أنهى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، جولته الخليجية التي استمرت ثلاثة أيام (17 - 19 يوليو 2023)، وشملت على الترتيب كلاً من المملكة العربية السعودية وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة؛ بنتائج إيجابية مهمة دفعت كثيرين إلى الحديث عن انتقال العلاقات الخليجية التركية إلى الشراكة الاستراتيجية، وعززت الآمال والطموحات بآفاق مستقبلية واعدة للعلاقات بين الجانبين.
الاقتصاد أولاً:
تصدر ملف تعزيز التعاون الاقتصادي بين تركيا ودول الخليج العربية قائمة الأهداف التي سعى الرئيس أردوغان إلى تحقيقها من جولته الخليجية؛ في ضوء تراجع مؤشرات الاقتصاد التركي في السنوات الأخيرة، وتبعات الزلزال الذي ضرب البلاد، وهبوط العملة المحلية الليرة التركية مقارنة بالدولار الأمريكي. إذ يرغب الجانب التركي في تشجيع وتعزيز التجارة والاستثمار المتبادل، ولاسيما في ظل تنامي القوة الاقتصادية لدول الخليج العربية وتراكم الفوائض المالية لديها. ويُمثل وقف التدهور واستعادة النمو الاقتصادي واستدامته، هدفاً رئيسياً لحكومة أردوغان بعد إعادة انتخابه في ضوء استمرار أزمة الليرة التركية التي هبطت قيمتها بأكثر من 28% هذا العام، والخسائر الاقتصادية الضخمة التي تسبب فيها الزلزال والتي قُدرت بأكثر من 84 مليار دولار، أو ما يُعادل 10% من الناتج الإجمالي للبلاد.
وتأكيداً لذلك، أكد الرئيس التركي نفسه أولوية البُعد الاقتصادي لجولته الخليجية، قائلاً إن "الزيارة لها هدفان هما: ملف الاستثمارات، وملف التمويل أو الملف المالي، وآمالنا كبيرة، والاستثمار في تلك الدول وهنا في تركيا سيكون موضوع بحث". كما يتضح ذلك أيضاً من حجم الوفد الاقتصادي المرافق لأردوغان في زيارته، حيث شارك أكثر من 200 رجل أعمال تركي في المحادثات التي تمت على مستوى الوفود خلال زيارة دول الخليج الثلاث.
وعلى الرغم من ارتفاع حجم التبادل التجاري الثنائي بين تركيا ودول الخليج العربية خلال الـ20 عاماً الأخيرة من 1.6 مليار إلى نحو 22 مليار دولار، وفق ما أشار إليه أردوغان نفسه، فإن أنقرة تتطلع إلى تعزيز التعاون التجاري والاستثماري بين الجانبين باعتباره إحدى الرافعات التي تُعول عليها في تنشيط الاقتصاد التركي مستقبلاً، ولدى تركيا خطط طموحة لمضاعفة هذا الرقم ثلاث مرات تقريباً في السنوات الخمس المقبلة. ويُمثل مشروع "طريق التنمية" (الممر الاقتصادي بين تركيا والخليج) الذي تم إعلانه في مطلع يونيو الماضي، إحدى المبادرات المهمة التي تُعول عليها أنقرة في تطوير التعاون الاقتصادي الخليجي التركي، حيث يهدف هذا المشروع إلى إنشاء ممر نقل جديد بطول 1200 كيلومتر من السكك الحديدية والطرق السريعة بين تركيا والخليج. وفي حال تم تنفيذ هذا الممر الجديد، فإنه سيسهم بصورة كبيرة في إنعاش العلاقات التجارية بين تركيا والعراق ودول الخليج، وخاصة في قطاع النفط والغاز، وجعل تركيا واحدة من الدول المحورية في قطاع الطاقة، وتعزيز العلاقات التجارية بين دول الخليج والغرب.
