أثارت عملية التمرد الفاشلة التي قامت بها مجموعة فاغنر الروسية، بقيادة زعيمها يفغيني بريغوجين، في 24 يونيو 2023، العديد من التساؤلات بشأن مستقبل نشاطات المجموعة في القارة الإفريقية، حيث تنتشر في عدة دول إفريقية، بنحو 5 آلاف مقاتل، ومن ثم الانعكاسات المحتملة للتوترات الراهنة بين فاغنر وموسكو على الدور الروسي في إفريقيا.
أبعاد دور فاغنر:
شكلت فاغنر إحدى أبرز أدوات روسيا في تعزيز نفوذها داخل القارة الإفريقية خلال السنوات الأخيرة، عبر صيغة تقوم على توفير الأمن مقابل الحصول على الثروات الطبيعية، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- تمدد فاغنر إفريقياً: بدأت شركة فاغنر الانخراط في القارة الإفريقية من عام 2018، عبر بوابة جمهورية إفريقيا الوسطى، والسودان، حيث أرسلت الشركة آنذاك مدربين عسكريين للدولتين، قبل أن تنخرط الشركة في العام التالي في ليبيا لدعم الجيش الوطني الليبي. وقد تبنت منذ البداية استراتيجية واضحة تستهدف توسيع نطاق انتشارها في إفريقيا، مستغلةً في ذلك الاضطرابات المتزايدة في منطقة الساحل الإفريقي، فضلاً عن ترنح النفوذ الفرنسي هناك.
وتشير التقديرات إلى امتلاك فاغنر حالياً نحو 1200 مقاتل في ليبيا، وحوالي 1000 آخرين في مالي، وقرابة 1800 في جمهورية إفريقيا الوسطى. ويقدر أن أنشطة فاغنر تمتد في نحو 23 دولة إفريقية من خلال تقديم خدمات مختلفة، على غرار موزمبيق وزيمبابوي وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغينيا الاستوائية، وبدرجة أقل الكاميرون.
2- الأمن مقابل الموارد: اعتمدت فاغنر في تغلغلها داخل إفريقيا على استراتيجية الأمن مقابل الموارد، حيث ركزت، في كثير من الأحيان، على الدول التي تمتلك موارد طبيعية كبيرة، بحيث تحصل الشركة الروسية على جزء من هذه الموارد مقابل توفير الأمن للدول التي تستعين بخدماتها، كما في حالة جمهورية إفريقيا الوسطى الغنية بالماس والذهب والنفط واليورانيوم.
وتجدر الإشارة إلى أن فاغنر لديها شبكة واسعة من الشركات التابعة لها، تصل وفقاً لبعض التقديرات إلى نحو 100 شركة تعمل في مختلف المجالات، لذا مارست الشركات التابعة لها أنشطة تجارية واسعة في الدول الإفريقية الموجودة بها، كما في نشاطها بجمهورية إفريقيا الوسطى في مجالات كالتعدين والأخشاب والمشروبات الكحولية وغيرها، فيما تركز فاغنر في السودان على النشاط التعديني، من خلال شركتها "أم إنفست"، كما تهتم المجموعة الروسية في ليبيا بالتمركز حول المنشآت النفطية بشرق وجنوب البلاد.
3- تعزيز النفوذ الروسي في القارة: هدفت موسكو إلى توظيف الشركة لتعزيز نفوذها في إفريقيا، وذلك على غرار مالي. وعلى الرغم من أن العديد من التحليلات أشارت إلى أن اهتمام فاغنر بمالي يرتبط بالأساس باحتياطات باماكو الهائلة من الذهب، فإنه، حتى الآن، لا توجد أدلة مؤكدة تدعم فرضية انخراط عناصر فاغنر في أنشطة تعدينية هناك، وهو ما يدعم فكرة أن هدف الشركة الرئيس داخل مالي يتمثل في توسيع النفوذ الروسي هناك. وبالمثل، فإن وجود الشركة في ليبيا يعكس بعداً استراتيجياً أكثر منه اقتصادياً، من خلال توظيف هذا الوجود في تعزيز مصالح روسيا في مواجهة الغرب، ومن ناحية أخرى استخدام ليبيا كبوابة رئيسة لموسكو نحو العمق الإفريقي.
