فى عالم السياسة الخارجية الأمريكية، عادة تُطرح أسئلة عديدة حول الدوافع التى تدعو الولايات المتحدة إلى تبنى سياسات خارجية معينة دون غيرها؟ وما هى القيود أو المعايير التى تحكم هذه السياسات؟ وهل تصمد السياسات مع تغير الإدارات الرئاسية والتحول المستمر فى الظروف؟
وتتعلق النقطة المحورية فى الحديث عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة بما إذا كانت تتأثر بمدى توافق الدول الأخرى مع «القيم» الأمريكية، والمقصود بذلك مبادئ الديمقراطية الليبرالية أو الاعتبارات الاقتصادية المرتبطة باقتصاد السوق، أم أن المحرك الأساسى لهذه السياسات الخارجية هو «المصالح» الأمريكية. وهل النهج القائم على «القيم» فى سياسات الولايات المتحدة أكثر بروزًا فى الإدارات الديمقراطية منه فى الإدارات الجمهورية؟ أضف إلى ذلك أنه فى جميع الأحوال لا يمكن التغاضى عن الدور الذى تؤديه العوامل الأمريكية المحلية فى تشكيل السياسات الخارجية للولايات المتحدة، مما يزيد من تعقيد التحليل.
محددات وأولويات متغيرة
تتميز السياسات الأمريكية عامة بشفافيتها، وسرعة خطاها، وتركيزها بشكل أساسى على القضايا المحلية. وهو الأمر الذى يتجلى فى دورة انتخابات الكونجرس الجزئية أو الكاملة التى تجرى كل عامين، وتشهد تحولات جزئية أو كلية. ويلعب الإعلام دورًا محوريًا فى هذا السياق، خاصةً المرئى، فى المشهد السياسى. فعلى سبيل المثال، أدت التغطية الإعلامية لمشهد مقتل الجنود الأمريكيين فى فيتنام فى أواخر الستينيات، وكذلك التغطية الإعلامية للصعوبات الاقتصادية التى واجهتها الولايات المتحدة فور تحرير الكويت عام 1991، إلى عدم تجديد ولاية الرئيس الأمريكى.
وبينما تقوم الإدارات الرئاسية المختلفة بصياغة وتنفيذ السياسات الخارجية للولايات المتحدة، يتحكم مجلسا النواب والشيوخ فى الميزانية، ومن ثم يؤثران فى العديد من قضايا الأمن القومى، ومن منظور الناخب الأمريكى لاعتبارات انتخابية محلية.
ويمكن متابعة التحولات فى السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية عبر الإدارات الرئاسية المختلفة، حيث أظهر الجمهورى رونالد ريجان اتجاهًا عدائيًا إزاء الاتحاد السوفيتى. بعد ذلك قام الرؤساء الجمهوريون والديمقراطيون بشكل سواء بزيادة التركيز على الإصلاح الاقتصادى. ثم تبنى الجمهورى جورج دبليو بوش فكرة تغيير النظام والإصلاح الديمقراطى فى التعامل مع دول الشرق الأوسط خلال فترة ولايته الأولى. ودعم الديمقراطى باراك أوباما الترويج بشكل مؤسسى للديمقراطيات الليبرالية، وإنما فعل ذلك ليس كمبادرة وإنما كرد فعل تجاه الأحداث المحلية، ومرجحًا المصالح على القيم إذا اضطر إلى الاختيار بينهما.
ودونالد ترامب، السياسى غير التقليدى، لم يتبنَ حقًا مبادئ أىٍّ من الحزبين، ومارس سياسة تعاقدية قصيرة المدى دون الدخول أو التأثير فى الجدل حول هذه البدائل، وشهدنا جو بايدن يبدأ حملته الانتخابية عام 2020 بالتركيز على الإصلاح والقيم، ولكن سرعان ما جذبت مصالح الأمن القومى سياسته وصارت هى المسيطرة والمرجحة لتوجهات قراراته.
لذلك لا يمكن لأى من الطرفين، سواء الجمهورى أو الديمقراطى، الادعاء بأنه يروج حصريًا لسياسة خارجية أمريكية قائمة على «القيم». فكلاهما غض الطرف عن تطبيق هذه «القيم» عندما تعارضت مع المصالح الأمريكية، أو كان المنتهك المزعوم لها حليفًا للولايات المتحدة.
مراجعة شرق أوسطية
ولتسليط مزيد من الضوء على ما إذا كانت «القيم» أم «المصالح القومية» هى التى تحدد السياسات الأمريكية المستقبلية، لعلنا ننظر لعلاقاتها بأقرب أصدقائها فى المنطقة..
1- المغرب:
تقع المغرب على شواطئ البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسى بالقرب من مضيق جبل طارق، ولها روابط تاريخية مع الولايات المتحدة تعود إلى حرب الاستقلال الأمريكية، حين سمح السلطان محمد الثالث للسفن الأمريكية باستخدام الموانئ المغربية بموجب نفس الشروط التى مُنحت للدول التى لديها علاقات تعاهدية.
