مثُل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في 13 يونيو 2023، أمام المحكمة الفدرالية في ميامي بولاية فلوريدا بعد توجيه 37 تهمة جنائية له، في لائحة اتهام تزعم بأنه كذب وخطط للاحتفاظ بعشرات الوثائق السرية، التي تمس الأمن القومي الأمريكي، والتي نقلها إلى مقر إقامته في فلوريدا بعد مغادرته البيت الأبيض عام 2021.
وفي المقابل، أعلنت وزارة العدل الأمريكية، في 20 يونيو 2023، أن هانتر بايدن، نجل الرئيس الأمريكي، جو بايدن، أقر بالذنب في 3 تهم فدرالية، اثنتين منها تتعلقان بمخالفات ضريبية، وأخرى تتعلق بحيازة سلاح، وذلك مقابل عدم ملاحقته جنائياً فيهما.
ملامح محاكمة ترامب:
تتمثل أبرز ملامح محاكمة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في التالي:
1- ليست المحاكمة الأولى: لا تُعد هذه المحاكمة الأولى لترامب، حيث خضع لجلسة استدعاء، في 4 إبريل 2023، بولاية نيويورك الأمريكية على إثر اتهامات جنائية ضده، تتعلق بدفع أموال خلال انتخابات عام 2016 لشراء صمت ممثلة الأفلام الإباحية، ستورمي دانيلز، وعارضة الأزياء، كارين ماكدوغال، بعد أن قالت التحقيقات إنهما كانتا على علاقة جنسية مع الرئيس السابق.
ووجهت المحكمة 34 تهمة جنائية إلى ترامب، من بينها اتهامات بالتآمر ونشر تصريحات تشمل تهديدات، ومحاولة تقويض نزاهة انتخابات 2016 وتزوير سجلات تجارية لإخفاء معلومات ونشاط غير قانوني عن الناخبين.
2- انتقادات لغياب الشفافية: لاقت محاكمة ترامب الكثير من الانتقادات من الأمريكيين والناشطين الحقوقيين، ولاسيما أنها لم تُذع على الهواء مباشرة مثلما حدث في محاكمات شهيرة عديدة أُجريت في الفترة الأخيرة، على رأسها محاكمة الممثل الأمريكي الشهير، جوني ديب، وزوجته آمبر هيرد، وزعم المنتقدون أن المحكمة الفدرالية تجاهلت التعديل رقم "6" في الدستور الأمريكي الذي يسمح بعلانية المحاكمات.
وعلى الرغم من هذه الانتقادات، فإن البعض يرى أن علانية المحاكمة قد تضر بالأمن القومي الأمريكي، لأنها تناقش وثائق تضم معلومات بشأن القدرات النووية لدولة أجنبية، فضلاً عن الخطط العسكرية للحكومة الأمريكية في حالة إعلان الطوارئ.
3- احتمال تسريع المحاكمة: تُعرف محكمة المنطقة الجنوبية لفلوريدا بأنها "محكمة صاروخية"، وهو تعبير عامي يستخدم للدلالة على المحاكم التي تبت في القضايا بشكل سريع، وبالتالي، لم يستبعد المراقبون استكمال المحاكمة قبل انتخابات عام 2024، مع التذكير بأن القاضية، آيلين كانون، التي تشرف على القضية هي من القضاة الذين عينهم ترامب، وتم اختيارها لهذه القضية بشكل عشوائي.
فضائح بايدن وابنه:
أدى الاتفاق المبدئي الذي أعلنت عنه وزارة العدل الأمريكية، في 20 يونيو 2023، بشأن إقرار هانتر بايدن بالذنب مقابل بقائه خارج السجن إلى وضع بايدن وابنه في مرمى نيران الجمهوريين، خاصة بعدما تم الكشف عن فضيحة أخرى تتعلق باستغلال هانتر لنفوذ والده في صفقات تجارية، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- صفقة لإسقاط التهم: توصل هانتر بايدن لاتفاق مبدئى مع المدعين الفدراليين للإقرار بأنه مذنب في جريمتين تتعلق إحداهما بالضرائب، والأخرى بحيازة السلاح، مقابل أن يوقف المدعون الفدراليون التحقيق الجنائي الذي أجرته وزارة العدل منذ فترة طويلة بشأن نجل الرئيس.