وبالرغم من هيمنة البُعد الاقتصادي، فإن أهداف جولة الرئيس التركي لم تقتصر على هذا البُعد فقط، حيث شملت أهدافاً أخرى؛ من بينها: سعي أنقرة لاستعادة دورها الإقليمي، وإعادة بناء وتعزيز علاقاتها مع دول الخليج بعد فترة من التوتر، ولاسيما مع السعودية على خلفية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي والموقف التركي من الأزمة القطرية قبل إنهائها في يناير 2021، وتعزيز علاقات التعاون الاستراتيجي بين الجانبين في مجالات أخرى من بينها التعاون الدفاعي والعسكري، والتعاون في مجال الطاقة التقليدية والنظيفة، إلى جانب التنسيق في مجال العمل المناخي في ضوء قيادة دول الخليج العربية وتحديداً دولة الإمارات ملف العمل المناخي الدولي في العام الجاري من خلال استضافتها لمؤتمر الأطراف "كوب 28" في نوفمبر وديسمبر المقبلين.
مسار الشراكة:
أسفرت جولة أردوغان الخليجية عن العديد من النتائج المهمة التي ترسم مساراً واعداً لمستقبل الشراكة الاقتصادية والاستراتيجية بين الجانبين الخليجي والتركي. فعلى المستوى الاقتصادي، وقّعت دولة الإمارات وتركيا مذكرات تفاهم واتفاقيات بقيمة 50.7 مليار دولار، شملت العديد من المجالات بما في ذلك اتفاقية بشأن التشجيع والحماية المتبادلة للاستثمارات، ومذكرة تفاهم في مجال التحول الرقمي، واتفاقية إطارية للشراكة الاستراتيجية بشأن تطوير مشاريع الطاقة والموارد الطبيعية، ومذكرة بشأن التعاون في تطوير قدرات مركبات الإطلاق المشتركة للأغراض التجارية بين وكالة الإمارات للفضاء ووكالة الفضاء التركية، ومذكرة تفاهم في مجال تمويل ائتمان الصادرات، وأخرى للتمويل عن طريق الصكوك المالية للإغاثة من الزلازل، ومذكرة ثالثة بين مكتب أبوظبي للاستثمار ومكتب الاستثمار التابع للرئاسة التركية.
كما تم الإعلان عن اتفاقيات اقتصادية عدة مع السعودية وقطر (ما زالت قيمها غير مُعلنة)، وذلك بعد نحو أسبوع من ملتقى الأعمال السعودي التركي الذي عُقد في إسطنبول، وتم خلاله توقيع 16 اتفاقية تعاون بين الجانب السعودي والشركات التركية في مجالات التطوير العقاري والإنشاءات والاستشارات الهندسية وعدد من القطاعات الاستثمارية الأخرى بقيمة تتجاوز 2.3 مليار ريال سعودي.
وركزت الاتفاقيات الاقتصادية الجديدة بين تركيا ودول الخليج على زيادة الاستثمارات الخليجية في تركيا، حيث تشكل الاستثمارات من دول مجلس التعاون الخليجي 7.1% من الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا منذ عام 2020، فيما بلغت قيمتها نحو 15.8 مليار دولار في عام 2022. ومن المُرجح أن يرتفع هذا المبلغ مرتين إلى 30 مليار دولار على مدى السنوات القليلة المقبلة من خلال الاستثمارات التي تعطي الأولوية لقطاعات الطاقة والدفاع والتمويل وتجارة التجزئة والنقل. كما تسعى تركيا إلى زيادة نصيبها في الاستثمارات الضخمة التي يتم ضخها في مشاريع البنية التحتية والبناء في العديد من دول الخليج، مثل المشروعات الطموحة لدولة الإمارات في مجالات الفضاء والطاقة المتجددة والتكنولوجيا الحديثة، فضلاً عن مشروع "نيوم" العملاق في السعودية.
وبشكل عام، تُظهر المنتديات الاقتصادية التي تم تنظيمها، والاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي تم توقيعها بين تركيا من جهة، ودولة الإمارات والسعودية وقطر من جهة أخرى؛ وجود رؤية مشتركة بين الجانبين الخليجي والتركي لتطوير شراكة اقتصادية طويلة الأمد ومتنوعة خلال المستقبل القريب.