واهتمت الولايات المتحدة بضمان علاقات ودية مع دولة ذات موقع استراتيجى، وبخاصة خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتى. وكان تبادل المعلومات الاستخباراتية بين البلدين حجر الزاوية فى علاقتهما، بهدف تعزيز مصالحهما الأمنية المشتركة، وعزز ذلك معارضة المغرب القوية للتطرف، ولـ«القاعدة» على وجه الخصوص، حيث كان للبلدين هدف مشترك متمثل فى مكافحة الإرهاب. هذا وأسهم امتلاك المغرب احتياطيات ضخمة من مادة الفوسفات فى زيادة اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة. لأهميتها الاقتصادية والجيوسياسية الكبيرة، وظلت المصالح القومية على الدوام هى العامل الأساسى الذى يحدد كيفية تعامل الولايات المتحدة مع المغرب.
فحتى قبل إدارة ترامب، ومع وجود خلافات بين البلدين حول كيفية التعامل مع «البوليساريو» فى الصحراء الغربية، كانت المصالح القومية الشاملة للولايات المتحدة هى التى توجه قراراتها السياسية الخارجية وكيفية تعاملها مع المغرب.
2- مصر:
تتمتع مصر بموقع استراتيجى لوقوعها بالركن الشرقى لشمال إفريقيا مع امتداد شبه جزيرة سيناء فى أراضيها بغرب آسيا، ولها أهمية جيوستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، فضلًا عن وزنها السياسى أثناء الحرب الباردة، فى قيادة العمل العربى المشترك وقيادة عدم الانحياز. علاوة على ذلك كانت مصر محددًا مبادرًا وقاطعًا للسلام والأمن والاستقرار بالمنطقة، خاصةً فيما يتعلق بالصراع العربى- الإسرائيلى منذ حرب 1973. وقد امتدت الجهود المشتركة بين البلدين لمجالات مختلفة، بما فى ذلك تحرير الكويت، والحرب ضد الإرهاب، حيث تعمل مؤسسات الأمن والدفاع فى كلا البلدين معًا بشكل وثيق، وأدت القيمة الاستراتيجية لقناة السويس بالأراضى المصرية إلى تعميق العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة ومصر.
لقد شهد مسار العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر تأرجحًا بين الصعود والهبوط على مر السنين. والجدير بالذكر أنه كانت هناك فترات خلال إدارة جورج دبليو بوش تم فيها التأكيد علنًا على نهج «قائم على القيم»، متمثل فى دعوات لإجراء إصلاحات سياسية فى مصر، والتهديد بوضع مشروطية للمساعدات، غير أن المصالح القومية الأمريكية ساهمت فى الحفاظ على تعاون الدولتين وتوسعها. وقد انتعش خطاب «قضايا الإصلاح والديمقراطية» مرة أخرى خلال رئاسة أوباما بعد الإطاحة بحسنى مبارك عام 2011، وبلغ ذروته عام 2013، قبل أن ينحسر تدريجيًا بعد عام 2014.
أما بالنسبة لخطاب الحملة الانتخابية لبايدن، الذى كان يروج للنهج السياسى المرتكز على «القيم»، فنجد أنه سرعان ما تراجع مع الأزمة الأولى بين إسرائيل وغزة، حين توسطت مصر لتهدئة التوتر المتصاعد. ومنذ ذلك الحين استقرت العلاقات بين مصر والإدارة الأمريكية الحالية، وشهدت تحسنًا تدريجيًا فى العلاقات. تكمن أقوى ركائز العلاقات الأمريكية- المصرية على وجه التحديد، كما ذكرنا سابقًا، فى سياق الصراع الإسرائيلى- الفلسطينى، وذلك نظرًا لموقع مصر الجغرافى ولنفوذها السياسى. وتُعد مصر مهمة أيضًا فيما يتعلق بمصالح الأمن القومى الأمريكى على طول جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط، وكذلك فى شرق إفريقيا.
إذن فالمصالح الأمريكية هى المحدد الأساسى الذى يحكم ويوجه علاقات الولايات المتحدة بمصر. وقد تكون القيم المتضاربة فى بعض الأحيان عاملًا مقيدًا أو معقدًا سياسيًا فى طبيعة العلاقات بين البلدين. ومع ذلك عادة ما تكون مثل هذه التوترات مؤقتة وتتفوق عليها فى النهاية اعتبارات الأمن القومى الأمريكية.
3- إسرائيل:
يُنظر لإسرائيل دائمًا على أنها أقوى حليف للولايات المتحدة بالشرق الأوسط، ويُعزى ذلك إلى مفهوم «القيم المشتركة»، فضلًا عن أهمية إسرائيل بالنسبة لـ«الأمن القومى» لأمريكا.
هناك تعاون تكنولوجى كبير بين البلدين، وتدفق كبير للأسلحة المتقدمة خاصةً من الولايات المتحدة إلى إسرائيل. بالإضافة إلى أن هناك تبادلًا للمعلومات الاستخباراتية خاصةً فيما يتعلق بمنطقة الشام وإيران، وإنما لم تشارك إسرائيل فى العمليات العسكرية الأمريكية داخل المنطقة العربية نظرًا للحساسية السياسية.
