في تطور مفاجئ وغير متوقع، أشبه بالبجعة السوداء، جاء إعلان قائد مجموعة فاغنر الروسية، يفغيني بريغوجين، صباح يوم 24 يونيو، سيطرته على المقر العام لقيادة الجيش الروسي في مدينة روستوف ومواقع عسكرية من ضمنها المطار، مطالباً وزير الدفاع الروسي ورئيس الأركان بمقابلته في المدينة، وإلا فإنه سيتوجه إلى موسكو. وكان بريغوجين أكد في فيديو سابق عزمه الإطاحة بهما بعد اتهامهما بقصف قواته. وذلك في سلسلة من التصعيد على مدى الأشهر القليلة الماضية خرج خلالها بريغوجين بالعديد من الفيديوهات المصورة التي هاجم فيها قيادات وزارة الدفاع الروسية، بدت معها مواجهة ما قادمة بين المؤسسة العسكرية النظامية، والمجموعة المسلحة غير النظامية التي لطالما وظفها الكرملين لخدمة أهداف عدة في الجوار القريب والبعيد ولاسيما أوكرانيا وسوريا.
تداعيات عميقة:
وسط الكم الهائل من المعلومات والتقارير الإخبارية والصحفية، والتي لا يخلو بعضها من التهويل أو التهوين، وبغض النظر عن الدوافع وراء الخطوة، وهل هي طموح شخصي لبريغوجين أم عصيان مسلح يهدد بحرب أهلية، تبرز مجموعة من النقاط المهمة.
1. إن ما حدث يمس هيبة الدولة الروسية، والتماسك الذي سعت إليه ليس فقط على الصعيدين المجتمعي والسياسي، ولكن العسكري أيضاً، ولا يمكن التقليل من خطورة ما حدث، وإن بدا المشهد خالياً من اشتباكات مسلحة بين الجانبين. فقد دخل بريغوجين وقواته المدينة دون اعتراض أو مقاومة باعتبارها قوات روسية، بل والتقى مع نائب وزير الدفاع ونائب قائد قيادة العمليات بهيئة الأركان، مؤكداً أن ما يحدث “لا يعوق العملية العسكرية الخاصة”، وظهر مرتدياً الشارة البيضاء المميزة للقوات الروسية.
ولكن يظل هذا التطور يحمل في طياته الكثير من التهديدات، وذلك بالنظر إلى عدة أسباب، أهمها:
• قوة مجموعة فاغنر، التي تضم 25 ألف مقاتل على أقل تقدير، على درجة عالية من الكفاءة القتالية، ظهرت بوضوح في معارك باخموت، وهي مزودة بدبابات ومروحيات ومعدات عالية التقنية.
• أهمية مدينة روستوف، حيث تحتضن مقر قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية المسؤولة عن العمليات الروسية في الدونباس، ومن ثم تهدد سيطرة فاغنر عليها بشلل ولو نسبي للعمليات العسكرية الجارية في أوكرانيا. ويفسر هذا رد الفعل السريع للرئيس بوتين وخطابه الذي حسم كثيراً من الجدل حول توصيف ما قامت به مجموعة فاغنر الروسية ومؤسسها وقائدها بأنه “دعوة للتمرد المسلح”، و”خيانة وطعنة في ظهر روسيا وشعبها”، وأنهم “سيحاسبون أمام القانون وشعبنا”.
• التأثير النفسي في المجتمع الروسي، الذي ظل بعيداً عما يدور في أوكرانيا، ويمارس نشاطه بطريقة طبيعية، وذلك مع دعوة السكان في روستوف لالتزام منازلهم، وغلق الحدود بين روستوف ودونيتسك، ومحاولة بعض مواقع التواصل الاجتماعي تداول ذلك فيما يخص العاصمة موسكو وهو ما نفاه عمدة المدينة، إلا إن هناك إجراءات أخرى يتم اتخاذها منها حواجز التفتيش تثير مخاوف المواطنين.
2. إنها عملية روسية خالصة، فلم تبد أي جهة خارجية دعماً لبريغوجين، أو مسؤولية عما يحدث، وإن اعتبرتها كييف “فرصة”، إلا أنها لم تعلن أي تورط في الأحداث، كذلك لم توجه موسكو اتهامات لأي جهة أجنبية، هذا إلى جانب غياب أي ظهير شعبي أو سياسي لدعوة بريغوجين. وتم تكييف الأمر رسمياً ضمن عمليات مكافحة الإرهاب حيث أعلنت لجنة مكافحة الإرهاب الوطنية بجهاز الأمن الفدرالي الروسي عن فتح تحقيقات جنائية ضد بريغوجين، بتهمة “الدعوة للتمرد على السلطة”.
فرص محتملة:
رغم ما تحمله التطورات من رسائل سلبية وتهديدات، إلا أنها لا تخلو من “نصف مملوء” للكوب، وفرص يمكن للكرملين استثمارها، من أبرزها:
1. فرصة لتصفية مجموعة فاغنر، أو إعادة هيكلتها وقصر مهامها على الخارج الروسي، فقد أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن تنفيذ خطتها للسيطرة على جميع المقاتلين في جبهات القتال عبر تعاقدات مباشرة معهم في موعد أقصاه الأول من يوليو، وهو ما أكده الرئيس بوتين خلال لقائه بالمراسلين العسكريين يوم 13 يونيو.