دلالات مهمة:
يمكن أن يؤدي تمرد فاغنر إلى انعكاسات مباشرة على مستقبل الشركة في القارة الإفريقية، وكذا الدور الروسي هناك، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- طمأنة موسكو لشركائها الأفارقة: عمدت روسيا، من خلال وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، إلى طمأنة حلفائها في القارة الإفريقية حول العلاقات الأمنية والدفاعية بين الشركة وهذه الدول. ففي أعقاب فشل تمرد فاغنر، أجرى لافروف اتصالات بعدد من القيادات الإفريقية لتأكيد أن الأوضاع مستقرة في موسكو، فضلاً عن تأكيده بقاء قوات فاغنر في دولهم، واستمرار الدعم الروسي لحلفائها الأفارقة.
2- ارتباط وثيق بين فاغنر والكرملين: هناك حالة من التشابك بين الكرملين وفاغنر، ما يجعل فكرة فك الارتباط بينهما أمراً صعباً، إذ إن استمرار فاغنر في إفريقيا سيكون مستبعداً دون دعم من موسكو، إذ إن فاغنر تعتمد بشكل كبير على الدعم الذي تحصل عليه من وزارة الدفاع الروسية. ونظراً لأن كافة القيادات داخل فاغنر لا تدين بالولاء لقائدها بريغوجين، فإن ذلك قد يساعد الكرملين على استقطاب هؤلاء القادة، والحفاظ على نشاط الشركة الخارجي.
3- صعوبة استبدال فاغنر: يلاحظ أن عملية استبدال قوات فاغنر في إفريقيا لا تُعد أمراً سهلاً، إذ إن مقاتلي فاغنر في إفريقيا يتمتعون بالمهارة العالية والصلابة القتالية. كما أن قارة إفريقيا تشكل مصدراً رئيسياً لمكاسب الشركة، وكذلك الدولة الروسية، من خلال استغلال الموارد الطبيعية هناك، حيث تسيطر الشركة في حالة جمهورية إفريقيا الوسطى، على سبيل المثال، على منجم "نداسيما"، والذي توجد به احتياطات هائلة من الذهب تتجاوز قيمتها مليار دولار.
ومن ناحية أخرى، تتمتع الشركة بخبرة سياسية بالدول الإفريقية، وهو ما يستدل عليه من تقديمها لخدمات سياسية توفرها المجموعة لقادة الدول الإفريقية المنتشرة بها، حيث قامت فاغنر بحملات مؤيدة لرئيس إفريقيا الوسطى، فوستين تواديرا، قبل انتخابات 2020 التي فاز بها، كما ساعدت الشركة الروسية في عمليات التفاوض مع قادة الفصائل المعارضة هناك، وهو ما يعني أنها تتمتع بخبرة واسعة يصعب تعويضها من خلال أي مؤسسة أو شركة أخرى.
4- تمسك موسكو بنفوذها الإفريقي: تسعى روسيا لتوسيع حضورها في إفريقيا، بشكل أكبر، خلال الفترة المقبلة، خاصةً قبل القمة الإفريقية الروسية المرتقبة نهاية يوليو الجاري. وتجدر الإشارة إلى أن احتفاظ موسكو بنفوذها هناك يعتمد بالأساس على قدرتها على الحفاظ على الصورة النمطية التي لطالما عمدت روسيا لترويجها داخل القارة، والتي تستند بالأساس إلى فكرة قوة الدولة الروسية وقدرتها على توفير الدعم لقادة هذه الدول.
وعلى الرغم من تأثر هذه الصورة بمحاولة تمرد فاغنر، فإن موسكو سوف تعمل على إعادة ترسيخ هذه الصورة خلال الفترة المقبلة للحفاظ على نفوذها في القارة، خاصةً وأن دول القارة ستحتاج إلى الحفاظ على علاقتها أكثر بموسكو، في ظل الدعم السياسي الذي توفره الأخيرة لها في المنظمات الدولية، ولاسيما مجلس الأمن الدولي، ناهيك عن حاجتها إلى الخدمات الأمنية التي توفرها فاغنر.
انعكاسات محتملة:
أشارت تقديرات غربية إلى أن التمرد الفاشل الذي قادته فاغنر في روسيا نهاية يونيو 2023 سيكون له تداعيات على مستقبلها في إفريقيا، والدور الروسي هناك، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- إعادة هيكلة لفاغنر: هناك غموض يحيط بمستقبل زعيم شركة فاغنر، يفغيني بريغوجين. ويرتبط بذلك مصير الشركة نفسها، خاصةً مع إشارة تقارير أمريكية إلى خروج الآلاف من عناصر المجموعة مع زعيمها بريغوجين إلى بيلاروسيا، فضلاً عن دفع موسكو للعناصر الأخرى من فاغنر للانضمام للجيش الروسي، وهو ما يثير التساؤل حول من سيقود الشركة في إفريقيا، وهل ستظل تخضع لبريغوجين، أم أنها سوف تتعرض لعملية إعادة هيكلة تحت مظلة وزارة الدفاع الروسية.
