** نشر هذا المقال في دورية (اتجاهات الأحداث) الصادرة عن مركز المستقبل، العدد الثاني، سبتمبر 2014.
لم تتوقف حروب غزة منذ الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من القطاع عام 2005، فها هي الحرب الثالثة التي تشنها إسرائيل عليه، ولاتزال التساؤلات المعضلة تفرض نفسها في كل مرة.. ما الذي دفع حركة حماس وإسرائيل إلى تصعيد يبلغ حروباً بدت أحياناً ذات أهداف غامضة؟ ولماذا تنتهي عند وقف نار يسمح لكليهما بادعاء الانتصار وتحقيق أهدافهما؟ ومتى يشهد الشرق الأوسط حرباً باتت دورية بين الطرفين، يفصل بين الواحدة والأخرى عامان أو ثلاثة على الأكثر؟
ويبدو أن السيناريو بات محفوظاً في كل مرة، مع اختلافات بسيطة في التفاصيل، حرب يتبادل طرفاها المسؤولية، ثم أيام أو أسابيع من القتال وسقوط الضحايا، ثم ترتيب اتفاق تهدئة بوساطة مصرية أو من جانب طرف واحد أحياناً، ثم يتواصل الاحتلال الإسرائيلي ولا يتقدم الفلسطينيون خطوة للأمام في تحقيق أهدافهم الوطنية، وما يتغير فقط هو ميزان القوى السياسي بين حماس والسلطة الفلسطينية ومصر.
في هذا السياق تستهدف هذه الورقة بحث طبيعة المواجهات في غزة، هل هي صراع بحد ذاته، أم أنها نزاع ضمن صراع طويل يستعصي على الحل، ثم مواقف وحسابات إسرائيل وحماس وراء خوض ثلاث حروب في أقل من ست سنوات، وهل ينبئ المستقبل بتغير يطرأ على معطيات الواقع المحيط بهما ونمط المصالح الخاصة بكل منهما، على نحو يغريهما- أو يمنعهما- بعدم التورط مرة جديدة، ويدفعهما إلى نمط آخر من الاستجابات إزاء معضلة تضارب المصالح، بما يفضي في الحاصل الأخير إلى الجنوح نحو التهدئة أو الهدنة الدائمة؟ أم أن الحرب ستظل أمراً حتمياً يتجدد من آن لآخر طالما أن الصراع ذاته ظل مستعصياً على الحل؟
أولاً: بين الصراع والنزاع
يفرِّق الأكاديميون بين مصطلحي "الصراع" و"النزاع". ولعل ما وضعه "جون بورتون John Burton"، على أساس المدى الزمني والقضايا هو الأبرز في هذا الصدد، حيث يرى أن النزاعات هي "خلافات على المدى القصير من السهل حلها نسبياً". أما الصراعات فهي "مشكلات بعيدة المدى، عميقة الجذور، تشتمل على قضايا غير قابلة للتفاوض ومستعصية على الحل. وعلى الرغم من أن كلا النمطين من الخلافات يمكن أن يحدث بشكل مستقل عن الآخر، فإنهما متصلان؛ لأن النزاعات قصيرة المدى ربما توجد داخل سياق صراع أكبر وأعمق، فيما يماثل فكرة المعارك التي تحدث ضمن سياق أكبر، ألا وهو الحرب.
من هنا فإن النزاعات تشتمل على مصالح يمكن التفاوض عليها، وإمكانية العثور على حل يحقق جزئياً مصالح واحتياجات الطرفين. أما الصراعات فتشتمل دائماً على قضايا غير قابلة للتفاوض بشأنها بسبب أن الاختلافات الأخلاقية والقيمية عميقة، أو تدور حول الهيمنة والحكم، أو تضم مجموعة قضايا تتعلق بحاجات إنسانية رئيسية على رأسها (الهوية، والأمن، والاعتراف)؛ فجميع هذه القضايا غير قابلة للتفاوض، ولا يمكن التنازل عن قيم رئيسية أو مركزية أو هوية ذاتية يعتقد فيها كل طرف، لذا فالصراعات طويلة المدى حول هذه الأنماط من القضايا تستعصي على الحل عادة، ودائماً ما تنطوي على فترات متقطعة من التصعيد(1).
