جاء إعلان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، ينس ستولتنبرغ، يوم 10 يوليو 2023، عشية قمة الحلف التي عُقدت في العاصمة الليتوانية فيلنيوس يومي 11 و12 يوليو الجاري، أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وافق على إحالة طلب السويد بالانضمام للحلف العسكري إلى البرلمان التركي؛ ليمثل مُفاجئة للكثير من المُحللين. وجاءت هذه الموافقة بعد أن عَطلت تركيا انضمام السويد للحلف قُرابة عام على خلفية اتهامها لستوكهولم بتقديم دعم سياسي لحزب العمال الكردستاني المُصنف جماعة إرهابية.
ومن جانبه، صرح أردوغان، في خطابه عشية القمة، بأن موافقة بلاده على انضمام السويد لـ"الناتو" مشروطة بموافقة الاتحاد الأوروبي على انضمام تركيا له، مستنكراً عدم حصول أنقرة على عضوية الاتحاد، وانتظارها عشرات السنوات لتحقيق ذلك دون جدوى. وبالتالي بدا أردوغان وكأنه يريد أن يعقد صفقة مُقايضة مع الاتحاد الأوروبي في مقابل حصول ستوكهولم على مقعد بـ"الناتو".
وفي ضوء ذلك، فإن ثمة تساؤلات عدة حول الدوافع التي جعلت أردوغان يُعلن موافقته على انضمام السويد لحلف "الناتو"؟ وإلى أي مدى يُمكن أن تتحقق مطالبه بشأن حصول أنقرة على عضوية الاتحاد الأوروبي؟
دوافع الصفقة:
ربما أراد أردوغان بموافقته على عضوية السويد في "الناتو" أن يحقق عدداً من الأهداف الاستراتيجية، أهمها الآتي:
1- التخفيف من وطأة الضغوط على الاقتصاد التركي: تُعاني أنقرة من أزمة اقتصادية زاد من صعوبتها الزلزال المُدمر في فبراير الماضي. ومع توحش التضخم، وتراجع سعر صرف الليرة التركية التي وصلت إلى أدنى مستوياتها في يوليو بما يُعادل 26.1 ليرة لكل دولار أمريكي؛ تكون العُملة التركية قد فقدت ما يُقدر بـ28% من قيمتها في النصف الأول من العام الجاري.
وفي هذا الإطار، سعت أنقرة إلى تحقيق بعض المكاسب الاقتصادية، وأبرزها تحديث الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي، الذي دخل حيز النفاذ عام 1996، ليشمل عدداً من المنتجات الزراعية والصناعية والخدمات الإضافية. ففي ضوء تطور هيكل التجارة العالمي، ضغطت تركيا لسنوات على بروكسل من أجل تحديث بنود الاتحاد الجمركي، خاصة وأنها لا تُعامل كطرف مباشر في اتفاقات التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي والدول الأخرى، وترى أن مصالحها غير مُمثلة لأنه لا يتم إشراكها في صُنع القرارات الخاصة بالاتفاقات مع طرف ثالث نتيجة عدم عضويتها في الاتحاد.
ولذا استخدمت أنقرة موافقتها على انضمام السويد لـ"الناتو" ورقة ضغط من أجل تحديث الاتحاد الجمركي وتحرير تأشيرات مواطنيها مع دول الاتحاد، وهو ما تم التوافق بشأنه كما أكد البيان الختامي الثلاثي بين "الناتو" وتركيا والسويد في يوليو الجاري. وسوف يكون من شأن ذلك التخفيف من عجز الميزان التجاري لتركيا، وزيادة حجم تجارتها مع الاتحاد الأوروبي الذي يحتل المرتبة الأولى في قائمة صادراتها لعام 2022.