تردد الولايات المتحدة وإسرائيل فى كثير من الأحيان أنهما ديمقراطيات ليبرالية ذات اقتصادات سوق. ومع ذلك فإن الإجراءات التى اقترحها رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، للحد من استقلال القضاء يراها النقاد دليلًا واضحًا على أن إسرائيل لم تعد تتمسك بمبادئ الديمقراطية الليبرالية كما كانت. ومن المهم أيضًا الاعتراف بأن إسرائيل قد احتلت الأراضى الفلسطينية واستمرت فى توسيع مستوطناتها غير القانونية مما يُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولى، وهو تناقض صريح مع العمود الرئيسى للنظم الديمقراطية وهو احترام القانون.
يعود الدعم المستمر من أمريكا لإسرائيل ليس فقط لكون إسرائيل حليفًا لأمريكا، وبينهما «قيم مشتركة»، أو أنها تجد عندها ما يخدم أمنها القومى، بل يرجع إلى حد كبير إلى نجاح إسرائيل فى توجيه النظام السياسى الأمريكى الداخلى. وإنما يعتبر عدم تلقى رئيس الوزراء الإسرائيلى دعوة إلى زيارة واشنطن بعد تشكيل الحكومة الجديدة رسالة قوية وواضحة بوجود توتر بين البلدين بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وانعكس ذلك فى تصريحات صريحة للرئيس بايدن مؤخرًا.
4- الأردن:
يحتل الأردن مكانة مهمة كحليف أساسى للولايات المتحدة فى بلاد الشام. ويقوم التعاون بين البلدين على أساس السعى إلى خفض التصعيد فى المنطقة، ويشمل تعاونًا أمنيًا كبيرًا، وهناك اعتراف بمسؤوليات الأردن تجاه الأماكن المقدسة بالقدس، ودوره فى استضافة اللاجئين الفلسطينيين والسوريين والعراقيين.
ويبدو أن المصالح الأمريكية فى الأردن تهدف بالمقام الأول إلى ضمان حدود إسرائيلية- أردنية سلمية وآمنة، بالنظر إلى كون المملكة الهاشمية قوة معتدلة فى المنطقة.
5- الخليج:
التصنيف التقليدى لعلاقات الولايات المتحدة مع دول مجلس التعاون الخليجى أنها تُمثل معادلة «الأمن من أجل الطاقة»، كما ورد فى نص التعبير عنها فى معاهدة كارتر عام 1980، وتباين حجم المصالح وقوى الالتزامات الأمريكية من دولة خليجية إلى أخرى، اعتمادًا على قدرة تلك الدولة فى مجال الطاقة وتفاعلها مع المصادر المجاورة. وكان تحرير الكويت عام 1990 تجسيدًا واضحًا لهذه العقيدة.
هناك أيضًا عوامل أخرى تؤدى دورًا مهمًا فى تحديد علاقات الولايات المتحدة بدول الخليج، مثل مدى التسهيلات العسكرية والتعاون العسكرى الذى يمكن أن تمنحه كل دولة خليجية، فضلًا عن أن استعدادات كل دولة وقدرتها على التأثير فى المنطقة تُعد عاملًا آخر مهمًا من العوامل التى تحدد شكل وعلاقة هذه الدولة بالولايات المتحدة.
مع ظهور تكنولوجيا النفط الحجرى انخفض اعتماد أمريكا على الطاقة المستوردة من دول الخليج على الرغم من أن مصادر الطاقة بها لاتزال مؤثرة وبقوة فى تسعير الطاقة العالمية. ولقد أدى انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى إلى تقليص أهمية الشرق الأوسط فى ذهن الولايات المتحدة. ومع ذلك فإن الأزمة الأوكرانية، واعتماد الصين المتزايد على نفط الخليج قد أعادا مرة أخرى الاهتمام بالمنطقة. وقد ألقت استضافة الصين الاتفاق السعودى- الإيرانى مزيدًا من الضوء على العلاقات الإقليمية المتغيرة، والتى ستؤثر لا محالة فى السياسات الأمريكية تجاه المنطقة.
لقد كانت المصالح والسياسات الأمريكية فى منطقة الخليج العربى قائمة فى جوهرها على السياسة الواقعية العملية ومصالح الأمن القومى. ولقد صارت زيارات قادة دول الخليج العربى إلى واشنطن أقل تواترًا، وإن كان الرئيس بايدن قد التقى أخيرًا بقادة عرب فى الخليج. فعلى الرغم من الظروف الصعبة والفريدة من نوعها، والتى أدت إلى توتر العلاقات بين الولايات المتحدة والعديد من أصدقائها الخليجيين الرئيسيين، فإن الوقت والمصالح المشتركة، ولاسيما الطاقة دفعت الأطراف إلى إعادة العلاقات فيما بينهم، ومحاولة تجنب تفاقمها.
يمكننا استخلاص أن السياسات الخارجية الأمريكية، وكذلك سياسات القوى الكبرى الأخرى مثل روسيا والصين، مدفوعة بشكل أساسى باعتبارات الأمن القومى الملموسة، والتى ستكون دائمًا هى العامل الحاسم والمحدد لهذه السياسات.
* وزير الخارجية السابق