ويعرف كل من كوستانتينو وميرشانت Costintino and Merchant الصراع بوصفه خلافاً جوهرياً بين طرفين، فيما يمثل النزاع أحد نتائجه المحتملة، بينما تعتبر كل من (المصالحة، وتجنب الصراع، والاستسلام) مخرجات أخرى للصراع.
ويماثل هذا ملحوظة "دوجلاس يارن Douglas Yarn" الذي يرى أن الصراع أقرب إلى الحالة منه إلى العملية، حيث يعيش من لديهم مصالح وقيم وحاجات متعارضة حالة من الصراع، ربما تكون كامنة، أو لا يتم التعبير عنها في صورة نزاعات دوماً. عند هذه النقطة يمكن القول إن "الصراع يمكن أن يكون قائماً من دون نزاع، ولكن النزاع لا يمكن أن يحدث من دون صراع"(2).
وإجمالاً يوجد اتفاق عام على أن الصراعات المستعصية على الحل هي صراعات عميقة الجذور وممتدة وصعبة التسوية. إلا أن هناك مراحل من الصعود والهبوط في سيرورتها، فثمة مراحل يحدث فيها اشتباك أو قتال كثيف أو حتى حرب نفسية، وثمة مراحل أخرى تهدأ فيها حدة الصراع. وعليه يمكن التمييز بين مراحل الصعود والهبوط باعتبار كل مرحلة من التصعيد تعد بمنزلة نزاع (وليس صراعاً) يتم حله أو تسويته بشكل مؤقت.
ما سبق ينطبق على المواجهات الثلاث التي جرت في غزة منذ ديسمبر 2008 وحتى يوليو وأغسطس 2014، إذ يمكن الإشارة إلى ما يلي:
1 ـ إن ما يحدث في غزة من قتال كثيف، أو اشتباكات تتجدد على نطاق واسع بشكل دوري، ما هو إلا نزاعات تأتي ضمن سياق صراع ممتد، هو الصراع الفلسطيني ـــ الإسرائيلي. ولكون هذا الصراع لايزال مستعصياً على الحل، تتجدد موجات متعددة من التصعيد (النزاع) لكل منها مسبباتها ودوافعها، المباشرة وغير المباشرة، التكتيكية والاستراتيجية. فبينما أمكن التوصل في كل مرة إلى تسوية مؤقتة تحقق بعض مصالح الطرفين، فإن الصراع نفسه يراوح مكانه، ولا يجد طريقه نحو الحل الدائم أو التسوية النهائية.
2 ـ إن تلك النزاعات وإن كانت تأتي ضمن صراع واحد، إلا أنها تتفاوت فيما بينها بدرجة ما، سواءً في الفترة الزمنية التي استغرقتها، أو في خسائر الأرواح التي نتجت عنها، فضلاً عن النتائج التي ترتبت عليها.
وفي هذا السياق تعد عملية "الجرف الصامد" الأكبر والأخطر، إذا ما قورنت بعمليتي "الرصاص المصبوب 2008"، و"عمود السحاب 2012"، فكم القذائف التي ألقتها إسرائيل على غزة خلال حرب يوليو/أغسطس 2014 بلغ أربعة أضعاف ما ألقي خلال عملية الرصاص المصبوب، فضلاً عن أن المواجهات الميدانية خلال العملية الأخيرة أظهرت كيف أصبح مسرح العمليات مرتهناً لقواعد لعبة جديدة ومتغيرات مختلفة عما سبق.
ثانياً: حسابات حماس وإسرائيل
جاءت موجات التصعيد الثلاث السابقة في الفترة التالية لسيطرة حماس على قطاع غزة وانفرادها بالقرار فيه منذ منتصف يونيو عام 2007، وإبقاء الحركة على العمل المسلح كأداة لها الأولوية ضمن أدوات الصراع مع إسرائيل، مما كان له أثر عميق على خيارات الحركة الاستراتيجية والعملياتية. وانعكس ذلك بالتبعية على الاستراتيجية الإسرائيلية في مواجهة غزة. ولهذا فإن احتمالات قيام حروب أخرى على مسرح مواجهات غزة، تتطلب إمعان النظر جيداً فيما يتعلق بحسابات وتقديرات كلا الطرفين.