2- مراعاة المخاوف الأمنية التركية تجاه المنظمات الكردية: ففي مقابل أن تصير السويد عضو "الناتو" رقم 32، ضغطت تركيا عليها، ومن قبلها فنلندا، لإجراء تعديلات دستورية وقانونية تحظر أنشطة بعض الجماعات الكردية، التي تضعها أنقرة على قوائم الإرهاب، وتتهمها بتأليب الأقلية الكردية لديها، وتدبير الانقلاب الفاشل عام 2016. وفي هذا السياق، شهدت علاقات أنقرة وستوكهولم بعض مظاهر التوتر على خلفية اتهامات باستضافة السويد، التي يعيش فيها قرابة 100 ألف كردي، عدداً من العناصر الكردية التي تُهدد أمن تركيا. واستدعت أنقرة السفير السويدي لديها، احتجاجاً على حصول بعض المنظمات الكردية على تصريح حكومي للتظاهر أمام السفارة التركية في ستوكهولم، وقيامها بالتنديد بحكم أردوغان قُبيل الانتخابات الرئاسية التركية التي أُجريت في مايو الماضي.
ومن جانبها، سعت السويد إلى احتواء مخاوف تركيا الأمنية، ووافقت على مطالبها بتعديل الدستور وبعض القوانين الداخلية لحظر أنشطة وفعاليات عدد من المنظمات الكردية، وأبرزها حزب العمال الكردستاني. واتفقت مع أنقرة على مزيد من التعاون الثنائي في مجال مكافحة الإرهاب، وعدم دعم المنظمات الكردية التي تضعها تركيا على قوائم الإرهاب مثل حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكري المُمثل في وحدات حماية الشعب.
3- إبرام صفقة المقاتلات الأمريكية "F-16": قُبيل الحرب الروسية الأوكرانية، ساد التوتر في العلاقة بين أنقرة وواشنطن بسبب التقارب العسكري التركي الروسي، حتى إن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، وصف أنقرة بأنها "شريك استراتيجي مزعوم"، في يناير 2021. وجاءت تصريحاته العنيفة جَراء إصرار تركيا على شراء صواريخ روسية من طراز "S-400"، وتسلمها أول أجزاء من المنظومة الدفاعية في 2019، واختبارها في البحر الأسود في 2020. ونتيجة لذلك، وقّعت الولايات المتحدة عدداً من العقوبات الاقتصادية على هيئة الصناعات العسكرية التركية، كأول عضو في "الناتو" يُطبق عليه قانون "كاستا" الأمريكي، واستبعدت أنقرة من البحوث المُتعلقة بتطوير طائرات "فانتوم 35"، وحظرت بيع طائرات "F-16" المقاتلة لها.
وبعد اندلاع الحرب الأوكرانية في فبراير 2022، استطاعت تركيا تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة بعد أن أيدت قرار الأمم المتحدة بإدانة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، ووافقت على بيع مُسيّرات "بيرقدار" لكييف، وقامت بالوساطة في المباحثات بين الروس والأوكران، وأبرمت اتفاقاً لتصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود برعاية أممية في يوليو من العام الماضي. وفي ضوء هذه التطورات، قام وزير الخارجية التركي السابق، مولود جاويش أوغلو، بزيارة لواشنطن، كانت الأولى منذ وصول الرئيس جو بايدن للبيت الأبيض، في يناير الماضي، من أجل إعادة التباحث بشأن حصول تركيا على مقاتلات "F-16" وتحديث ما يمتلكه الجيش منها. وعلى مدار الأيام السابقة لقمة فيلنيوس، جرت اتصالات مكثفة بين وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، ونظيره الأمريكي، بلينكن، للتنسيق بشأن المطالب التركية لتوسيع "الناتو".
ويبدو أن مرونة تركيا بشأن انضمام السويد للحلف جاءت في إطار صفقة أكبر لتعميق الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة؛ بحيث تتغاضى واشنطن عن تحفظاتها بشأن علاقة أنقرة القوية مع موسكو، وسياساتها في شرق المتوسط وتجاه أكراد سوريا، بينما تحصل أنقرة في المقابل على صفقة المقاتلات الأمريكية. وبالفعل، أعلن مستشار الأمن الأمريكي، جيك سوليفان، على هامش قمة فيلنيوس، أن الرئيس بايدن يُرحب ببيع مقاتلات "F-16" لتركيا، وأن المفاوضات مع الكونغرس تتم على قدم وساق من أجل إقناع الأغلبية الجمهورية بتمرير هذه الصفقة.
