هسبريس ـ مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية رسمياً، يوم 7 يوليو 2023، تزويد أوكرانيا بالذخائر العنقودية، ضمن حزمة جديدة من المساعدات العسكرية لدعم كييف في هجومها المضاد ضد روسيا. والذخائر العنقودية هي عبارة عن أسلحةٌ تتكون من حاويةٍ تفتح في الهواء وتنثر أعداداً كبيرة من “القنابل الصغيرة” أو الذخائر الصغيرة المتفجرة، والتي يتراوح عددها بين عدة عشرات إلى ما يزيد على 600، وذلك على مساحة واسعة. وتتسم أغلبها بأنها غير دقيقة التوجيه، بمعنى أنها لا تـُوجه بصفة فردية نحو أي هدف ما. وتتراوح التقديرات حول معدلات عدم انفجار هذه الأسلحة في النزاعات ما بين 10% إلى 40%، مما يشكل خطراً بالغـاً على المدنيين، خاصة وأنها تنفجر لاحقاً عند لمسها باليد، أو تحريكها.
أبعاد القرار الأمريكي:
يلاحظ أن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، سعى إلى تبرير القرار، في حين أن روسيا، والمنظمات الحقوقية، انتقدته بشدة، وتحفظت عليه بعض الدول الأوروبية، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- قرار صعب: دافع الرئيس الأمريكي، جو بايدن، عن “قراره الصعب للغاية” بتزويد أوكرانيا بقنابل عنقودية، والتي لها سجل في قتل المدنيين، إذ برر ذلك على أساس أن “ذخيرة الأوكرانيين تنفد”. وقد يكشف هذا الأمر عن عجز الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى في حلف “الناتو” عن إمداد كييف بالذخيرة الكافية لمواصلة الهجوم الأوكراني، والذي اعترفت واشنطن أخيراً بأنه يواجه صعوبات. فقد أشار رئيس هيئة الأركان الأمريكية، مارك ميلي، في 1 يوليو 2023، إلى أن الهجوم المضاد الأوكراني أبطأ مما كان متوقعاً، في حين سعى منسق الاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض، جون كيربي، لإلقاء اللوم على فشل الهجوم المضاد إلى الطقس والأشهر الطويلة التي سمحت للقوات الروسية بالاستعداد للدفاع.
2- عمل يائس: وصفت الخارجية الروسية في بيان صادر يوم 8 يوليو، القرار الأمريكي بأنه “عمل يائس”، بل وعدته دليلاً إضافياً على فشل “الهجوم المضاد” الأوكراني، في حين جدد البيان تأكيده أن روسيا ستواصل تحقيق أهداف عمليتها العسكرية في أوكرانيا، مؤكدة بأن إمداد أوكرانيا بالقنابل العنقودية لن يؤثر في مسار العملية العسكرية الخاصة، في إشارة محتملة إلى أن موسكو قد توظف أسلحة جديدة، أو مماثلة للرد على إمداد أوكرانيا بهذه النوعية من الأسلحة.
3- ترحيب أوكراني: رحب وزير الدفاع الأوكراني، أوليكسي ريزنيكوف، بقرار الولايات المتحدة إرسال قنابل عنقودية إلى كييف، قائلاً إن ذلك سيساعد في تحرير الأراضي الأوكرانية، لكنه تعهد بعدم استخدام الذخائر في روسيا. وزعمت الخارجية الأمريكية أن أوكرانيا قطعت لواشنطن وعوداً بأنها ستستخدم القنابل العنقودية المحرمة دولياً “بطريقة مسؤولة”، وأنها سوف تحافظ على السجلات المتعلقة بمناطق استخدامها، وتبادلها مع الحلفاء، غير أنه من الملاحظ أن مثل هذه التعهدات لن تكون مجدية بالنسبة لموسكو، خاصة وأنه سبق وأن أعلنت الدول الغربية مراراً أن الأسلحة المرسلة من قبلها لأوكرانيا سوف تستخدم داخل أوكرانيا فقط، غير أنه في الهجمات التي نفذت ضد إقليم بيلغورود الروسي، في مطلع يونيو 2023، استخدم الجيش الأوكراني مدرعات غربية.
4- معارضة أوروبية: أكد رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، في 8 يوليو، أن بلاده وقعت اتفاقية “لا تشجّع على استخدام” الذخائر العنقودية، في إشارة إلى اتفاقية أوسلو لعام 2008. وفي المقابل، قالت وزيرة الدفاع الإسبانية، مارغريتا روبليس، في نفس اليوم، إنه ينبغي عدم إرسال قنابل عنقودية إلى أوكرانيا، مؤكدة أن بلادها لديها التزام قوي بعدم تسليم أسلحة وقنابل معينة تحت أي ظرف، وذلك على الرغم من التزامها بدعم أوكرانيا. وأشارت ألمانيا، التي وقعت على نفس معاهدة الحظر، إلى أنها لن تقدم مثل هذه القنابل لأوكرانيا، وإن أبدت تفهمها للموقف الأمريكي.