أ ـ حسابات حماس:
تتطلب حسابات حماس الوقوف على أبعاد معقدة بعض الشيء، أبرزها الموقف من التسوية السياسية، وما قد يطرأ عليه من تغيرات أو تحولات في المستقبل، ونمط التوظيف السياسي من حماس للعمل المسلح، وديناميكيات التهدئة لدى الحركة، حيث تتداخل تلك العوامل الثلاثة وتتشابك فيما بينها على نحو لا يسمح بالفصل، أو حساب معادلة كل عنصر على حدة.
فمن ناحية، لا يبدو أن حماس سوف تتجه قريباً نحو حسم التناقض بين ما هو استراتيجي وما هو تكتيكي في موقفها تجاه ملف التسوية، فلا هي قادرة على تحويل هدفها الاستراتيجي من تحرير كامل أرض فلسطين التاريخية، وتأسيس دولة إسلامية عليها، إلى برنامج سياسي عملي تلتزم به الحركة حتى النهاية، ولا هي قادرة على البناء على التحولات والتحركات التكتيكية باتجاه قبول ضمني لحل الدولتين، إذ يبدو أن عدم الوضوح والسياسات المزدوجة هو الخيار المفضل للحركة.
ومن ناحية ثانية، يتأثر قرار حماس بشأن التهدئة، بأربعة عوامل رئيسية، هي: انفتاح أفق سياسي جديد أمام الحركة (تغير في بنية الفرصة السياسية)، وضعف عسكري نسبي (تغير في قوة حشد الموارد)، وتحول في الرأي العام، وتحولات إقليمية تؤثر على إرادة حلفاء حماس أو تغير من المعادلات السائدة إقليمياً، فغالباً ما تعود قرارات حماس الخاصة بكسر التهدئة، وكذلك قراراتها بالدخول في تهدئة جديدة، إلى تضافر عدد من هذه العوامل وليس أحدها فقط.
ويمكن البناء على النواحي السابقة للتوصل للنتائج التالية:
1 ـ كان لانقسام السلطة بين الضفة وغزة منذ يونيو2007 أثره العميق على إمكانيات العمل المسلح لدى حماس. فقد فرضت ازدواجية المهام (المقاومة والسلطة) تحديات جديدة على الحركة تطلبت موازنة دقيقة لمسألة العمل المسلح. فمن جهة، احتاجت حماس إبقاء النشاط المسلح عند حد معين، لا ينخفض إلى حد التهديد بالخروج عن هويتها كحركة مقاومة، وبالتالي التأثير سلباً على تماسكها التنظيمي. وفي المقابل، احتاجت حماس إلى ضبط أنشطة العمل المسلح التي تمارسها فصائل المقاومة الأصغر في القطاع، وإبقائها تحت سيطرتها، أملاً في إمكانية ضبط توقيتات التصعيد مع إسرائيل، بما يتلاءم وخيارات الحركة؛ أي أن حماس احتاجت إلى المزاوجة بين العمل المسلح والتهدئة لتثبيت حكمها في غزة. مع ذلك، فإن هذه القيود لم تحل دون نشوب ثلاث حروب متتالية.
2 ـ أصبح الوضع الإقليمي الديناميكية الأكثر تأثيراً بعد صعود الإخوان المسلمين إلى سدة السلطة في مصر، على قرار الحركة بقبول التهدئة أو إنهائها. ولهذا لم يكن بإمكان حماس تجاهل حاجة "نظام محمد مرسي" إلى استمرار الهدوء، وعدم التصعيد في غزة، وحتى عندما فُرضت عليها المواجهة أثناء عملية "عامود السحاب في نوفمبر 2012"، تعاطت بشكل إيجابي مع الجهود التي بذلت لوقف إطلاق النار، ومن ثم نجحت القاهرة في مهمة الوساطة بين الطرفين بعد ثمانية أيام فقط من اندلاع المواجهة.