عراقيل أوروبية:
تحسنت علاقات تركيا مع الدول الغربية في الآونة الأخيرة، غير أن الشرط الذي أثاره أردوغان بشأن انضمام بلاده للاتحاد الأوروبي مقابل عضوية السويد في حلف "الناتو" لم يُقابل باستحسان كبير. وعلى الرغم من تصريحات سوليفان بأن بايدن يدعم عضوية تركيا في الاتحاد، لكنه ربط ذلك بإجرائها مجموعة من الإصلاحات، وهو نفس المعنى الذي أشار إليه المستشار الألماني، أولاف شولتس. وفي أول رد فعل من الاتحاد، أوضحت المفوضية الأوروبية أن انضمام أنقرة يتوقف على سياساتها وحدها، وأنه توجد معايير موضوعية تحكم انضمام أي عضو جديد. وفيما يلي مجموعة من التحديات التي ربما تحول دون حصول تركيا على عضوية الاتحاد الأوروبي:
1- تقييم حالة الديمقراطية في تركيا: قد تكون الأوضاع السياسية في تركيا إحدى العقبات أمام عضويتها في الاتحاد الأوروبي، الذي أثار العديد من التحفظات بشأن سياسة أردوغان الداخلية تجاه الصحافة والمُعارضة بعد محاولة انقلاب 2016، وتوسيع سلطاته التنفيذية عبر استفتاء عام 2017. وفي 2019، قررت بروكسل تعليق مفاوضات انضمام أنقرة بعد انتقادات حادة لما وصفته بـ"سياسات تركيا القمعية تجاه المُعارضة والأقليات". وفي خطوة لم تُستخدم من قبل إلا مرة ضد أذربيجان، اتخذ الاتحاد الأوروبي قراراً تأديبياً ضد أنقرة عام 2021 بسبب رفضها الامتثال لحكم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان الذي قضى بالإفراج عن مُعارض تركي، يحمل الجنسية الفرنسية، يُواجه سجناً مؤبداً بتهمة تمويل انقلاب 2016. كما انتقد التقرير الختامي للاتحاد لعام 2022، ما وصفه بـ"حالة التردي الديمقراطي في تركيا"، وعبّر عن انزعاجه من انتهاكات حقوق الإنسان وتدهور استقلالية القضاء، على حد تعبيره.
وبالتالي قد يرى الاتحاد الأوروبي أن تركيا ما زال أمامها الكثير من الإصلاحات السياسية حتى تنضم إليه، حيث إن الاتحاد يشترط توفر مجموعة من الضمانات السياسية والدستورية، تُعرف باسم "معايير كوبنهاغن"، لضمان جودة الديمقراطية وحماية حقوق الأقليات في الدول المُتقدمة للعضوية.
2- العلاقات الاقتصادية بين تركيا وروسيا: يمكن القول إن تركيا أدارت علاقتها بالروس والغرب بشكل مُتوازن نسبياً بعد الحرب الأوكرانية. ومع ذلك، فإن عُمق العلاقات الاقتصادية بين أنقرة وموسكو لم يُرضِ أعضاء الاتحاد الأوروبي، خاصة في ضوء وثيقة المفهوم الاستراتيجي الجديد لـ"الناتو"، التي صدرت في قمة مدريد في يونيو 2022، ورأت روسيا أكبر تهديد يواجه أمنه. وبالتأكيد، لم يكن مقبولاً لأعضاء الاتحاد أن تُخالف أنقرة سياسات "الناتو"، وهي عضو فيه، في وقت يتعرض الأمن الأوروبي لتهديد غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية. وفي هذا السياق، أعرب مُنسق السياسة الخارجية بالاتحاد، جوزيب بوريل، في ديسمبر الماضي، عن قلقه بشأن الشراكة الاقتصادية بين الأتراك والروس، وأنها قد تُساعد موسكو على الإفلات من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
فمن جهتها، لم تنضم تركيا إلى سلسلة العقوبات الاقتصادية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على موسكو، واستمرت تدفقات الغاز الروسي تمُد أنقرة باحتياجاتها النفطية عبر خط أنابيب "السيل" التركي. وفي المقابل، رحبت موسكو بوساطة أنقرة في الحرب الجارية، وأجّلت بعض ديونها لشركة "غازبروم" المملوكة للدولة، وزادت حجم وارداتها من البضائع والسلع التركية. وبفضل تنامي حجم التجارة المُتبادلة بين البلدين، أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في أواخر العام الماضي، أن تركيا ستدفع رُبع قيمة احتياجاتها من النفط الروسي بالروبل وليس الدولار الأمريكي، مما يُساعد في تخفيف أزمتها الاقتصادية.
