمخاطر، فعندئذ ستتأثر نياتهم بشكلٍ إيجابي، وينخفض التهديد، وتكون المخاطر أقل.
الوصول إلى الأهداف:
يعني الوصول، في هذا السياق، كلاً من الوصول المادي والاعتقاد من جانب الجماعة الإرهابية بأنها يمكن أن تنجح مع وجود مخاطر معقولة. على سبيل المثال، يتعين على جماعة إرهابية تريد مهاجمة طائرة تجارية أن تمر من الأمن في مطار المغادرة، وأن تضع في اعتبارها إمكانية وجود قائد جوي فدرالي يمكنه إحباط الهجوم على الطائرة.
وعلى الرغم من أن الجماعات الإرهابية نفذت هجمات ناجحة ضد المصالح الأمريكية في الخارج في العقدين الماضيين، فإن هجوماً كبيراً ومنسقاً ضد الولايات المتحدة لم يحدث منذ 11 سبتمبر. وذلك الأمر هو نتيجة التعاون بين المخابرات الأمريكية، وجهات إنفاذ القانون، وكيانات مكافحة الإرهاب العسكرية، والدعم من الحلفاء والشركاء الأجانب.
وتعتمد احتمالية أن تكون المجموعة الإرهابية قادرة على شن هجوم مادي يتسبب في وقوع إصابات كبيرة على ثلاثة أمور أساسية، وهي (1) أن يكون هنالك هدف به نقاط ضعف قابلة للاستغلال، (2) اعتقاد جماعة إرهابية أن خطر مهاجمة هدف معين لديه الثغرات القابلة للاستغلال مقبول، و(3) امتلاك الجماعة الإرهابية القدرات المطلوبة، والتي تختلف وفقاً لقدرات مكافحة الإرهاب الأمريكية.
ويحذر تقرير "راند" في الأخير من أنه في ظل مجتمع مفتوح كالولايات المتحدة، سيكون هناك دائماً عدد هائل من الأهداف الأكثر عرضة للتهديد الإرهابي إذا تم النظر إليها بمعزل عن غيرها. على سبيل المثال، كل تجمع كبير من الناس لديه مستوى معين من الضعف. ومع ذلك، نظراً لأن جهود مكافحة الإرهاب الأمريكية قد حققت نجاحاً كبيراً، فإننا ننظر إلى الضعف، أو احتمال حدوث هجوم ناجح عبر مقارنته بالقدرات الأمريكية، وإلى أي مدى منتشرة وكيف ينظر إليها الإرهابيون.
ويشير غياب الهجمات الأجنبية اللاحقة داخل الولايات المتحدة منذ 11 سبتمبر إلى أنه طالما تم الحفاظ على قدرات الولايات المتحدة ونشرها بشكلٍ مناسب والنظر إليها على هذا النحو من قبل الإرهابيين، فإن هنالك فرصة كبيرة لردع أو منع الهجمات الإرهابية الكبرى.
المصدر:
Terrence K. Kelly, David C. Gompert, Karen M. Sudkamp, Terrorism Net Assessment, Research Report, The RAND Corporation, 2023.