وعلى المستوى الاستراتيجي والدفاعي، جاءت النتائج التي أسفرت عنها جولة أردوغان لتؤكد مجدداً حرص الجانبين على تعزيز الشراكة الاستراتيجية بينهما. فخلال زيارته لدولة الإمارات، تم إعلان التوصل لاتفاق مشترك لإنشاء "لجنة استراتيجية عليا" بين الدولتين بحضور صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة "حفظه الله"، والرئيس التركي. كما تم توقيع مذكرة تفاهم بشأن التعاون الاستراتيجي في مجال الصناعات الدفاعية بين مجلس التوازن في دولة الإمارات ووكالة الصناعات الدفاعية في جمهورية تركيا، إلى جانب توقيع اتفاقية لتسليم المجرمين. أما التطور الأهم في هذا المجال، فتمثل في توقيع شركة "بايكار" للصناعات الدفاعية التركية، أكبر صفقة تصديرية لها لتزويد الجيش والبحرية في السعودية بطائرات مسيَّرة مسلحة من طراز "أقينجي"؛ وهي صفقة تتيح للرياض تحقيق تفوق واضح في العمليات العسكرية التي تقوم بها في البحر الأحمر وبحر العرب والخليج، كما ستعزز تركيا، بموجب هذه الصفقة، تعاونها مع المملكة في مسائل مثل التصنيع المشترك ونقل التكنولوجيا والتدريب والدعم الفني واللوجستي. في المقابل، من شأن تلك الصفقة أن تُعزز صناعة السلاح التركية، حيث بلغت صادرات تركيا الدفاعية عام 2022 ما مجموعه 4.3 مليار دولار، ومن المُستهدف أن تشهد هذا العام زيادة بنسبة نحو 50% لتصل إلى 6 مليارات دولار.
وعلى المستوى السياسي، لا شك أن هذه الجولة الأولى لأردوغان للمنطقة بعد إعادة انتخابه لولاية رئاسية جديدة في تركيا، أسهمت بشكل كبير في تقريب وجهات النظر تجاه العديد من الملفات الإقليمية، والتي كان تباين المواقف بشأنها في السابق سبباً من أسباب الخلاف والتوتر؛ وهو الأمر الذي سيسهم ليس فقط في تعزيز التعاون السياسي بين الجانبين الخليجي والتركي في المرحلة المقبلة، وإنما أيضاً في حلحلة العديد من الأزمات الإقليمية التي يؤدي فيها الطرفان دوراً مهماً، مثل الأوضاع في السودان وليبيا وسوريا، وغيرها. وبالتالي فمن شأن أي توافق سياسي بين تركيا ودول الخليج العربية أن يُسهم في تعزيز الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط برمتها؛ بالنظر إلى الثقل السياسي والاستراتيجي للطرفين، ودورهما الإقليمي المؤثر.
ومن بين الملفات المهمة أيضاً التي برز بشأنها التوافق، ملف العمل المناخي، حيث دعمت أنقرة جهود دولة الإمارات لتنظيم نسخة استثنائية من مؤتمر الأطراف "كوب 28"، فيما عبّرت دولة الإمارات عن تطلعها إلى مشاركة تركية فاعلة من أجل نتائج تصب في مصلحة العالم أجمع، خاصة أن ثمة تعاوناً بين البلدين في مجال العمل المناخي، ولديهما خطط طموحة في مجال الطاقة المتجددة وتحقيق الحياد الكربوني.
خلاصة الأمر، إن النتائج المهمة التي أفرزتها الجولة الخليجية للرئيس أردوغان من شأنها أن تنقل العلاقات الخليجية التركية من مرحلة تحسين العلاقات إلى الشراكة الاستراتيجية طويلة الأمد، وتؤسس لمرحلة جديدة عنوانها التعاون البناء لخدمة المصالح المشتركة للطرفين، وبما يعزز الاستقرار والسلام والتنمية في المنطقة.