وبموجب ذلك، سيحصل المقاتلون المتطوعون على جميع المزايا والضمانات التي تحصل عليها القوات النظامية بما في ذلك تقديم الدعم لهم ولعائلاتهم إذا أُصيبوا أو قتلوا أثناء العمليات العسكرية في أوكرانيا، أو في أي مكان آخر. ومثلت فاغنر معضلة في هذا الخصوص حيث إن أعداداً كبيرة من مقاتليها من الأجانب الذين يصعب دمجهم في القوات الوطنية الروسية، خلافاً لقوات “أحمد” الشيشانية التي هي من الروس، باعتبار الشيشان جزءاً من روسيا وإحدى وحداتها الفدرالية.
كما أن هناك العديد من الملاحقات لفاغنر واتهامات لها بانتهاكات كثيرة في عملياتها خارج روسيا، وإدماجها في القوات المسلحة الروسية قد يرتب مثل هذه المسؤولية رسمياً على روسيا، في حين أن الهدف الأساسي من تشكيلها كان إعفاء القوات النظامية من هذه الملاحقات.
ويضاف إلى ذلك شخصية بريغوجين وطموحه وكونه صعب المراس، فعقب نجاحات “باخموت” سعى بريغوجين إلى نيل منصب عسكري بشكل رسمي وقيادته المطلقة لمجموعته في الميدان دون التنسيق مع القيادة العسكرية، واتضح هذا جلياً من هجومه اللفظي الذي حدث خلال الأشهر الماضية ورفضه الانصياع للقيادة العسكرية الروسية، ورفضه توقيع العقد مع وزارة الدفاع والذي وقعته بدلًا منه “كتيبة أحمد” الشيشانية، والتي تسمح لوزارة الدفاع بالسيطرة الكاملة على جميع الوحدات المتطوعة، وعدم السماح لأشخاص خارج المؤسسة العسكرية من قيادة المجموعات القتالية، وقصر الأوامر والتعليمات العسكرية والخاصة بالتسليح على وزارة الدفاع فقط وهذا ما يرفضه بريغوجين بشدة.
ومن ثم فما حدث مناسبة للتخلص من فاغنر خاصة وأنها لم تعد تشارك في القتال في أوكرانيا وأنهت مهامها وقامت في مايو الماضي، بتسليم مواقعها في مدينة باخموت إلى قوات أحمد الشيشانية. يؤكد ذلك قيام الأمن الروسي بمداهمة مقر مجموعة فاغنر في مدينة بطرسبرغ، وتطويق المباني المرتبطة بها قرب جسر بلاجوفيشينسكي في المدينة، وإغلاق موقعها الإلكتروني وتجميد أرصدتها.
2. شحذ التأييد للرئيس بوتين والقيادة العسكرية، فخلال العمليات التي قادتها فاغنر، جذبت نجاحات بريغوجين واتهاماته المتكررة لقيادات وزارة الدفاع بالتقصير عن إمداده بالسلاح والذخيرة تعاطفاً مهماً وصار التخلص منها أمراً صعباً شعبياً، وما قام به يجرده من هذا التعاطف ويعيد تأكيد مركزية صنع القرار العسكري، إلى جانب التأييد للرئيس بوتين وقطع الطريق على جدل محتمل حول ترشحه للانتخابات الرئاسية مارس المقبل.
مسار الاحتواء:
على الرغم من تبني بريغوجين لخيار التصعيد في البداية، عبر رفضه الاستسلام، بل وذهابه إلى ضرورة أن يكون هناك رئيساً جديداً لروسيا، وإرساله إلى قافلة عسكرية قوامها 5 ألاف جندي إلى موسكو، مما عزز سيناريو الحرب الأهلية، فإن الأخير سرعان ما عاد إلى رشده، وأرسل أوامره إلى قواته بالانسحاب، وذلك بعد تدخل الرئيس البيلاروسي، أليكسندر لوكاشينكو، على خط الوساطة، وتوصله إلى اتفاق بين الدولة الروسية وفاجنر، تقضي بالعفو عن بريغوجين نفسه ونفيه إلى بيلاروسيا، بالإضافة إلى دمج بعض عناصر فاجنر في الجيش الروسي.
ويلاحظ أن استجابة بريغوجين يرتبط ليس فقط للصداقة التي تجمعه بالرئيس البيلاروسي، ولكن إلى شعبية بوتين الواسعة داخل روسيا، كما بات من الواضح أن الانشقاقات التي كان يعول عليها بريغوجين، سواء في المؤسسات العسكرية أو السياسية، لم تنجح، كما لم يستجب قطاع واسع من الشعب الروسي لطلب بريغوجين بالتظاهر، وهي كلها عوامل كشفت عن أن انقلاب بريغوجين مصيره الفشل، وهو ما جعله يفضل الوساطة البيلاروسية على احتمال القبض عليها، ومحاكمته بتهمة التمرد المسلح.