5- انتقادات حقوقية: انتقدت جماعات حقوق الإنسان القرار الأمريكي، فقد رأت منظمة العفو الدولية إن الذخائر العنقودية تشكل “تهديداً خطراً لأرواح المدنيين، حتى بعد فترة طويلة من انتهاء النزاع”، بينما أكد تحالف “الذخائر العنقودية الأمريكية”، وهو جزء من حملة المجتمع المدني الدولية التي تعمل على القضاء على هذا النوع الأسلحة، أنها ستسبب “معاناة أكبر اليوم، ولعدة عقود مقبلة”، وهو ذات التقييم الذي ذهبت إليه منظمة هيومن رايتس ووتش الأمريكية. وأكد المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، رغبته في عدم رؤية هذه الأسلحة تستخدم ميدانياً.
دلالات الدعم الأخير:
تكشف خطوة واشنطن عن دعم أوكرانيا بالأسلحة العنقودية عن عدد من الدلالات، يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- المساندة الأخيرة: أشار الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في حديث لقناة “آي بي سي” الأمريكية في مطلع يوليو، إلى أنه تلقى “إشارات خطرة” فيما يتعلق بتقليص المساعدة المقدّمة لأوكرانيا، وإن أكد أنها “تصدر عن سياسيين أمريكيين بشكل منفرد”، في مؤشر على أنها لم تتحول بعد إلى سياسة متفق عليها داخل الإدارة الأمريكية.
وكانت وسائل الإعلام الغربية قد أشارت قبيل الهجوم الأوكراني المضاد، وذلك نقلاً عن مسؤولين أمريكيين وغربيين، إلى أن الهجوم المضاد سوف يكون المحدد الرئيسي لأي مساعدات قادمة لأوكرانيا، في إشارة إلى أنه في حالة إخفاق أوكرانيا في تحقيق نجاح عسكري في هذا الهجوم ضد الجيش الروسي، واستعادة جانب من الأراضي التي سيطر عليها، فإن الدول الغربية سوف تراجع هذا الدعم، بما يعنيه ذلك من إجبار أوكرانيا على التوصل لتسوية سلمية مع روسيا، قد تتضمن الإقرار بفقدانها أراضٍ لصالح الأخيرة.
ولعل ما يؤكد هذا المعنى أن هذه النوعية من القنابل تتسم بفاعلية عند توظيفها ضد القوات البرية المختبئة في الخنادق أو النقاط الحصينة، كما أنها لا تنفجر بمجرد سقوطها على الأرض، بل في وقت لاحق، أثناء محاولة جمعها أو وطئها بالأقدام، مما يؤدي إلى مقتل أو تشويه الضحية، وهو ما يجعل المناطق الشاسعة خطرة للغاية إلى حدٍ قد يحول دون السير فيها إلا بعد تطهيرها بعناية، أي أن القوات الأوكرانية سوف تسعى لاستخدام هذه النوعية من القنابل في محاولة لاجتياز الخطوط الدفاعية الروسية. وفي حالة إخفاق ذلك، فإن القنابل الصغيرة المنتشرة بعد سقوط القنابل العنقودية سوف تعرقل أي تقدم عسكري روسي مضاد.
ولعل ما يؤكد هذا المعنى تأكيد المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، كولين كال، إن تزويد أوكرانيا بذخائر عنقودية سيجعل “الروس يعرفون أن الأوكرانيين سيبقون في اللعبة” عندما يتعلق الأمر بالحرب.
2- انتهاك أمريكي فاضح: يلاحظ أن إحدى أدوات الحرب الأمريكية ضد روسيا هي توظيف الحرب القانونية الحقوقية ضد موسكو، وذلك عبر اتهامها بارتكاب جرائم حرب في روسيا، على غرار الاتهامات الموجهة لها، بالقيام بتصفية مدنيين في مدينة بوتشا الأوكرانية، أو اتهام المحكمة الجنائية الدولية لبوتين بالمسؤولية عن ارتكاب جريمة حرب متمثلة في ترحيل أطفال أوكرانيين إلى روسيا. وعلى الرغم من أن موسكو نفت هذه الاتهامات، فإن واشنطن سعت لممارسة ضغوط على الدول الأخرى لتقليص علاقاتها بروسيا، وهي الجهود التي لم تلق نجاحاً.