وربما يكون السيناريو الأخير هو الأكثر معقولية. ولعل ما يدعم هذا الطرح التقارير التي رصدت اتجاه موسكو للاستحواذ على أصول فاغنر في الداخل الروسي، وانضمام عدد من مقاتلي الشركة إلى وزارة الدفاع الروسية. وبالتالي قد تسعى موسكو لفرض سيطرتها بشكل أكبر على الجزء المتبقي من فاغنر، وعملياتها الخارجية، بما في ذلك داخل القارة الإفريقية، وذلك من خلال إعادة تسمية المجموعة، أو تغيير الشركات المكونة لها، أو حتى جلب قيادة جديدة لإدارة المجموعة.
كما طرحت تقديرات إمكانية أن تعمد موسكو إلى تفكيك فاغنر إلى جيوش خاصة أصغر، وتوزيع قواتها بين هذه الجيوش، على غرار مجموعة "باتريوت" المرتبطة بوزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، والتي ينظر إليها باعتبارها المنافس الرئيس لمجموعة فاغنر، ولها انتشار محدود في عدد من الدول، أبرزها بروندي والغابون وإفريقيا الوسطى وسوريا واليمن، وكذا شركة "إينوب"، والتي يتزعمها القومي الروسي إيغور مانغوشيف.
2- استمرار فاغنر في إفريقيا: من غير المرجح أن يتم إخراج عناصر فاغنر من إفريقيا، سواءً باحتفاظ زعيم فاغنر، يفغيني بريغوجين، بالسيطرة على عمليات وأنشطة الشركة في إفريقيا، في إطار صفقة غير معلنة مع الكرملين، أو من خلال تحويل مسؤولية هذه العمليات إلى وزارة الدفاع الروسية، وذلك لأن فاغنر تعتمد بشكل كبير على الخدمات اللوجستية والتمويل المقدم من قبل الوزارة.
وعلى الرغم من محاولة تمرد فاغنر الفاشلة، فإن تقارير أمريكية رصدت زيادة في عدد قوات فاغنر المنتشرة في الساحل الإفريقي، ما يؤكد الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة بالنسبة لموسكو. ومن المرجح أن تتجه مالي لمزيد من الاعتماد على قوات فاغنر خلال الفترة المقبلة، خاصةً بعدما نجحت ضغوط المجلس العسكري الحاكم في دفع مجلس الأمن الدولي لعدم تجديد مهام بعثة "مينوسما" الأممية في باماكو. كما أن عملية تمدد فاغنر في بوركينا فاسو يتوقع أن تستمر، حتى وإن حدث بها بعض التأخير لحين الانتهاء من عملية إعادة هيكلتها. وفيما يتعلق بوجود فاغنر في ليبيا، فمن المتوقع أن تستمر مهامها كذلك.
3- سعي أمريكي لإضعاف فاغنر: قد تعمل الولايات المتحدة إلى توظيف الخلافات الراهنة بين موسكو وفاغنر لتقويض نفوذ الأخيرة في إفريقيا. وربما يدعم هذا الطرح الهجمات التي شنتها بعض الطائرات المسيرة المجهولة على مواقع فاغنر في شرق ليبيا خلال الأيام الأخيرة، وهو ما دفع بعض التقديرات إلى ربطها بواشنطن. كما نشرت صحيفة "واشنطن بوست" تقريراً دعت خلاله إلى ضرورة أن تعمد واشنطن وحلفاؤها الغربيون لاستغلال المتغيرات الراهنة لممارسة ضغط كامل على السلطات في مالي، لفك ارتباطها بروسيا.
وفي الختام، يلاحظ أنه على الرغم من الخلافات الراهنة بين موسكو وفاغنر، فإن غالبية التقديرات ذهبت لعدم ترجيح احتمالية سقوط شركة فاغنر في إفريقيا، حتى وإن تأثرت أنشطتها في بعض دول القارة لبعض الوقت، فموسكو غير مستعدة حالياً للتضحية بنفوذها في إفريقيا، والذي لطالما شكلت فاغنر أحد أبرز أدواته، لكنها ربما تعمل على تنويع أدواتها، وإعادة هيكلة نشاط الشركة في إفريقيا.