3- الخلافات بشأن سياسة أنقرة تجاه الأكراد: مع أن الاتحاد الأوروبي يُصنف حزب العمال الكُردستاني كمنظمة إرهابية، فإن تركيا تريد أن تحظى أغلب المنظمات الكردية في أوروبا بذات التصنيف، وهو ما يرفضه عدد من دولها. ومن المؤكد أن الاتحاد لا يزال قلقاً بشأن دور "جماعة الذئاب الرمادية" المُنتشرة في أوروبا؛ وهي ذراع عسكري لحزب الحركة القومية التركي الداعم لسياسات أردوغان. وقد انتقد الاتحاد الأوروبي أنقرة لتوظيفها هذه الجماعة ضد المُعارضين الأكراد. ومع تزايد أعمال العنف التي ارتكبتها الجماعة ضدهم، قررت بعض الدول الأوروبية حظرها، وأوصى البرلمان الأوروبي عام 2021 باعتبارها "جماعة إرهابية". ولم تتوقف انتقادات بروكسل لسياسة أنقرة نحو الأكراد في أوروبا وحسب، بل امتدت هذه الانتقادات لتشمل سياستها تجاههم في محيطها الإقليمي. ففي الوقت الذي دعمت فيه الولايات المتحدة وعدد من دول الاتحاد بعض الجماعات الكردية في سوريا مثل قوات سوريا الديمقراطية، ووحدات حماية الشعب، في مواجهة تنظيم داعش الإرهابي؛ قامت أنقرة بعدة عميات عسكرية ضد هذه القوات في شمال سوريا.
4- النزاع التركي مع قبرص واليونان في شرق المُتوسط: واجهت السياسات التركية في المنطقة انتقادات بروكسل الحادة بعدما قامت السفن التركية عام 2020 بالتنقيب عن الطاقة في مياه تابعة لدولتين عضوين في الاتحاد الأوروبي؛ وهما قبرص واليونان. ودعم الاتحاد الأوروبي موقف الدولتين في مواجهة تركيا، وانتقد البرلمان الأوروبي في مايو 2021 احتلالها شمال قبرص ونزاعها مع اليونان بشأن جزر بحر إيجه. ودعا الأطراف الثلاثة لإعادة التفاوض بشأن ترسيم الحدود البحرية والمنطقة الاقتصادية الخالصة بالاحتكام إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون أعالي البحار لعام 1982. وجدير بالذكر أن تركيا ترفض التوقيع على هذه الاتفاقية الدولية بالرغم من أنها ضمن تشريعات الاتحاد الأوروبي الواجب الالتزام بقواعدها للانضمام إليه.
رهانات أردوغان:
يُمكن القول إن الطريق ربما ما زال طويلاً أمام تركيا حتى تنتقل من وضع الدولة المُرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، الذي اكتسبته عام 1999، إلى أن تكون عضواً فيه. وقد يكون أردوغان يعلم ذلك جيداً، وإنما وضع ذلك الشرط الصعب في مقابل موافقته على انضمام السويد لـ"الناتو"؛ حتى يحصل على بعض التنازلات دون قيود أو مماطلة، وأهمها صفقة المقاتلات الأمريكية، وتحديث الاتحاد الجمركي مع بروكسل.
ولذلك، فالأرجح أن تلويح أردوغان بملف عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي مقابل عضوية السويد في "الناتو"، لم يكن أكثر من ورقة استخدمها للضغط على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لتحقيق بعض المُكتسبات الاقتصادية والعسكرية والأمنية. وجدير بالذكر أن البرلمان التركي، المُخَول بالتصديق على بروتوكول عضوية السويد، في عُطلة تمتد حتى شهر أكتوبر المقبل. ويعني ذلك أن حزب العدالة والتنمية الحاكم يستطيع حينها تعطيل انضمام السويد إذا لم يجد أردوغان تقدُماً في تحقيق هذه المُكتسبات.