وعلى الجانب الآخر، فإن إعلان واشنطن صراحة إمداد أوكرانيا بالقنابل العنقودية يُمثل انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني، ويشكل جريمة حرب، إذ إنه ينتهك عدة مبادئ من هذا القانون، أبرزها مبدأ التمييز، إذ إن هذه النوعية من الذخائر تكون غير دقيقة التوجيه، ومن ثم قد تضرب مناطق خارج الموضع العسكريّ المستهدف. وعندما تُستخدم هذه الأسلحة في مناطق مأهولة بالسكان أو قريبة منها، يمكنها أن تشكل خطراً كبيراً على المدنيين، إبّان الهجوم وأيضـاً في فترة ما بعد الضرب مباشرةً عندما يستأنف الناس أنشطتهم الطبيعية. ويعني ما سبق أن واشنطن سوف تكون متورطة مع أوكرانيا في ارتكاب جرائم حرب، وهو ما يفقدها الأرضية الأخلاقية التي تدعي أنها تستند إليها في دعمها لأوكرانيا، كما أن أي محاولة لشن حرب قانونية ضد روسيا سوف تكون بلا قيمة عملية.
3- خيارات روسية قائمة: يلاحظ أن موسكو لم توضح الكيفية التي سترد بها على هذا التصعيد الأمريكي، ولكن يُعد أحد الخيارات المتاحة أمامها هو توظيف نفس السلاح ضد القوات الأوكرانية المهاجمة، وهو ما يحيد أي تأثير متوقع للهجوم الأوكراني المضاد، كما لا ينبغي التهوين من امتلاك الجيش الروسي لقدرات عسكرية أكبر من القنابل العنقودية، قد يلجأ إلى استخدامها لتحييد أي ميزة عسكرية قد تحققها أوكرانيا باستخدام هذه النوعية من القنابل.
ومن جهة أخرى، طالب القائم بأعمال جمهورية دونيتسك، دينيس بوشيلين، باتخاذ إجراءات استباقية ومضادة عبر تحديد مواقع هذه الذخائر بمجرد وصولها إلى أراضي أوكرانيا، وتدميرها في إشارة إلى المزاعم التي انتشرت حول قيام القوات الروسية بتدمير مخزن لذخائر اليورانيوم المنضب، وهي الذخائر التي كانت بريطانيا قد أعلنت اتجاهها لإمداد أوكرانيا بها لتوظيفها ضد الجيش الروسي في مارس 2023.
4- التغطية على الانتكاسات: جاء الإعلان عن إمداد أوكرانيا بالقنابل العنقودية ليؤكد أن هناك إجماعاً داخل دوائر صنع القرار العسكرية في الولايات المتحدة على أن أوكرانيا غير قادرة على إحراز أي تقدم يذكر ضد الجيش الروسي، في هجومها المضاد، وأن الأسلحة الغربية المرسلة من معدات، سواءً دبابات أو ناقلات جند، أو غيرها من المدرعات، لم تصنع أي فارق في مسار العملية العسكرية، وأن مواصلة الهجوم الأوكراني على هذا النحو سوف يكبد كييف خسائر عسكرية فادحة دون انتصارات ميدانية مقبولة تبرر التكلفة البشرية والمادية الباهظة.
ومن جهة أخرى، سعت أوكرانيا لإثارة قضية أخرى، وهي الانضمام إلى حلف “الناتو”، بل وطالبت بأن يلتزم الحلف بذلك في قمة “الناتو” في ليتوانيا، المقررة في 11 يوليو 2023، وهو المطلب غير الواقعي في الظروف الحالية، بالنظر إلى أن انضمامها، وهي في حالة حرب مع روسيا، سوف يعني هجوم الحلف ضد روسيا دعماً لأوكرانيا بشكل مباشر، وفقاً لمبدأ الدفاع الجماعي، أي شن حرب نووية تفني العالم، وليس من الواضح أن لدى أي دولة غربية الاستعداد للذهاب إلى هذا الخيار دفاعاً عن أوكرانيا. وقد أكد هذا المعنى الرئيس الأمريكي، جو بايدن، إذ أشار في 9 يوليو، إلى أنه ليس هناك “إجماع في الناتو حول ما إذا كان سيتم ضم أوكرانيا إلى أسرة الناتو الآن”، عارضاً مواصلة الدعم العسكري لأوكرانيا كبديل. ولذلك، فإن إمداد أوكرانيا بالقنابل العنقودية قد يُمثل محاولة للتغطية على انتكاسة الهجوم الأوكراني المضاد، بالإضافة إلى تأكيد مواصلة الحلف دعمه لأوكرانيا، وذلك على الرغم من رفضه لعضويتها.
وفي الختام، يمكن القول إن واشنطن تواصل جهودها لإنجاح الهجوم الأوكراني المضاد، عبر إمداد أوكرانيا بالقنابل العنقودية، خاصة بعدما تكبدت كييف خسائر فادحة في هجومها المضاد، دون أن تتمكن من تحقيق انتصارات ميدانية تبرر هذه التكلفة المرتفعة. وفي المقابل، سوف تتجه موسكو إلى دراسة الخيارات المتاحة أمامها للرد على هذا التصعيد، سواءً عبر استهداف شحنات الأسلحة الأمريكية إلى أوكرانيا، أم عبر توظيف قنابل عنقودية مماثلة.