3 ـ أصبحت حماس بعد سقوط حكم الإخوان في مصر عقب ثورة 30 يونيو 2013، أمام واقع إقليمي متعارض بدرجة كبيرة جداً مع خياراتها ورهاناتها الاستراتيجية، على النحو الذي استدعى بالضرورة من قيادات الحركة إعادة تقييم الخيارات والسياسات. فعوضاً عن الالتزام باستراتيجية تعود إلى سبع سنوات تقضي بإعطاء الأولوية لعملية الحكم الحصري في غزة، من دون بذل أي جهد جدي لرأب الصدع مع حركة فتح، غيّرت حماس نهجها اليوم متجّهة نحو برنامج مختلف، وهو اقتباس نهج "حزب الله" اللبناني وزرعه في فلسطين، ومفاده مقولة معروفة هي (أضف الأصوات الانتخابية إلى سلاحك)، بما يعني الاندماج في النظام السياسي العام، مع الحفاظ في الوقت ذاته على جناحها العسكري، وبالطبع كوادرها في المجال الأمني، وإبقاء سيطرتها على غزة من خلال البيروقراطية المحلية التابعة لها (وظفت الحركة ما لا يقل عن 40 ألف شخص في أجهزة السلطة ومؤسساتها منذ استحواذها عسكرياً على القطاع)، وكذلك من خلال شبكتها الواسعة من المؤسسات الاجتماعية(3).
إذن فقد تغيرت حسابات حماس مع تغير الوضع الاستراتيجي لدى خوضها مواجهة ثالثة مع إسرائيل، فلم تتعلق حساباتها هذه المرة بـ "دولة غزة" التي أصبحت مسؤولية "حكومة التوافق"، وإنما لأنها تعلم أن نتائج هذه المواجهة ستحدد وزنها النسبي داخل النظام السياسي الفلسطيني، ومدى نفوذها في الساحة الفلسطينية مستقبلاً، ولعل الحركة كانت تأمل في أن تتمكن من خلال هذه المواجهة (وبمساعدة حليفيها قطر وتركيا) من إحداث تصدعات في جدار العزلة الإقليمية الذي يحيط بها بعد انهيار نظام الإخوان في مصر.
ب- حسابات إسرائيل:
تغيرت مقاربة إسرائيل تجاه حماس بعد سيطرة الأخيرة على قطاع غزة، من تنظيم "إرهابي" يمارس العنف مطلوب تفكيكه، إلى كيان معادٍ مطلوب ردعه - ربما أملاً في دفعه نحو الاعتدال – من دون الوصول إلى نقطة الانهيار الكامل للنظام هناك. وتعني هذه الرؤية أن "تل أبيب" خلال الفترة من عام 2008 إلى نوفمبر 2012 لم تكن معنية على الإطلاق بالانخراط في أي جهد لإسقاط حكومة حماس في غزة، حيث تأسست استراتيجية إسرائيل تجاه غزة خلال هذه الفترة على الآتي: ـ
1 ـ يمكن احتواء غزة من الخارج (لصغر حجمها)، لكن يصعب اختراقها من الداخل (لكثافتها السكانية العالية)، على نقيض الضفة الغربية التي يصعب احتواؤها من الخارج لحجمها الكبير، ولكن يسهل اختراقها من الداخل لكثافتها السكانية المنخفضة نسبياً.
2 ـ مثَّل الإبقاء على عنوان استراتيجي ثابت في القطاع يمكن ردعه والتفاهم معه مسألة حاكمة في تحديد سقف أية عملية عسكرية في غزة.
3 ـ العمليات البرية ليست حتمية، ويمكن للضربات الجوية والقصف المدفعي أن يحققا الغرض، إذ لا توجد مصلحة لإسرائيل في غزو غزة برياً؛ لأن هذا الغزو قد يفضي إلى وضعها بين يدي السلطة الفلسطينية، وهو الترتيب الذي لا تحبذه إسرائيل.
4 ـ بقاء الأوضاع على ما هي عليه لايزال خياراً ممكناً لإسرائيل، ولم يتجاوزه الواقع بعد، لكن وصول صواريخ حماس والجهاد إلى "تل أبيب" خلال مواجهة "عامود السحاب 2012"، قد أعاد الجدل بشأن فرضية احتواء غزة من الخارج(4).
ومع ذلك بدا آنذاك أن إسرائيل لا ترغب في تحقيق انتصار حاسم، والسبب في ذلك معضلة استراتيجية تتعلق بالنظر إلى الترتيب المستقبلي المفضل لإسرائيل في قطاع غزة، حيث أكد التردد الإسرائيلي في توجيه ضربة قاصمة لحماس في عملية "عامود السحاب" رغبة في ترتيب جديد خاص بقطاع غزة من خلال دور مصري في غزة، يقدم لإسرائيل حكومة حقيقية تستطيع أن تتفاوض معها.