وفي رده على أحد الصحفيين، في 20 يونيو 2023، أكد الرئيس بايدن دعمه لابنه، إذ قال: "أنا فخور جداً بابني"، وإن رفض الرد على سؤال حول ما إذا كان شجع هانتر بايدن على قبول الإقرار بالذنب، كما أكد بيان للبيت الأبيض، في وقت سابق، أن الرئيس والسيدة الأولى "يحبان ابنهما ويدعمانه بينما يواصل إعادة بناء حياته"، في رسالة ضمنية للشعب الأمريكي بأن هانتر قد اتجه إلى تصحيح نهج حياته المليء بالفضائح والجرائم.
وسبق وأن أقر محامو هانتر بايدن، في فبراير 2023، أن جهاز الكمبيوتر المحمول، الذي كشف عن فضائح عديدة له، جنسية وأخرى تتعلق باستغلال نفوذ والده، والذي تركه في ورشة لإصلاح أجهزة الكمبيوتر هو بالفعل ملكه.
2- استغلال نفوذ والده: أبلغ غاري شابلي، وكيل خدمات الإيرادات الداخلية الذي قاد التحقيق في الشؤون الضريبية لبايدن، الكونغرس بأن نجل الرئيس استدعى والده، حينما كان يشغل منصب نائب الرئيس، للضغط على شريك تجاري صيني من خلال محادثة عبر "واتس آب"، وادعى أن بايدن والده كان في الغرفة بينما كان يعقد الصفقات.
ويبدو أن بايدن سعى إلى إخفاء ذلك، غير أن شابلي أخبر اللجنة الخاصة والتابعة لمجلس النواب، في مايو 2023، في شهادة تم الكشف عنها أواخر يونيو 2023، أن وزارة العدل ومسؤولين آخرين عرقلوا التحقيق في ذلك الأمر، وهو دليل إضافي على عدم حيادية وزارة العدل.
وحث السيناتور الجمهوري في الكونغرس الأمريكي، تيد كروز، مجلس النواب ذا الأغلبية الجمهورية، في 25 يونيو 2023، على النظر في إجراءات عزل الرئيس بايدن بسبب هذه الفضيحة. وحتى وإن لم ينجح الجمهوريون في ذلك، فإنهم سوف يستفيدون من إلقاء الضوء إعلامياً على فساد ابن الرئيس، بل وتورط بايدن نفسه في هذا الفساد في محاولة للانتقاص من شعبيته قبل الانتخابات الرئاسية.
3- تبريرات غير منطقية: يؤكد بعض الديمقراطيين أن جرائم الجنح التي يرتكبها المواطنون لا ينبغي أن تكون ذات أهمية مبالغ فيها. ومن ناحية أخرى، يسلط بعضهم الضوء على نزاهة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لأنه لم يتدخل في مجريات العملية القضائية، وفقاً لمزاعمهم، وذلك على الرغم من معرفته بأن المدعي العام الذي يتولى هذه القضية هو من ضمن من عينهم ترامب خلال فترة ولايته، وبالتالي، ربما يكون أكثر تشدداً تجاه نجله، غير أنه من الواضح أن هناك قطاعاً من الرأي العام يرى أن هانتر تمت معاملته بصورة اتسمت بالمحاباة نظراً لنفوذ والده.
تأثيرات لامتماثلة:
يستغل الجمهوريون قضية هانتر للتأثير في شعبية جو بايدن، بينما يوظف الديمقراطيون محاكمات ترامب في محاولة ثنيه عن استكمال السباق الانتخابي لعام 2024 للوصول إلى البيت الأبيض، ويمكن تفصيل ذلك على النحو التالي:
1- تسيس القضاء الأمريكي: يلاحظ أن الإعلان عن تسوية قضائية مع هانتر بايدن بالتزامن مع توجيه 37 تهمة جنائية إلى ترامب أثار غضب الجمهوريين، الذين يزعمون بأن نظام العدالة الأمريكي يكيل بمكيالين، وهو ما يدعم إدعاءات ترامب حول فساد منظومة العدالة الأمريكية.
فقد كتب ترامب على منصة التواصل الاجتماعي الخاصة به: "لقد قام بايدن ووزارة العدل الفاسدة بإزالة مئات السنين من المسؤولية الجنائية من خلال منح هانتر بايدن إعفاءً من المحاكمة. ويلاحظ أن رموز الجمهوريين قد تبنوا نفس موقف ترامب، فقد أكد رئيس مجلس النواب، كيفن مكارثي، أن الاتفاق مع هانتر يؤكد المعايير غير المتكافئة للنظام الأمريكي، متسائلاً عن كيفية أن يقر هانتر بأنه مذنب، ولن يقضي فترة في السجن.