وفي هذا السياق تتعين الإشارة إلى أن الخبرة الماضية تلقي الضوء على ثلاثة مسارات محتملة لمستقبل غزة، تتضمن العودة إلى وضع ما قبل مرحلة أو مرحلتين زمنيتين سابقتين، -1948 1967 أو 2005-1967، أو تعزيز الوضع الحالي ما بعد 2007.
لقد أحجمت حكومة نتنياهو خلال "عامود السحاب" عن توجيه ضربة قاصمة لحماس، وفضلت بدلاً من ذلك استغلال صعود الإخوان المسلمين في مصر، وبدا خيارها الأفضل في إدارة غزة يتمثل في المزج بين إطار ما قبل 1967 وحقيقة ما بعد 2005(5)، أي دويلة شبه مستقلة في غزة مرتبطة بحاضنة إقليمية هي مصر، بحيث تستجلب مصر "الإخوان" كعنوان للتفاوض، مع التسليم لحماس بالسيطرة الإدارية والأمنية على القطاع، وعلى أن تكون العلاقات "المصرية ـــ الحمساوية" كالتالي: فتح المعابر، وإغلاق الأنفاق، ووقف سياسة عسكرة قطاع غزة، وتأبيد التهدئة، ومن ثم تغيير الوضع الوظيفي لحماس، وإمكانية استغلال سيناء لاستيعاب كثافة غزة السكانية.
ومع سقوط نظام الإخوان في مصر، ومراكمة حماس لقدراتها العسكرية ووصول صواريخها إلى حيفا وتل أبيب، سقطت كل تلك الرهانات الإسرائيلية وتقوضت استراتيجية اتبعت خلال الفترة من 2008 إلى 2012، ليصبح مسرح المواجهات في غزة محكوماً بقواعد ومتغيرات مختلفة.
ثالثاً: حروب غزة.. إلى أين؟
يرتبط سؤال المستقبل بعاملين أساسيين، أولهما: دور الأوضاع الجديدة في غزة في إعادة بلورة الخيارات والاستراتيجيات الإسرائيلية. وثانيهما: استراتيجية حماس الجديدة بعد المصالحة مع فتح، وانعكاس ذلك على العلاقة بين غزة وإسرائيل، وعلى علاقات القوى داخل غزة في ظل ثنائية "السلطة ـ المقاومة".
من ناحية أولى، لا يرجح أن يؤدي تغير الموقف في غزة بعد اتفاق المصالحة "مخيم الشاطئ" الموقع في 24 أبريل 2014، إلى بسط نفوذ السلطة الفلسطينية في غزة، فحماس ستتعامل مع الرئيس محمود عباس من منطق التعاون الحذر، ولن تتخلى كتائب القسام عن سلاحها، ولن تخضع لإشراف السلطة بأي شكل، ولن تفكك حماس أجهزتها الاستخباراتية، وبعض الأمنية، بما يسمح لها بالحفاظ على استمرار سيطرتها على القطاع.
ومن ناحية ثانية، باتت آليات التهدئة ورفع الحصار مرتبطة بتعزيز مكانة السلطة في قطاع غزة، فهي المخولة بإعادة الإعمار، وحرسها الرئاسي ــ وليس حماس ــ سيتولى الحدود والمعابر، وهو ما يعني حضور كامل مؤسسات السلطة وأجهزتها الأمنية مجدداً بالقطاع، جنباً إلى جنب مع هيمنة حماس، مما سيجعل غزة تعيش حالة من "ازدواجية السلطة"، علماً بأن السوابق الفلسطينية مع "ازدواجية السلطة" انتهت كلها بحسم ذي كلفة عالية جداً (في الأردن قبل عام 1970، وفي لبنان بعد ذلك وحتى عام 1982، وعلى الساحة الداخلية لفترة قصيرة عامي 2006 و2007)، فجميع تلك النماذج انتهت إلى الحسم بعد نزاع بين حسابات الدولة ومتطلبات الثورة.