وأكد رون ديسانتيس، المرشح الجمهوري الأوفر حظاً بعد ترامب، إنه "لو كان هانتر جمهورياً، لكان في السجن منذ سنوات"، بينما قالت نيكي هايلي، سفيرة ترامب السابقة في الأمم المتحدة، والمرشحة الجمهورية، إن الاتفاق "يثير فقط مزيداً من الأسئلة عن جرائم هانتر بايدن والمعايير المزدوجة للعدالة في حكومتنا الفدرالية"، وأخيراً، فإن تيم سكوت، السيناتور الجمهوري البارز، قال إن الاتفاق هو آخر مثال على "فقد الأمريكيين الثقة في وزارة العدل".
2- هجوم الجمهوريين على بايدن: سوف يكثف الجمهوريون هجومهم، خلال الفترة المقبلة، على التعاملات التجارية لهانتر بايدن، والذي استفادت شركاته من علاقات والده السياسية، وتورطت في علاقات مشبوهة مع أفراد من أوكرانيا والصين، وذلك في محاولة لتأكيد فساد بايدن نفسه.
ومن جهة أخرى، قد يلفت الجمهوريون الانتباه إلى أن هانتر يواجه محاكمة مدنية في أركنساس الشهر المقبل في نزاع حول مدفوعات إعالته لطفلة أنجبتها امرأة، في عام 2018، وأثبت الحمض النووي أنها ابنته، وذلك لتأكيد أن فضائح هانتر لا تنتهي، وأنه لم يتبن أي خطوات لتحسين مسار حياته، كما يزعم والده.
وما يساعد على هذا الأمر، أن أحد استطلاعات الرأي التابعة لمركز هارفارد للدراسات السياسية الأمريكية كشف عن أن 63% من الأمريكيين يعتقدون أن هانتر بايدن متورط في قضية غير قانونية أكبر بكثير، ويعتقد نحو 53% من الأمريكيين أن والده كان متورطاً معه بطريقة ما عندما كان نائباً للرئيس، وهو ما يعني أن هجوم الجمهوريين على هانتر سوف يلاقي قبولاً شعبياً، وهو ما قد يؤثر في شعبية بايدن.
3- تعزيز شعبية ترامب: عاش ترامب حياته كلها وهو يؤمن بأن أي ضجة إعلامية هي "دعاية جيدة"، وبالتالي، فإن مثوله أمام المحكمة في ميامي يُعد تجسيداً لهذه النظرية، فلا شك في أن ترامب يسعى إلى تحويل الملاحقة الجنائية إلى دعاية انتخابية له.
ولذلك، فإن الاتهامات الموجهة لترامب سوف تزيد من دعم الناخبين الجمهوريين له، إذ لا يزال مُتصدراً استطلاعات الرأي بين الناخبين الذين يعتزمون التصويت في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري بأكثر من 50%، متقدماً على أبرز منافسيه ديسانتيس بأكثر من 30 نقطة مئوية.
كما أن اتفاق العفو عن هانتر، على الرغم من توالي الفضائح المرتبطة به، بالتزامن مع تتالي المحاكمات لترامب عزز الاعتقاد العام بأن ترامب ضحية للاضطهاد السياسي والتسيس القضائي بفعل مؤسسات الدول العميقة. فقد أكد استطلاع لشبكة "سي أن أن" نُشر في 20 يونيو 2023، أن 71% من الأمريكيين يقولون إن السياسة أدت دوراً لا بأس به في صياغة العديد من الاتهامات ضد ترامب.
وفي الختام، يمكن القول إن الجمهوريين يسعون لاستغلال أزمات هانتر المتكررة، مدعين أن عدم محاكمته يعكس انحيازاً سافراً لصالح الحزب الحاكم، وفي المقابل، فإن الديمقراطيين أيضاً سيسعون إلى استغلال محاكمة ترامب لتشويه صورته وتقويض مساعيه للوصول إلى البيت الأبيض مرة أخرى، وسوف يحسم الصراع بين الجانبين الناخبون المستقلون، والذين يُشكلون نحو 40% من القاعدة الانتخابية، والذين سيحسمون موقفهم الانتخابي في ضوء ما سيتم الكشف عنه من أخبار حول محاكمة لترامب، أو فضائح لهانتر، لتحديد المصير المستقبلي للولايات المتحدة الأمريكية.