إن هذه الوضعية لن توفر وضعاً مريحاً لأمن إسرائيل من وجهة نظر قادتها، بما قد يجعل من اشتعال الموقف مجدداً أو اندلاع مواجهة رابعة أمراً يبدو حتمياً، خاصة مع تطور القدرات الصاروخية لحماس والجهاد؛ بمعنى أن استراتيجية الإسرائيليين في أي مواجهة قادمة لن تنتج ما سبق، بل من الجائز جداً أن تتبنى الاستراتيجية نفسها التي طبقتها في الضفة خلال عملية "الدرع الواقي مارس 2002" حينما احتاجت إلى تحقيق انتصار حاسم أثناء الانتفاضة الثانية، فدخل جيشها الضفة واقتحم الخنادق على عناصر المقاومة بهدف الاغتيال أو الاعتقال، واستولى مؤقتاً على المدن الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية.
إذن كيف سيدير الفلسطينيون أمر "ازدواجية السلطة" في المرحلة القادمة؟
الأصل أن كلاً من السلطة وحماس لديه مصلحة حقيقية في إبقاء "وهج" القضية الفلسطينية وصدارتها الأجندة الإقليمية والدولية، والأصل أيضاً أن وحدة البرنامج والاستراتيجية والمؤسسات، هو شرط مسبق، يؤمن الشعب الفلسطيني أنه من دونه لن يصل يوماً إلى الحرية والاستقلال، لكن الإقرار بهذه الحقائق لا يعني أن عناصر الاصطدام قد لا تتغلب في مرحلة من المراحل على محفزات الوحدة والتعايش. فحماس ستمضي في طريق بناء قدارتها العسكرية بشتى الأساليب، والسلطة بحكم تعريفها ومكانتها، وبموجب اتفاقات التهدئة وآلياتها، مكلفة ببذل كل جهد لمنع ذلك؛ الأمر الذي تزداد معه احتمالات "تجاوز" أحد الفريقين على الآخر والسعي لتطويعه.
ومع أنه صحيح أن سيناريو تعايش "السلطة ـ حماس" يصعب إسقاطه تماماً، على الأقل لمدة لعام قادم، لكن الخبرة الفلسطينية السابقة، وعمق الفجوات بين القطبين الفلسطينيين، واستمرار توظيف "الورقة الفلسطينية" ضمن صراع المحاور الإقليمية، والتربص الإسرائيلي الدائم.. كلها عوامل ترجح كفة سيناريو التصادم في مواجهة خيار التعايش.
إذن قطاع غزة ليس مرشحاً فقط لحرب جديدة بين إسرائيل والفصائل، ربما بعد عامين من الآن، وإنما يبدو مرشحاً كذلك، ربما قبل ذلك التاريخ، لاحتراب أهلي جديد، ووحدها انتفاضة الضفة الغربية التي يمكنها أن تغير جزئياً في تلك المعادلة، ذلك أن اشتعال المواجهة مع إسرائيل على نطاق واسع في الضفة وغزة، وربما داخل الخط الأخضر، ضمن انتفاضة سلمية، ستقطع الطريق على الحرب الأهلية أو تؤجلها على أقل تقدير، من دون أن يعني ذلك بشكل حتمي حماية غزة من مواجهة رابعة مع إسرائيل؛ لأن إسرائيل قد تلجأ للهروب إلى حرب ضد غزة في حالة الانتفاضة "الضفاوية"، لتصوير الأمر كأنه مواجهة بين دولتين وشعبين لا ظهورها كدولة احتلال تقمع شعباً أعزل يناضل من أجل حقوقه المشروعة.
المصادر:
1) Eileen Babbitt and Fen Osler Hampson, "Conflict Resolution as a Field of Inquiry: Practice Informing Theory", International Studies Review, vol.13, (2011), pp 46-57.
2) Brad Spangler, Heidi Burgess, The Difference Between Conflicts and Disputes, Beyond intractability, July 2012, http://www.beyondintractability.org/essay/conflicts-disputes
3) "إهود يعاري، " "حماس" على خطى "حزب الله""، معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، 3 يونيو 2014، http://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/hamas-opts-for-the-hezbollah-model
4) Hillel Frisch, "Hit Hamas Hard to Create a Different Strategic Balance Against Islamic Terrorism", BESA Center Perspectives, Paper No. 253, July 2014, http://besacenter.org/perspectives-papers/hit-hamas-hard-create-different-strategic-balance-islamic-terrorism/
5) Shmuel Sandler, "Israel’s Dilemma in Gaza, BESA Center, Perspectives, Paper No. 191, December 6, 2012, http://www.biu.ac.il/SOC/besa/docs/perspectives191.pdf